للدكتور طه حسين كتاب بعنوان ” مع أبى العلاء فى سجنه”. وتجمع بين الدكتور طه حسين و شاعر المعرة الفيلسوف مشتركات منها فقدان حاسة البصر وعمق الثقافة وبراعة التعبير عن مكنونات الأنفس وشيء من “اللا-أدرية” والضجر الخلاق! هذه المشتركات أقحمت الدكتور طه حسين عنوة فى عالم الشاعر الضرير أبى العلاء فرآه بعيون الخيال يتجول معه على رمال سواحل اللازورد البيضاء يستنشق معه العبير العليل ويحس معه نبض الحياة على الشواطئ الممتدة تسرى في الجسوم العارية وشبه العارية تبترد من حر الصيف . بل ورآه يشاركه التزلج منحدرا من قمم الألب البيضاء تلك التي تمنى محمد أحمد محجوب أن يكون شيبه موسميا في بياضه مثل شيبها (ثلوجها):
شاهقات الجبال في الأفق صرعى صاعدات مع الشعاع شعاعا
كلل الثلج هامها فتراءت كشيوخ خاضوا الزمان صراعا
ليت شيبي كشيبها موسمي يرفع الصيف عن صباه القناعا
وتلك أمنية بعيدة المنال لم يطلع علينا آدمي يزعم أنه قد نالها إلا بالأصباغ وحيل العطارين .وقد قال يائس مثلنا في جدوى ذلك ” لا يصلح العطار ما أفسد الدهر!” وقد بالغ المتنبئ مبالغة عظيمة حين أراد أن يقول لنا إن ” الولف كتال” كما نقول في العامية في فعل الالفة والإيلاف القوى بنا :
خلقت ألوفاً لو رجعت إلى الصبا لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
ألا يحدث عكس ذلك فنهرول , معاشر الشيوخ والكهول والعجائز, إلى حياض الشباب فرحين مستبشرين بمفارقة الضعف وخور القوى ووطأة الأمراض الممضة إلى الحياة والشباب والقوة؟ ألم يعص أبونا آدم ربه طمعا في خلود لا يبلى؟
أما عن قصتنا مع توفيق الحكيم فأقول قد أعارني الصديق الشاعر الدبلوماسي الشاب خالد فتح الرحمن كتابا لتوفيق الحكيم استعين به أنيساً على طول رحلة قمت بها. وعنوان الكتاب ” سجن العمر”. وقد طال عهدي بتوفيق الحكيم فقد قرأنا له فى ستينيات القرن الماضي ونحن صبية فى المرحلة الثانوية بعض كتاباته مثل ” يوميات نائب فى الأرياف” ” وحمار الحكيم” و”عصا الحكيم” وكتاب في مسرح اللا معقول يسمى ” يا طالع الشجرة” وعجبنا وقتها أن نجد في بدايته رجزا كنا نحفظه عن ظهر قلب قبل أن نطلع على الكتاب . يقول:
يا طالع الشجرة
جيب لى معاك بقرة
البقرة حلابة
تحلب تعشينى
بملعقة صينى
والملعقة انكسرت
ومشيت لحبيب الله
وأدانى حزام أخضر
ترى من أين جاءتنا وكيف حفظناها .. لا أدرى.
وآخر ما قرأنا له “عودة الوعي” وقد كان فى نقد تجربة جمال عبد الناصر فى الحكم.
وتوفيق الحكيم كاتب مسرحي يعشق المسرح عشقا جنونيا وقد تعثر فى دراسته كثيرا لأن همومه كانت منصرفة الى المسرح وكان يجد نفسه فى صحبة الفنانين أكثر مما يجدها فى أى مكان آخر. يحدثنا فى الأسطر التالية كيف عاد من باريس التي ابتعث إليها لنيل الدكتوراه خال الوفاض لم ينل ما ابتعث لنيله:
” وعدت إلى بلادي بالحقيبة ذاتها التي كنت قد حملتها معي وكان بها بدلتان وأربع فانلات وأربعة قمصان وستة مناديل . عدت بها جميعا لم ينقص منها شيء… كما عدت بصناديق خشبية مملوءة بما جمعت من كتب على مدى تلك الأعوام .. كل ذلك عدت به… ما عدا شيئا واحدا لم أعد به وهو ما ذهبت للحصول عليه: الدكتوراه في القانون… فان بطء الفهم عندي وواعيتى الضعيفة بالإضافة إلى أعباء الجهاد الثقافي الشامل الذي ألقيت بنفسي كلها في لجته, مع النهم الفكري الذي استولى علىّ أمام موائد الحضارة الكبرى…كل ذلك لم يترك لمثلى القوة والقدرة على حمل عبء آخر…”
والكتاب ليس قصة لحياة الكاتب كسائر القصص لكنه اضاءات دقيقة على المناخ الأسرى الذي ترعرع في أكنافه فشكل مزاجه وشخصيته وسلوكه العام. استطرد كثيرا وبعمق في تكوين أسرته الكبيرة والصغيرة بواقعية وصراحة يحسد عليها ليخلص في النهاية إلى القول إن شخصية أمه وأبيه وما تشرب به منهما على ما فيه من التباين والتناقض هو الذي شكل شخصيته وبني له “سجن العمر” الذي عاش فيه طوال حياته وهو يسميه ” تكوين الطبع” أما تكوين الفكر وهى حريته الوحيدة الباقية له خارج سجن الموروث العائلي والمجتمعى الذي شكل سلوكه. الحرية الباقية التي رام هي كما قال ” هي تفكيري وتكويني الفكري .. هنا كل حريتي… الإنسان حر في الفكر سجين في الطبع… ولست أدرى أهي مجرد مصادفة أن أكتب عن تكوين الفكر في ” زهرة العمر” قبل أن أكتب عن تكوين الطبع في ” في سجن العمر” …. إن زهرة عمرنا الفكر … وسجن عمرنا الطبع…”
قال في سياق الوصف الحسي لأبويه : ” كانت أسرة والدتي من أهل البحر ممن أطلق عليهم اسم ” البوغازية” ويظهر أن أصل هذه الأسرة من الترك أو الفرس أو ألبانيا… لا أدرى بالضبط, إن سحنة والدتي وجدتي وما لهما من عيون زرقاء تنم عن أصل غريب على كل حال. ولم أرث أنا وشقيقي هذه الزرقة ولا ما يقرب منها, لأن سحنة والدي الفلاح القح كانت فيما يبدو قديرة على صبغ بحر أزرق بأكمله.”
أمه كما قال كانت طاقة هائلة من الحركة والنشاط والجرأة. عاشت طفولة قاسية علمتها الجرأة على الناس والخوف من نفسها ومن المستقبل. حكي الحكاية التالية عندما نقل أبوه وكيلا للنيابة في المحلة الكبرى وكان ذلك في بداية حياته الزوجية كما روت له أمه:
” ذهبت العروس الى المحلة الكبرى. وما كادت تدخل بيت زوجها حتى صدمت. لم تجدهناك شيئا يؤكل. اللهم إلا علبة صغيرة بها قليل من السمن, قد أغلق عليها بالقفل والمفتاح كأنها علبة جواهر! وسألت زوجها عن مرتبه الحقيقي فقال : عشرة جنيهات. فصرخت من الفزع وقالت فقط؟! إن أهلها عند خطبتها قالوا” مرتبه أكثر من عشرين جنيها غير اللى يخش له”! فصاح بها :
” يخش لي؟ أنا وكيل نيابة؟! أيمكن لوكيل نيابة نزيه أن يدخل له شيء غير مرتبه الرسمي. ومع ذلك فالعشرة جنيهات مخصوم منها احتياطي المعاش.” وقال كانت أمه تحب الحلوى خاصة بعد أن برئت من مرض أقعدها زمانا. وكانت تختبئ لتستمتع بها وحدها وكان إذا رآها استعطفها فتعطيه قطعة وتقول له” خدها وروح فى داهية!” . تعود بعد ذلك حين يضبطها متلبسة وهى تزدرد الحلوى بعيدا عن الأعين يقول لها ” أدينى حتة وقول لى (روح فى داهية!) ”
أما والده فقد كان على العكس من أمه: ” لقد كان رحيما إنسانيا تحت مظهر جاد من الرزانة والاتزان.. لم يكن فياضا بالعاطفة جياشا بالشعور المتفجر كزبد البحر العاصف كوالدتي… فقد كانت له القدرة على أن يفصل عاطفته عن عقله.” وفى سياق هذا التناقض بين الوالد والوالدة يقول عن نفسه:
” وأمام هذا التناقض بين الوالدين ورثت أنا فيما أعتقد الحيرة بينهما… فأنا في الغالب أميل إلى الاقتصاد والإمساك في نقود أو كلمات ولعل هذا من أسباب تفضيلي المسرحية .. فهي فن اقتصادي بخيل .. الكلمات محسوبة فيها بدقة والوقت فيها مقيد والحيز فيها محدود لا محل فيها للإسراف والإفلات.. غير أنى أحيانا تظهر على نوبة انفلات خاطفة أو إسراف في القول والمال مفاجئ لا ألبث أن أفيق منه فأمسك ثم أنطلق ثم أمسك وهكذا…”
ومن أطرف فصول الكتاب الفصل (11) الذي خصصه لبحث كيف أنه فوجئ عند عودته إلى بيت الأسرة فى الإسكندرية كيف أن أباه ظل يغير ويبدل كل يوم فى هندسة البيت هدما وبناء وإزالة وإزاحة حتى خصصوا للبنائيين غرفة دائمة فى البيت :
” وانتهى الأمر بنا ببساطة أن صار البناءون والمبيضون مقيمين لدينا إقامة مستمرة لأن العمل لا ينتهي ولا يمكن أن ينتهي فاتخذوا لأنفسهم حجرة دائمة عند باب الحديقة يقطنون بها. يبيتون ويسمرون ويأتي لزيارتهم فيها الأهل والأقارب والأصدقاء, وكان ينزل إليهم فيها من بيتنا القهوة والشاي والغداء والعشاء بانتظام. وأصبح لهم رأى فيما يطبخ ويقدم إليهم من ألوان يومية. فيقولون: زهقنا من الملوخية والبامية. أطبخوا لنا اليوم (كشري) وأحيانا يقترحون” خللوا لنا خيار وفلفل..!” ويصفون الطريقة التي يحبونها للتخليل وصنع الطرشى.”
كان والده مثقفا موسوعيا لكنه شديد الثقة بنفسه أكثر مما يلزم قليلا ويبدو أنه لم يكن مؤمنا بالتخصص فى الميادين المختلفة ولا بالحكمة الشعبية “اعط العجين لخبازو ولو ياكل نصفه.” ولسان حاله يقول” ياكل السم!” وتلك الثقة الزائدة بالنفس آفة ضارة فى كل ميدان!
استوقفتني واقعة فى الكتاب وقع لي مثلها في طفولتي الباكرة. قال كان والده محبا للشعر يروق له شعر زهير ابن أبى سلمى فناداه يوما طالبا منه شرح معنى المصانعة فى معلقة زهير:
ومن لم يصانع في أمور كثيرة يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم!
قال ” فلم أوفق إلى إجابة صحيحة. وأين لمن كان في مثل سني وقتئذ أن يعرف حقيقة المصانعة فى الحياة وهو يجهل الحياة نفسها….فلما لم أجب بما يقنعه رفع كفه وضربني على وجهي ضربة أسالت الدم من أنفى.. وجاءت على الصوت جدتي وأخذتني إلى حجرتها .. وأنا ألعن ألمعلقات وأصحابها.. بل ألعن الشعر كله وكان من الطبيعي أن أحبه كما أحبه أبى.. ولكن الدم الذي سال من أنفى بسببه بغضه إلى نفسي مدة طويلة.. وكيف كان لي أن أحبه وقتئذ وبين وبينه دم مسفوك!” ترى ماذا صنع الذين يعرفون معنى المصانعة بمعارفهم؟!
طلبني أبى وأنا فى الصف الثاني في المدرسة الأولية لأقرأ له خطابا وصله من أحد أقربائه فى البلد وكنت تلميذا مبرزا وقارئا مجيدا لما يكتب طباعة. وكان الخطاب مكتوبا كتابة سيئة بقلم الكوبيا ورغم أن الورقة كانت مسطرة إلى أن سطور الخطاب كانت تتلوى صعودا وهبوطا كيفما اتفق وهو خال من النقط تماما فارتعدت فرائصي الصغيرة وتصبب عرقي فلذت بالصمت وأنا ممسك بالخطاب الذي بلل عرقي بعض أطرافه فأسال مادة الكوبيا اللعينة فهوى على الوالد رحمه الله بالنعال على وجهي وهو يسب المدارس والتعليم! ونادي على جار لنا كان يدرس في المرحلة المتوسطة في معهد أمدرمان العلمي فلم يستطع فك طلاسم ذلك الخطاب وقال له بشجاعة أن العيب في كاتب الخطاب شبه الأمي وليس فينا معشر القراء ولمحت سحابة من الأسف والشفقة تعلو وجه أبى علىّ إلا أنه استجمع جده وقال: أمشوا تروحوا وتجو بلا فائدة!( أي إلى المدارس.)
أستطيع أن ألتمس لوالدي رحمه الله ألف عذر ولا أكاد أجد عذرا للقاضي إسماعيل الحكيم والد الأديب الكبير وزميل فطاحله مثل أستاذ الجيل لطفي السيد في لطمه وجه طفل حتى تسيل دماؤه لأجل كلمة من الشعر الجاهلي استعصت عليه! عليهم جميعا وعلينا وعليكم شآبيب الرحمة والغفران!