الدهشة والفضول والقنوط أيضاً بسبب ما يجرى فى محيطنا الجغرافى والثقافى من نكوص وتراجعات إلى الوراء وراء العصبيات العرقية والمذهبية والطائفية والتقهقر إلى الشموليات المستبدة والبحث عن القيادات الأحادية الكارزمية فى هذا الوقت من العقد الثانى من الألفية الثالثة لميلاد السيد المسيح والإنسانية تحاول الإرتحال من ضيق الأرض إلى سعة كوكب المريخ, قادتنى جميعاً لحضور محاضرة فى مركز الدراسات الإستراتيجية و الدولية فى واشنطن فى الرابع من سبتمبر الحالى2013استهوانى عنوانها او بالأحرى عنوان الكتاب الذى هو”الأحزاب السياسية فى إفريقيا: موضع الإثنية فى تكوين الأحزاب”, قدم خلالها البروفسور المساعد بقسم السياسة المقارن ,ساباستيان إلشر, بجامعة لوفانا بلونينبيرغ بألمانيا كتابه هذا الجديد. وإفريقيا موضوع الدراسة هى إفريقيا جنوب الصحراء. قلت ربما كانت الأوضاع أفضل هناك فى جناحنا الآخر الذى درجنا مخطئين ألا نعيره كبير إهتمام.
والكتاب من 344 صفحة وهو يبحث بصفة أساسية تأثير الإثنية فى تكوين الأحزاب الإفريقية .والاثنية مصطلح إستبدل به مصطلح القبلية والقبيلة مثلما استبدلت لفظة (وثنى) ب (أرواحى) أى عابد الأرواح تجاوزاً لرمزية الأوثان التى تعبد زلفى لأرواح الأسلاف أو للخالق الأعظم الذى تؤمن به سائر الديانات وذلك درءاً لشبهة الإستخدامات القيمية التى تنصب الكاتب أو الباحث قيماً على عقائد الناس وأعراقهم ذماً ومديحاً, و إلتماساً للموضوعية أيضاً وإعترافاً وتسامحاً مع التعدد الثقافى والعرقى والدينى. ولا زالت بعض الكتابات تستعمل القبلية والإثنية كمترادفات. وبعضها يحصر القبلية فى الأرياف بينما يستخدم الإثنية لوصف المجموعات المتحدرة من اصل واحد والتى تعيش فى المراكز الحضرية.
وقد تناول المحاضر بالتفصيل قضية تكوين الأحزاب فى ثلاث دول إفريقية هى غانا وناميبيا وكينيا وبدرجة أقل تفصيلاً فى سبع دول أخرى هى تنزانيا, بوتسوانا, السنغال, زامبيا, مالاوى ,بروكينا فاسو وبنين. وجد الباحث أن بإفريقيا جنوب الصحراء خمسة أنماط من الأحزاب السياسية: أحزاب تقوم على عرقية واحدة وينتفى تلقائياً وصفها بالعرقية إذ لا توجد عرقيات أخرى أصلاً وبالتالى لا يكون مدار الصراع السياسى لديها على العرق, وأحزاب تقوم على تحالف عرقيات متعددة فى البلاد التى لا تغلب على مكونها العرقى قبيلة واحدة وأحزاب جامعة لكل المكونات , وأحزاب برامج وأحزاب تعتمد على شخصيات كارزمية لا غير. ويدلل بذلك على تعدد فى المكون الإفريقى للأحزاب أكثر مما هو معترف بوجوده فى مراكز الدراسات خارج إفريقيا.
أشار المحاضر إلى أن البلدان التى تتميز بوجود عرقية واحدة تنحو إلى إقامة أحزابها السياسية على غير العرقية ومثل لذلك بغانا وتلك نتيجة بدهية كما تقدم. أما كينيا فمثال لتحالف عرقيات متعددة بالتراضى نظراً لقوة وتعدد الإنتماءات العرقية وفى بلدان مثل ناميبيا لا تأثير للعرقيات على قيام الأحزاب السياسية وخلص إلى أن الإتجاه العام فى إفريقيا يسير فى إطراد نحو الخروج من إسار الإثنية والتوافق على مرجعيات أخرىلا تستند إليها ووصف ذلك بانه تطور هام وأن المسار السياسى الإفريقى فى مجمله أفضل مما يشاع عنه خارج إفريقيا . ولما كان من الصعب الإعتماد على دراسة واحدة فى ترسيخ قناعات فى أمر شائك كموضوع الإثنية والسياسة فى إفريقيا والبناء عليه, حاولت الإستئناس بأبحاث أخرى فى هذا الصدد فاطلعت على دراسة أعدها المعهد الألمانى للدراسات الدولية عن موضوع الإثنية والأنظمة الحزبية فى إفريقيا الفرانكفونية جنوب الصحراء والتى شملت بنين ومالى والنيجر وبوركينا فاسو خلصت إلى ذات النتيجة بأن الإثنية ليست هى العامل الحاكم فى تكوين الأحزاب ولا فى إتجاهات الناخبين. كذلك أطلعت على عرض هارنى كليقمان من جامعة هارفارد لكتاب كروفورد يانق “الإثنية والسياسة فى إفريقيا ” وهو (أى يانق) ينحو ذات المنحى بان الإثنية ليست هى العامل الحاسم فى تكوين الأحزاب فى إفريقيا وأن الإثنية كرسها الإستعمار الأوروبى فى القارة وأنها كانت قبله فضفاضة ومتغيرة وأنها اليوم أقوى مما كانت عليه قبل 150 عاماً لكنها تتراجع كعامل فى تكوين الحزاب السياسية. ويرى أن تراجعها اليوم مرده إلى كون أن قوتها ليست أصيلة وأن الإستعمار كان يحرص عليها وأنها مثلاً ليست بذات الحدة والشوفونية الموجودة اليوم فى مناطق فى أوروربا كالقوقاز والبلقان مثلاً.
والشاهد ان قيم الديمقراطية يمكن أن تنطلق متدرجة من الموروثات الثقافية مهما بدت عائقاً يصعب التغلب عليه فهناك إستحالة فى القفز فوق المراحل. لكن الصبر والتركيز على المشترك من المصالح والقيم يرسخ قيم التسامح وإحترام الآخر فى إطار يعلى من الصالح العام المحسوس لجميع المكونات. ويبرز هنا أهمية التخطيط التعليمى كأداة فعالة فى تكثيف وتقوية المشتركات بالإضافة إلى التخطيط الثقافى والإعلامى المساند للعملية التعليمية فى ترقية الحس الوطنى المشترك.
وفى عدد سبتمير وأكتوبرمن العام الحالى 2013 من مجلة “شؤون خارجية” المعروفة يروى” روشير شارما”وهو أحدكبار الإختصاصيين الإقتصاديين فى مؤسسة مورقان إستانلى المصرفية المعروفة ,تحت عنوان ” صعود بقية أقاليم الهند: كيف أصبحت الولايات محركات للنمو؟”قصة نجاحات جديدة تحققها الهند تتمثل فى تطور الفيدرالية الهندية المطرد المتمثل فى نهضة الأقاليم والولايات: مكونات الإتحاد الهندى بعد تجاوز ما كان يعرف ب “ترخيص راج” والذى كان هو أداة التخطيط المركزى للإقتصاد الذى ربما كان ضرورياً بعد الإستقلال لمنح الأولوية لمحاربة الفقر المدقع الذى كانت تعانى منه البلاد والذى جعل المركز يهيمن على الفعل الإقتصادى إلى درجة تحديد مشروعات التنمية أين تكون وماذا تنتج بالإضافة إلى تحديد الرسوم والضرائب فى كامل التراب الهندى ولذلك كان الناتج القومى ضئيلاً لايتجاوز ثلاثة فى المائة. كما أن المركزية القابضة تلك كانت تخوفاً من إنفراط عقد البلاد المتعددة العرقيات والديانات والألسن وهى خارجة للتو من قبضة الإستعمار البريطانى رغم أن ذلك نفسه كان هو السبب فى تقسيم الهند بإغفال أشواق الأقلية المسلمة الكبيرة فى الشراكة فى الثروة والسلطة كما ذكر وزير الخارجية الأسبق(جاسوانت سنج) فى كتابه الذى أثار الجدل عن محمد على جناح مؤسس باكستان وهوما فصلنا فيه عند استعراض ذلك الكتاب فى مقالة سابقة. لكن بعد عقود من الإستقلال والتجريب إعتراف المركز باهمية الأقاليم والولايات لدرجة دفعت رئيس الوزراء الأسبق (ناراسيما راو) إلى القول إن المركز مجرد “وهم وأن الولايات هى الحقيقة”. وساهم تطور وسائل الإتصال الحديثة فى العقد الأخير من القرن العشرين فى تمكين الهنود عبر الوسائط من الإطلاع على الطفرة الإقتصادية فى بلدان كالصين وغيرها وحفزهم ذلك على البحث فى وسائل ترتقى بأوضاعهم البائسة وتوفر لهم رغداً من العيش وتطوراً. وهكذا شهدت الولايات الجنوبية فى الهند طفرات إقتصادية مذهلة فى السنوات الأخيرة ثم تبعتها ولايات فى الوسط والشمال مؤخراً بقيادة رؤساء حكومات شباب فى تلك الولايات ظل نصفهم يفوز فى الإنتخابات لأكثر من مرة محتفظاً بمنصبه على مدار عقد كامل لما يتصفون به من التصميم والحيوية حيث حققت ولاياتهم معدلات تنموية كانت حلماً بعيد المنال. وتوشك هذه التطورات أن تتجاوز قيادات حزب المؤتمر الهندى المسنة فى نيودلهى بل عائلة جواهر لال نهرو التى ظلت فى سدة الحكم غالب تأريخ الهند المستقلة. ويشير الكاتب إلى أن الإنتخابات القادمة فى مايو من العام القادم ستشهد نحو 150 مليوناًمن الناخبين الجدد لم يشهدوا قسوة نظام الطبقات الذى كان يحرم دخول المنبوذين والطبقات الدنيا فى سلم التراتيبية الهندوسية للمطاعم ودور العبادة ووسائل النقل الذى كان سائداً حتى الثمانينيات من القرن العشرين. ويزعم أن الإعتبارات الدينية والعرقية قد تضاءلت مع وجودها وأن الإعتبارات الإقتصادية والحق فى البحث عن الحياة الكريمة وتحقيقها قد حل محلها خاصة حيث الطفرات الإقتصادية بعيدا عن المركزوالتى تحققت على أيدى رؤساء حكومات ولائية من جيل أصغر سناً من أولئك الشيوخ فى المركز فى دلهى الجديدة وأنه من غير المستبعد أن تشكل أحزابهم الولائية النشطة متحالفة , الحكومة المركزية القادمة لعموم الهند. بقى أن نعلم أن الهند اليوم هى أكبر منتج للألبان فى العالم كما أنها تصدر الحبوب بانواعها والبقوليات واللحوم والسكر بالإضافة إلى الصناعات الثقيلة المختلفة كما أصبحت قبلة للسياحة الطبية ووجهة لها حتى من دول أوروبا والولايات المتحدة مع قدرتها على إطعام وتعليم ورعاية عدد سكانها الذى بلغ مليار وثلاثمائة مليون نفس فضلاً عن خمسة بليون دولار تقدمها كل عامين كمنحة لدول الإتحاد الإفريقى لمشروعات التنمية. وقد ظلت رغم صعوبات عديدة تواجهها ديمقراطية راسخة يشار إليها بالبنان.
ونسوق الهند كمثال يحتذى لا الولايات المتحدة مثلاً لأن الهند سبقتنا بتسع أعوام فقط بتحقيق الإستقلال بل إن السودان تبرع لها بمبلغ ستة ملايين جنيه استرلينى عام 1957 لبناء الأكادمية العسكرية (الكلية الحربية) التى يحمل جزء معتبر منها اليوماسم (مربع السودان) فى مدينة بونا وتلك هدية لا يزال قدامى المحاربين الهنود والساسة يذكرونها بالعرفان للسودان والسودانيين. والهدية أو المنحة دليل على أن إقتصاد السودان كان أفضل من صنوه الهندى يومئذٍ. ولأن الهند شديدة الشبه بنا مناخاً وبشراً وتنوعاً يفوق تنوعنا حيث بها 34 لغة رسمية منها 13 عشر مكتوبة على الأوراق النقدية و40% فقط من سكانها يتكلمون اللغة الرسمية الأولى (هندى) ! فضلاً عن آلاف الديانات والمعتقدات والأعراق .ترى هل نتمكن نحن من تطوير نظامنا السياسى إلى إتحاد فعال يحفظ الوحدة فى إطار تعدد خلاق يحول الحساسيات العرقية والجهوية إلى حراك سياسى سلمى يتمثل فى قيام أحزاب ولائية تستثمر مزايا أقاليمها الإقتصادية سلماً للنهضة بمناطقها وذلك بحصر إختصاصات المركز فى مجالات بعينها كالتعدين مثلاً وتوفير الطاقة وتطوير البحث فى مصادرها الجديدة والمتجددة وحصاد المياه ورعاية البيئة بالإضافة إلى مهام الدفاع والأمن والعلاقات الخارجية . ذلك يستلزم إعادة النظر فى التقسيم الإدارى الحالى للبلاد وفقاً للجدوى الإقتصادية كجعل مكونات الإقليم الأوسط السابق- دون التقيد الصارم بحدوده السابقة- ولاية واحدة تدار بمرونة تجعل من الولايات الحاليةالتى قامت على أنقاضه , مقاطعات تدار بوحدات منتخبة .ويترك أمر مشروع الجزيرة وريعه لهذه الولاية الجديدة الكبرى. ودمج الشماليتين لإنتاج القمح والفاكهة وجعل ولايات الغرب لتصنيع اللحوم والألبان وإنتاج الصمغ العربى وتسويق ذلك مباشرة فى الأسواق العالمية و على ذات النسق يعاد النظر فى ولايات الشرق الحالية وهكذا مما يقدر على التفصيل فيه المختصون من أهل الإقتصاد . ومن يدرى لعل مثل هذه التدابير التى تفضى لقيام نظام إتحادى متين ومنتج قد تهيئ مستقبلاً لعودة طوعية للجنوب ولو فى إطار كونفدرالية فعالة تضم البلدين من جديد..
هذه أفكار نطرحها كنقاط فقط للحوار والتداول إنقدحت فى الذهن بفعل ما اطلعنا عليه فى شأن النجاحات الإفريقية والهندية المشار إليها ولعلنا بذلك نحيل الطاقات السالبة من المرارات والسخائم إلى طاقات منتجة تتجاوز واقعنا البئيس الراهن. والحوار والتداول بحاجة إلى السمو فوق الخصومات وحظوظ الأنفس والتى كبرت وتعاظمت حتى باتت شاهقة تكاد تبلغ عنان السماء مع أنها فى حقيقة الأمر جميعاً صغيرة وحقيرة مهما كبرت إذا ما قيست بقدسية بقاء الوطن و حق أهله فى الحياة والكرامة الإنسانية , وقد حان الوقت لهدمها من القواعد إن أريد للبلد أن يبقى ولأهله أن ينعموا بالحياة اللائقة كسائر البشر المتحضرين.