قبل أسابيع قليلة خلت صدر كتاب ضخم من 669 صفحة من القطع الكبير يحمل غلافه صورة حسنة لمحمد على جناح مؤسس دولة باكستان وهو بعنوان:” جناح: واستقلال الهند المنقسمة” ومؤلف الكتاب سياسى ضليع من الحزب الوطنى المحافظ ” بهاراتا جاناتا” وقدسبق له أن تقلد عددا من الوزارت الهامة ,الدفاع والمالية و كان آخرها وزارة العلاقات الخارجية هو السيد( جاسوات سينق). ولما انتشر خبر الكتاب وقبل تدشينه ووصوله الى المكتبات نشط البركان الساكن وحدث ما يشبه الزلزال المدمر لأن الكتاب وصف مؤسس باكستان بالعظمة وقال انه لا ينبغى أن يحمل تبعات تقسيم شبه القارة الهندية الى عدة دول وحده وانما قيادات حزب المؤتمر مثل جواهر لال نهرو ووزير داخليته أثناء فترة الحكم الذاتى( ساردار باتيل) تتحمل قسطا من تلك التبعات. ولم يستثن قائدا سوى المهاتما غاندى الذى عرض أن توكل رئاسة الحكومة الهندية لمحمد على جناح تفاديا لتقسيم الهند. وكان حزب بهاراتا الذى يعد مؤلف الكتاب من قياداته العليا فى حالة انعقاد لتدارس أسباب خسارة الحزب للانتخابات الأخيرة فسارع الى طرد المؤلف من الحزب وسارعت( ولاية قوجرات) التى تحكمها حكومة محافظة من الحزب المذكور الى حظر بيع الكتاب فى كامل ترابها. والحجة التى استند عليها الحزب فى قرار طرد المؤلف هى ذات الحجة التى استندت اليها ولاية قوجرات وهى أن الكتاب قد أساء الى باتيل أحد منظرى ايديولوجية(هندوتفا) أى الوطنية الهندية المستندة الى التراث الهندوسى وهى الايدولجية التى يقوم عليها برنامج حزب بهاراتا جاناتا المحافظ ذلك رغم أن الرجل(ساردار باتيل) كان قطبا فى حزب المؤتمر المصنف فى يسار الوسط . تداعيات طرد مؤلف الكتاب من حزب يعد أحد مؤسسيه تصدرت صفحات الجرائد والمجلات الهندية لأسابيع واستقال عضوان آخران فى الحزب تضامنا مع المؤلف وانحازت غالبية الكتاب والمعلقين الى جانبه ثم سارعت المحكمة العليا لولاية قوجرات الى اعتبار حظر الكتاب مخالفا للدستور وسرعان ما تصدر الكتاب قائمة مبيعات الكتب.
وليس من أغراض هذه المقالة الخوض فى شؤون داخلية تخص بلدانا تربطنا بها أواصر الصداقة هى الهند والباكستان وبنغلاديش سيما وأن واقعة تقسيم شبه القارة الهندية الى هذه الدول الثلاث من الأمور البالغة الحساسية وليس أدل على ذلك من العاصفة التى أثارها مجرد صدور هذا الكتاب بعد أكثر من ستين عاما مضت على قرار التقسيم. لكنى رجوت أن يكون فى استعراض فصول الكتاب كما هى والجدال العاطفى والعقلانى أيضا الذى اشتملت عليه من والرؤى المتباينة حول صواب ذلك القرار (قرار تقسيم الهند الى دولتين : الهند وباكستان) أو عدمه وفرص الحؤول دون وقوعه حينئذ, حافزا للتأمل لما نحن مقبلون عليه بعد حين يكون بعده السودان كما هو كائن اليوم أو لايكون وأخذ العظات والعبر والدروس قبل أن يقع الفأس على الرأس خاصة وأن تاريخنا المعاصر ظل متأثرا بالهند رغم بعد المسافات فنضالنا السياسى قد تأثر بالحركة الوطنية الهندية اذ جاءت تسمية “المؤتمر العام للخريجين ” محاكاة ل ” المؤتمر” الهندى. وقد أورد تقرير المخابرات البريطانية عام 1931 عن تأثر الحركة الوطنية السودانية بنضالات الحركة الوطنية الهندية ما يلى:
” انه مما لاشك فيه أن جيل الشباب من الانتيلجنسيا ( السودانية) يكن اعجابا كبيرا وتعاطفا تجاه غاندى وأنه عندما تتصاعد حظوظ الحركة الوطنية فى الهند فانهم يتتبعون أخبارها باهتمام وشغف بالغين. وفى اجتماعاتهم الخاصة يناقشون فاعلية سلاح المقاطعة ويتفقون بأن غاندى قد اكتشف السلاح الوحيد الذى يمكن الفقراء غير المستنيرين فى الشرق من التصدى للامبريالية. ان تأثير غاندى والحركة السياسية فى الهند يمكن ودون مواربة أن يكون وراء اضراب عام 1931 فى كلية غردون التذكارية وكذلك فى مقاطعة الطلاب لتناول السكر.”
يستعرض الكتاب مستعينا بالوثائق التأريخية تاريخ دخول المسلمين الى الهند ثم وصولهم الى هرم السلطة فيها حتى دخول الشركة البريطانية: شركة الهند الشرقية التى مهدت لاحتلال الهند من قبل الامبراطورية البريطانية بعد فشل انتفاضة عام 1858 حيث انتهى عهد الحكم الاسلامى هناك. ثم يستعرض تكوينات المسلمين المختلفة ونظرة أصحاب العقائد الهندوسية اليهم وتاريخ علاقات الطائفتين ببعضهما البعض ودور الاستعمار فى تأجيج وأحيانا توظيف خلافاتهما لصالح استمرار بقائه فى الهند. ثم يستعرض بروز شخصية محمد على جناح ومن بعده ظهور ” الرابطة الاسلامية” كمظلة سياسية لنشاط المسلمين فى شبه القارة الهندية ليخلص الى أسباب ودواعى نشأة الدعوة الى تقسيم شبه القارة على أساس دينى بين الطائفتين الهندوسية والمسلمة.
يشير الكتاب الى أن الحرب العالمية الأولى قد أوضحت بجلاء أن الامبراطورية البريطانية قد ضعفت ضعفا يمهد بقوة لزوالها لتصعد مكانها الولايات المتحدة الأمريكية وأن الهند بدأت تستشرف يوم خلاصها من سيطرة تلك الامبراطورية الآيلة الى الزوال فنشطت الحركة الوطنية فيها . جاء غاندى من جنوب افريقيا فى عشرينيات القرن الماضى ليقود نضالا سلميا ضد الاستعمار فوجد محمد على جناح فى الساحة قبله يناضل لعشرين عاما خلت من أجل هند مستقلة يتحد فيها المسلمون والهندوس ضد عدوهم المستعمر حتى لقب ب” سفير وحدة الهندوس والمسلمين” وهى عبارة نسبها الكتاب لقوبال كريشنا بينما ينسبها البعض للمهاتما غاندى نفسه. يقول الكاتب بدأ الهندوس يتطلعون للحرية والاستقلال بعد قرون من السيطرة الأجنبية بينما تطلع المسلمون لاستئناف مجد غابر قوضه الانجليز. ومن هنا نشأت معضلة كيف سيكون مستقبل الهند المستقلة . المسلمون يتخوفون من أن تؤؤل السيادة عليهم من البريطانيين الى الهندوس ومن هنا بدأت تظهر تيارات بين المسلمين تدعو الى فيدرالية فضفاضة يشتد فيها عود الولايات والاقاليم على حساب المركز تتمتع فى سياقها الاقاليم بحريات أوسع وتيار فى قيادة حزب المؤتمر ينادى بعلمانية يقودها مركز قابض قوى تعتمد على الأغلبية المطلقة على أساس علمانية لا دور فيها للكيانات المتعددة الدينية أو العرقية . ظل محمد على جناح مؤمنا بامكانية حل هذه الاشكالات فى اطار الهند الموحدة. وظل الزعيم الكبير المهاتما غاندى مشفقا على وحدة الهند مخالفا قيادات حزب المؤتمر فى الاعتماد فقط على الأغلبية مبصرا بضرورة اعتماد صيغة ترضى تطلعات المسلمين وتطمئنهم على حقوقهم كمواطنين متساويين مع غيرهم.
يقول الكتاب لكن انتخابات عام 1937 ( للحكم الذاتى أى قبل خروج المستعمر) كانت هى نقطة التحول فى قناعات محمد على جناح الوحدوية وفى تاريخ الهند الموحدة وكانت بمثابة الخطوة الأولى نحو تقسيم شبه القارة الهندية الى الهند وباكستان والذى وقع بالفعل عام 1947.
فاز حزب المؤتمر فى تلك الانتخابات بالأغلبية التى تمكنه من تكوين الحكومة منفردا دون الحاجة للدخول فى ائتلاف مع حزب الربطة الاسلامية بزعامة محمد على جناح وهو حزب علمانى أيضا الى أنه فاز بغالبية أصوات المسلمين فى الهند. وبالتالى شكل حزب الرابطة المعارضة البرلمانية للحكومة وهو أمر عطل أداء الحكومة لعامين كاملين. لكن النتيجة الأخطر هى أن حزب الرابطة رأى فى ما وقع
صورة الهند المستقلة فى المستقبل القريب : بلاد يحكمها حزب المؤتمر بأغلبية ميكانيكية ولا غبار على ذلك فى ظاهر الأمرفهذا حكم ديموقراطى يصل اليه الناس عبر صناديق الاقتراع وهو علمانى أيضا لا يستند الى دين. لكن هذه الأغلبية أغلبية تأتى من طائفة واحدة هى الهندوسية ( اعتبارا بما وقع حيث لم تصوت غالبية المسلمين لحزب المؤتمر بل صوتت لحزب الرابطة.) وانحدرت الأمور بسرعة فى اتجاه التقسيم ولم تجد جهود المهاتما غاندى نفعا لدى الرابطة ولدى قيادات حزب المؤتمر حيث تكرر ذات السيناريو فى انتخابات عام 1946حيث حصل حزب المؤتمر مجددا على الأغلبية بواحد فى المائة فقط من أصوات المسلمين و قرر أن يحكم منفردا. ويعلل الكاتب فى صفحات 478 و479 مرونة المهاتما غاندى وقبوله لفكرة الفدرالية الفضفاضة التى تستوعب تنوعا كتنوع بلد كالهند, الى فهم غاندى العميق للتباينات والتناقضات القائمة فى الهند رغم التعليم الغربى الذى ناله على عكس نهرو وجناح المؤمنين بالدولة القطرية العصرية القابضة على أزمة الأمور من المركز على غرار الدولة القطرية فى أوروبا ويرى فى الرجلين( أى جناح ونهرو) انجليزيين حتى النخاع. ويورد الكاتب مقتطفا( لشيفا راو) يقول فيه انصافا لجناح انه حتى بعد انتخابات 1936 لم يكن قد فقد الأمل فى الوصول الى حل يبقى على الهند موحدة اذ أنه التمس من غاندى مجددا العمل على الوصول الى ذلك الحل قائلا مخاطبا غاندى ” ليس هناك أحد أحرص منى على الوصول الى تسوية بين الهندوس والمسلمين ولن يكون هناك أحد على استعداد أكثر منى من العمل على الوصول الى تلك التسوية.” الا أن غاندى كان فيما يبدو قد يئس من أى مرونة لدى قيادة حزب المؤتمر اذ رد قائلا: ” أتمنى لو كان بوسعى أن أفعل شيئا. اننى عديم الحيلة تماما. ان ايمانى بالوحدة لا يزال يشع ضياء كما كان على الدوام لكننى لا أرى ضوء النهار بل أرى ظلمة حالكة. وفى هذه الحالة فاننى استغيث بالله وحده طلبا للضياء والنور.” (صفحة 233)
ويذهب المحلل السياسى-النفسانى (أشس ناندى) فى مقالة نشرها فى (زا تايمز أوف انديا) بتاريخ 29 أغسطس تعليقا على الكتاب ذات المذهب مبينا أن قادة المؤتمر فى الهند ظنوا أن مجرد نقل وتطبيق الآنموذج الأوروبى للدولة القطرية كفيل بمعالجة قضايا التخلف وبلوغ الحداثة على اعتبار أن الوطنية تكفى لتوحيد السكان داخل حدود تلك الدولة القطرية وأن ضخامة التخلف وصعوبة انصياع الأهالى لسلطان الدولة تستدعى وجود مركزية قوية وقابضة متناسين أن مجرد الفهم البالى القديم بجعل الدولة القطرية باعتبارها دولة لا ايدولوجية يشد سكانها رباط ( الوطنية) وحده تفكير فطير لا يصمد أمام تحديات الحكم خاصة فى بلد متعدد الأعراق والثقافات مثل الهند. ويذهب الرجل الى أن مطالبات جناح بفدرالية فضفاضة قد تحققت الآن فى الهند حيث أن صلاحيات الولايات قد فاقت الآن ما طالب به جناح لابقاء الهند موحدة آنذاك. ولرفع العتب عن جناح فى المطالبة بالانفصال بعد فشل مساعى الحصول على فدرالية ضامنة لحقوق المسلمين, أشار الى أن شرط التجانس فى الدولة القطرية الذى دفع جناح فى نهاية المطاف الى المطالبة بالتقسيم لم يكن قاصرا عليه فان المفكر الهندى (فى.دى.سافاركار) وهو ملحد متمرد على الديانة الهندوسية ناقد لها قد اختار ( الهندوتفا) كايدولوجية وطنية للهندوس و ذلك قبل أن يطلق جناح مقولته الشهيرة بأن الهندوس والمسلمين أمتنان منفصلتان. بقى أن نعلم أن ضحايا الانفصال بلغوا مليونا من الأنفس فقدوا أرواحهم بينما أطر نحو عشرة ملايين أخرى الى النزوح من مواطنهم الأصلية الى احدى الدولتين للالتحاق بنظرائهم فى الدين. لكن وحدة الدين لم تعصم باكستان من آفة التقسيم فى عام 1971 لتقوم دولة بنغلاديش على انقاض الجناح الشرقى لباكستان فى اقليم البنجاب التاريخى على خليج البنجاب فكانت الغلبة للعرق واللغة والثقافة البنغالية العميقة الجذور.
اختتم الكاتب كتابه معبرا عن أسف بالغ على تقسيم شبه القارة الهندية الى ثلاثة دول مستشهدا بوصف غاندى لقرار التقسيم بأنه مثل تشريح الأعضاء الحية فى الجسد , مؤكدا أن المرارت المصاحبة لذلك القرار لا زالت حية تعوق كل جهد لتحقيق السلام والدمج بين مكونات هذا الاقليم التى يعد ما يجمعها من وشائج أكثر بكثير مما يفرق بين شعوبها. يؤكد هذه الخلاصة السيد( راجيف سيركى) وكيل الخارجية الهندية الأسبق فى كتاب بعنوان:” التحديات والاستراتيجية: اعادة التفكير فى سياسة الهند الخارجية ” يؤكد فيه أن جراحات التقسيم لا زالت مصدرا دائما للتوتر والمشكلات بين دول المنطقة و عائقا أمام التكامل الاقليمى بينها يحول بينها وبين أن تلعب مجتمعة دورا فاعلا فى السياسة الدولية باعتبار ثقلها السكانى وموقعها الجغرافى الحاكم ومواردها الضخمة المتنوعة.
وبعد…ومع فوارق التاريخ والجغرافيا وبعض الخصوصيات الثقافية, هل ثمة دروس مستفادة وعظات وعبر فى ما تقدم من سطور كتاب وزير خارجية الهند الأسبق ( جاسوات سينق) ؟ أرجو ذلك!
( نقلا عن صحيفة الرأى العام السودانية عدد الأربعاء 6 يناير 2010)