ذكرنا فى الحلقة الماضية أن الجزء الأول من مذكرات بابكر بدرى (تأريخ حياتي) قد حوى أحداث المدى الزمنى الممتد بين مولده فى نحو عام 1864 ميلادية وحتى سقوط دولة المهدية بعد معركة كررى فى عام 1898.
ولد بابكر بدرى فى مكان ما على نهر عطبرة لم يحدده بدقة علماً بأن مدينة (أتبرا) أو (عطبرة) لم تكن قد تأسست وكانت هناك قرية (الداخلة) التى أصبحت بعد ذلك حياً من أحياء مدينة عطبرة. وهذه المنطقة كانت تدار ضمن مناطق الرباطاب ولعل جل سكان الداخلة والمناطق المحيطة بها قبل أن تصبح المنطقة رئاسة لسكك حديد السودان كانوا من قبيلة الرباطاب. هذا رغم أن المنطقة من عطبرة وحتى جزيرة ( أرتولى) شمالاً تقع فى منطقة الجعليين والميرفاب . وعلى كل فهذا مبحث يقع خارج نطاق ما نحن فيه من شأن الشيخ الأستاذ بابكر بدرى.
انتقلت أسرة بابكر بدرى وهو صغير إلى رفاعة حيث درس كسائر أبناء جيله فى الخلاوى حيث حفظ القرآن فى سبع سنوات على الشيخ أحمد حامد الشهير بالكراس وكان رجلاً –كما وصفه- جاداً متفانياً فى تحفيظ القرآن لا يشغله عن ذلك شاغل رغم كبر سنه وكان متعففاً لا يستغل التلاميذ (الحيران) لمصالحه الخاصة كما كان يفعل بعض المشايخ ولا يسمح لهم بالتسول ب (الشرافة) وبتتبع المآتم لأكل الصدقات.وانتقل بابكر بدرى بتوجيه من أمه إلى الدراسة فى ودمدنى راجلاً ثم رديفاً على ظهر دابة من سوق المسلمية إليها. وهنا لا بد من إشارة إلى أمه التى كانت قوية الشكيمة فقد غضبت من شيخ من أقربائها قسا على الطفل الصغير قسوة لا تتناسب مع صنيعه فى أخذ قصبة من (عليق) الدواب ليصنع منها قلماً يحبر به الألواح . فجهزت له حقيبة وقالت له :” اذهب وتعلم على الشيخ عمك (ود أزيرق) فى مدنى.” فما كان منه إلا أن حمل حقيبته مشياً على الأقدام إلى مدنى التى يحتاج المسافر إليها إلى عبور النيل الأزرق فضلاً عن كونها تبعد عن رفاعة نحواً من ثلاثين كيلومتراً. لا تعجب بعد ذلك فقد جاب بابكر بدرى السودان من أقصاه إلى أقصاه على ظهور الدواب.
ولى وقفة مع الرجل فى مدينة ودمدنى التى عشت فيها قرابة عقد من الزمان فقد ذكر فيها أماكن وأشخاصاً لم أتمكن بعد من التعرف عليها وعليهم ولعل غيرى يفعل. فقد ذكر أن الشيخ محمد الازيرق قد جاء من الدامر ولعله من أقربائهم فقد قالت له أمه كما تقدم ( اذهب لعمك محمد الأزيرق.). وقال عنه إنه قرأ القرآن ونال بعض العلوم فى الدامر ثم رحل إلى مدنى بواسطة عبد الله أغا الذى بنى له مسجداً مركباً من غرف ومنزلاً بجوار المسجد. ذلك فى ستينيات القرن التاسع عشر. ترى أين موقع هذا المسجد اليوم وما علاقته بمسجد ابى زيد فى ( ود أزرق؟) وهل ود أزرق هى فى الأصل (ود ازيرق)؟ ومن بقى من ذرية ود ازيرق اليوم فى ودمدنى. لقد تحدث بابكر بدرى عن ود أزيرق بإعجاب شديد ووصفه بأنه كان عالماً لا يشق له غبار.أعجب به الوالى المصرى جعفر باشا مظهر الذى وصفه بانه كان هو الآخر,محباً للعلم والعلماء وخصص له راتباً شهرياً بعد أن امتحنه فى علوم الدين وبعد أن أطلعه ودازيرق على ثمانين مجلداً فى علوم الفقه خطها بيده. وقد اجتهد الناس فى حفظ العلوم الإسلامية نسخاً فقد ذكر ود ازيرق للوالى المصرى شارحاً كيف اقتنى كل تلك المجلدات, أن بعض الأثرياء كانوا يكلفونه أيام الطلب بنسخ بعض كتب المالكية وغيرها فكان ينسخ من كل كتاب نسخة لنفسه. هذا الحديث عن ود ازيرق وإرسال بابكر بدرى إليه من رفاعة يفتح نافذة على الحياة الإجتماعية آنئذٍ فى سعى الناس لتعليم أبنائهم وإرسالهم إلى العلماء فى أماكن بعيدة أحياناً وعلى ظهور الدواب على مافى ذلك من مشقة لتلقى المعارف وهوما كان عليه الحال فى العالم الإسلامى بصفة عامة قبل دخول نظام التعليم النظامى المجلوب من الغرب.لم يؤمن ود ازيرق بالمهدية وعندما سأله والد بابكر بدرى وكان المهدى على جمله يبايع الناس (أنا أمى وأنت عالم… هل أعتقد أن هذا هو المهدى المنتظر؟ ) قال له ( أنا لا أعرف ما أقوله لك بخصوصه ولكن يا ود بدرى,وقبض على لحيته قائلاً :” يملكوكم الإنقليز.”) وتجدر الإشارة إلى أن والد بابكر بدرى على نقيض والدته , لميكن هو ايضاً معتقداً فى مهدية المهدى. واختلف بابكر على عدد من العلماء إلتماساً للعلم وقد أصاب منه قدراً حسناً مكنه من إتقان اللغة العربية حتى قرض الشعر وأجاد كتابة النثر بل وضع قواعد للإملاء كما سنرى.
كيف إلتقى بالمهدى؟
قال كان المهدى يزور أقرباء له فى رفاعة فرآه اكثر من مرة وصلى معه المغرب . إنضم إلى ثوار المهدية بعد ذلك ولبس الجبة المرقعة وبلغت به الحماسة مبلغاً جعله يتعرض قصداً لرصاص السفن الحربية طلباً للشهادة فجعلوا عليه حرساً عند مرور تلك السفن كى لايفعل. وهاجر تحت إلحاح والدته ملتحقاً بالمهدى الذى كان يحاصر الخرطوم. قال ولما علم المهدى بتقدم الحملة المرسلة لإنقاذ غردون الحاكم العام وأنها قد حلت بالمتمة,جمع المهدى أهل شوراه واتفقوا على التعجيل بإقتحام الخرطوم. وذكر أن المهدى جمع الجيش بين قرية الغرقان والخرطوم ليلة الأثنين 16 ربيع ثان آخر سنة 1302 هج وخاطب الناس. ومما سمعه منه كفاحاً ما يلى:
“إذا فتح الله عليكم,غردون لا تقتلوه والشيخ حسين المجدى لا تقتلوه والفقيه الأمين الضرير لا تقتلوه.”قال وهناك رابع نسيت اسمه. ثم قال المهدى ” ومن رمى سلاحه لا تقتلوه ومن قفل عليه بيته لا تقتلوه”. وهذه من أوثق الشهادات السماعية بأن المهدى أمر ألا يقتل غردون. كما أنه التزم بتعاليم الإسلام نهياً عن قتل غير المحاربين. شارك بابكر بدرى مجاهدا فى الجيش الذى أرسله المهدى بقيادة ود النجومى لطرد الإنقليز من المتمة وكانوا قد جاءوا لإنقاذ غردون كما ورد آنفاً.
ثم شارك الرجل فى حملة ود النجومى إلى توشكى بعد وفاة المهدى وهى رحلة موت ذاقوا خلالها الأمرين . فى هذه الأثناء وقع الخلاف الشهير بين خليفة المهدى وبين آل المهدى وهو خلاف امتد للاسف ليكون بين أهل البحر وأهل الغرب فلا نخوض فيه ومثله قد أطل برأسه فى الآونة الأخيرة. الرحلة إلى توشكى صحبها الجوع حتى أكلوا الميتة ولحم الحمير والأعشاب والجلود والعطش ايضاً وهم على ضفاف النيل لا يستطيعون الشراب منه حيث تصطادهم السفن الحربية بالرصاص. كان يراقب الشاطئ من على فرسه الإنقليزى (وود هاوس) حتى تعذر الوصول إلى النهر لجلب الماء فغلى ثمنه واصبح كوز الماء بريال مجيدى. فتغنى شاعر المنطقة شماتة بجيش المهدية بشعر قاس:
مهير (وودهاوس) أب حيلة شديدى حجّر الموية خل الكوز مجيدى!
ثم كانت الهزيمة النكراء فى توشكى والوقوع فى الأسر فى مصر ثم العودة إلى السودان وقد تغير الحال فى السودان وخبت روح الثورة التى أذابت الفوارق الجهوية والعرقية فى أخوة الطريق وحلت محلها النعرات القديمة من جديد وقد تحدث عن ذلك بحسرة وأسى. ولا نسترسل فيما يحى الجراحات ويجدد المواجع.وليس أقسى على الإنسان من أن يرى مصارع آماله العريضة فى المدينة الفاضلة أمام عينيه, وصروح الأحلام فى الخير الوفير لكل الناس تتهاوى كقباب الرمل أمام ناظريه, ويرى أناساً يستأسدون على الخلق بذات الشعارات النبيلة التى تولدت عنها الأحلام العظيمة ,فيذيقون عيال الهو الخسف والمسغبة والهوان. وكأنى به يردد بفعل الحسرات أبيات لدعبل الخزاعى يبكى فيه الحال أهل البيت النبوى وقد أحاطت بهم الخطوب:
مدارس آيات خلت من تلاوة
ومهبط وحى مقفر العرصات
لآل رسول الله بالخيف من منى
وبالبيت والتعريف والجمرات
بنات زياد فى القصور مصونة
وآل رسول الله فى الفلوات.
وماذا لو انه سمع مثل أبيات منسوبة ليزيد بن معاوية وقد فتك بالأنصار فى وقعة الحرة كأنه ينتقم لمشركى قريش من أقربائه شيبة وعتبة ابنى ربيعة وأمية بن خلف وعمرو بن الحكم وقد صُرعوا قتلى ببدر الكبرى بسيوف الأنصار من الخزرج والأوس ورهط من المهاجرين :
ليت أشياخى ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل.
(أى من طعن الرماح).
والخزرج خؤولة عبد المطلب بن هاشم جد النبى صلى الله عليه وسلم.
احتال الرجل يوم الكريهة فى كررى كما روى فراراً من الموت وهو يتعجب من حاله تلك وحاله قبل ذلك وهو يتعرض للسفن الحربية طلباً للموت.
ويفرض علينا مقتضى الإنصاف القول بان الرجل لم يعلل موقفه فى كررى ببغضه للحكام وما أوصلوا الحال إليه لأن بغض الحكام لا يبرر التقاعس عن نداء الوطن وهو يتعرض للغزو الأجنبى كما أن الأوطان لا تختزل فى ذواتهم الفانية لكنهم كالفتنة المفضية إلى ذلك والتى يتحملون بعض أوزارها دون أن ينقص ذلك من أوزار المفتونين بها قيد أنملة. ألم يقل جبلة بن الأيهم نادماً وهو يتمرغ فى نعماء القيصر:
فيا ليت لى بالشام أدنى معيشة أجالس قومى ذاهب السمع والبصر.
وبذاك الفرار انتهت قصة بابكر بدرى المجاهد بحد السيف والمدفع ليبدأ فصلاً جديدا فى حياته سيكون موضوع الجزء الثانى من كتابه وكذلك موضوع الحلقة التالية أيضاً إن شاء الله.