من أهم ما جاء فى مقالة “نيوزويك” التى جعلناها خلفية لهذه السلسلة , موضوع عودة الدين الى أوروبا المسيحية . يقول كاتب المقالة اريك كوفمان انه منذ أن رفض سقراط الاعتراف بآلهة الاغريق الوثنية ومنذ أن خالف كوبيرنيكس تعاليم الكنيسة بالجزم بأن الأرض كروية وليست مسطحة ومنذ أن قضت الثورة الفرنسية على سطوة الكنيسة على السياسة فان سبل الحداثة والدين قد تفرقت كما أن عزوف الأوربيين عن الاختلاف الى الكنائس قد صار دليلا على أن قيم الحداثة لم تعد حبيسة دوائر العلية والصفوة فى تلك المجتمعات وحسب بل أصبحت قناعات لعامة الناس أيضا.
لكنه يعود للقول الى أنه وراء الأفول البادىء للعين للمسيحية بالامكان رؤية الدين ينطلق انطلاقة جديدة هناك. ويضيف قائلا ان هذا الانبعاث الدينى فى أوروبا اليوم حقيقى وقوى يماثل الانبعاث الذىحول الآمبراطورية الرومانية فى القرن الرابع من حاضنة للوثنية وعدو لدود للمسيحية الى امبراطورية راعية وحامية لحمى المسيحية. وقد فصل الكاتب كيف حدث ذلك و كيف يحدث الآن بالنسبة لكنائس مثل كنائس المورمون عبر العامل الديموغرافى ( تبح تعاليم كنائس المورمون التى أسسها وقتل من أجلها جوزيف اسميث تعدد الزوجات).ويذهب الكاتب الى أن ذات العامل الديموغرافى هو الذى يفسر تنام قوة وتأثير اليمين الدينى فى الولايات المتحدة وعبر هذا العامل تمكنت الكنائس البروتستاتتية من زيادة عضويتها من البيض بين عام 1975 و عام 1900 بنسبة مقدرة وأن واضعى استراتيجية الحزب الجمهورى يراقبون هذه الظواهر الاجتماعية لتوظيفها فى زيادة وتقوية نفوذ الحزب.
ويواصل الكاتب حديثه عن الانبعاث الدينى فى أوروبا مشيرا الى أن أوروبا الغربية التى تعتبر رائدة العلمانية الحديثة, بدا الدين يدب فى أحشائها حيث تشير الاحصاءات الى أن النسبة بين من يختلفون الى الكنائس وبين أولئك الذين لايفعلون فى قد بدأت تضيق فى الدول البروتستانية العريقة فى تبنى العلمانية بالاضافة الى فرنسا الكاثوليكية حيث أصبحت نسبة غير المتدينيين 53% مقابل 47% هم المتدينون. لكن للمتدينين الذين يشكلون 47% مزية على أولئك وهى خصوبة فى الانجاب تتراوح نسبتها بين 15 الى20% تفوقا على أولئك. وبالتالى يتوقع الكاتب أن يفوق عدد المتدينين المسيحيين فى أوروبا فى نهاية القرن الحالى عدد المتدينين فى بداياته.
وحول موضع العامل الاسلامى فى أوروبا من كل ذلك يذهب الكاتب الى أن تعداد المسلمين فى أوروبا يقدر الآن ب4% من جملة السكان وينتظر أن يصل الى 14 أو26% عند منتصف القرن الحالى ويقول ان هذه النسبة من المسلمين اذا تشربت القيم العلمانية فان ذلك لن يؤثر كثيرا على المسرح الدينى فى أوروبا لكنه شكك فى أن تفعل مستشهدا باحصاءات أجريت بين الجيل الثانى للمهاجرين الباكستانيين والبنغلاديشيين فى بريطانيا وبين مهاجرين مسلمين فى هولندا أثبتت أن نشأتهم الأوروبية لم تقلل كثيرا من تدينهم.
فى ذات السياق ذكر أن الوجود الاسلامى فى أوروبا يعد عاملا من عوامل الانبعاث المسيحى. وقال ان تكاثف الوجود الاسلامى فى أوروبا سيؤدى اما الى مزيد من احياء الوطنية العلمانية كما حدث فى فرنسا وهولندا تلك التى عبرت عن نفسها باستصدار تشريعات تحرم على المسلمات لباس غطاء الرأس على اعتبار أنه شارة دينية ورمز يقدح فى علمانية تلك الدول, أو الى مزيد من التمسك بالهوية المسيحية وساق خطبة البابا الأخيرة التى أثارت غضبة المسلمين كدليل على انبعاث المشاعر المسيحية كرد فعل لتنام الوجود الاسلامى فى أوروبا.وكان الرئيس الفرنسى السابق فلارى جيسكار
ديستان قد اعترض قبل سنوات قليلة على انضمام تركيا للاتحاد الأوربى على اعتبار أن الاتحاد ناد للمسيحيين فى أوروبا.
ولا يتوقع الكاتب نشؤ حركة مثيلة للافانجليكية الأمريكية فى القارة الأوروبية نتيجة للانبعاث المسيحى الذى يتوقعه لكنه يرجح تحولا نحو قيم تقليدية محافظة فى الجانب الاجتماعى فىقضايا الاجهاض والقيم العائلية والتعليم الدينى وزواج المثليين.
وتوقع الكاتب أن يسوق العامل الديموغرافى أوروبا عبر تزايد أعداد المتدينين المسيحيين الى الأنموذج الأمريكى للحداثة الذى يحمل على حجره الحداثة والتدين معا وأن يعيد النظر فى مفاهيم عصر التنوير فى الفردانية العقلانية.
وينهى الكاتب هذه المقالة بشىء من التفاؤل فى امكانية قيام حوار بل وتعاون دينى بين مسلمى ومسيحي أوروبا خاصة فى القضايا الاجتماعية المذكورة آنفا . ويدلل على امكانية حدوث ذلك بما هو قائم منذ عقود بين المسيحيين البروتستانت والكاثوليك واليهود فى الولايات المتحدة من حوارات وتعاون . وفاته أن يشيرالى أن المسلمين فى الولايات المتحدة مشاركون فى تلك الحوارات فى الولايات المتحدة وأنهم قد ابتكروا مصطلح التراث الابراهيمى كبديل للتراث اليهودى المسيحى للجمع بين معتنقى الديانات الثلاث على صعيد واحد. تجدر الاشارة هنا الى أن المحافظين من اعضاء الكونقرس بالاضافة الى المنظمات والجمعيات الدينية المحافظة تلجأ الى التنسيق فى أروقة الأمم المتحدة مع دول اسلامية محافظة كالسودان والسعودية وايران وباكستان للتصدى للتشريعات الليبرالية التى تتعارض مع القيم الاجتماعية والأخلاقية المشتركة بين الديانتين الاسلامية والمسيحية خاصة فى مجالات الحفاظ على الأسرة وحماية قدسية الزواج. وعليه فاننا نشارك الكاتب تفاؤله فى امكانية الحوار والتعاون بين معتنقى الأديان السماوية للحفاظ على القيم المشتركة بينهم وقمين بمثل هذا الحوار أن يفضى الى احترام متبادل حيال المختلف عليه من القضايا وقمين به أيضا أن يقلل من الاحتككات والكراهية والعنف ونحسب أن المسلمين ينبغى أن يكونوا الأحرص على مثل هذا الحوار لتغيير الصور النمطية للمسلمين ولتجنيب بلادهم غوائل الاستهداف الجائر بالوصول عبر الحوار الى المواطن العادى فى المجتمعات الغربية.
أما مقالة النيوزويك و فى سياق رصدها لظاهرة الانبعاث الدينى فى آسيا والتى كتبها كاتب آخر من آسيا قد استثنت بلدان العالم الاسلامى فى تلك القارة ربما لأن تلك الدول يقع معظمها فى منطقة الشرق الأوسط (باستثناء دول الشمال الافريقى العربية فان بقية دول ما يعرف بالشرق الأوسط تقع فى قارة آسيا ) وأن الانبعاث الدينى فيها أكثر جلاء من أن تسود له الصحائف. لذلك اقتصرت التغطية على دول كالصين والهند. وقد أشارت المقالة الى وجود انبعاث دينى فى البوذية والهندوسية والاسلام أيضا فى تلك المنطقة من العالم الا أن الدين يوجد خارج نطاق السياسة تماما لأن الآسيويين قد تعلموا من الغرب الفصل التام بين الدين والدولة وأنهم فيما يرى الكاتب ان علموا بتأثير وسطوة اليمين الدينى فى أمريكا على السياسة لأصيبوا بالحيرة . لكن الكاتب وهو عميد لاحدى كليات جامعة سنغافورة يؤمى الى أن الجمع بين العلمانية والدين يؤثر على التقدم فى عالم التقانة مستشهدا باحصائية أمريكية رسمية تشير الى ان مساهمة آسيا فى صادرات التقانة المتقدمة قد ارتفعت من 7% عام 1980 الى 25% عام 2001 بينما انخفضت صادرات أمريكا منها لنفس الفترة من 31% الى 18%. وتمنى على أمريكا أن تتعلم الدرس فى الفصل بين الدين والدولة من التجربة الآسيوية!!
وبعد ….. يبدو واضحا أن دور الدين فى حياة الناس سيبقى مهما تزايد كسب البشرية من الاختراعات العلمية التى تزيد الحياة على هذا الكوكب العجيب يسرا وسلاسة ومتعة. فالحاجة الى الدين حاجة وجدانية ليست مرتبطة دائما بتفسير الظواهر الطبيعية وحدها. ويستحيل علينا أن نتصور أنه فى مقدور الانسان امتلاك ناصية الكون وحل كل معضلة فيه رغم تراكم تجاربه التى تدفع بفهمه لأسرار الطبيعة قدما وبالتالى مخترعاته للسيطرة عليها. لكننا نرى فى المقابل انفجارا سكانيا هائلا لم
يسبق له مثيل وتدهورا فى البيئة وتغيرا فى المناخ يهدد بتناقص الأمطار وزيادة درجات الحرارة وزيادة وتيرة التصحر فى العالم بسبب ظاهرة الاحتباس الحرارى وهجرات من المناطق الفقيرة فى العالم الى المناطق الغنية وما ينتج عن ذلك من نقص فى المتاح من الغذاء وما يتسبب فيه ذلك من الاحتككات والعنف . مثل هذه التحديات العظيمة يمكن أن يلعب الدين فيها دورا ايجابيا مقدرا عبر قيم التراحم والايثاروتقوية مؤسسة الأسرة ويمكن فى المقابل أيضا استخدام الدين سلبا أداة للفرز والتمييز بما يؤجج الصراعات والعنف. والخير أن تهتدى البشرية الى كلمة سواء من التسامح والاحترام المتبادل والتعاون بما يحفظ النوع الانسانى على ظهر الأرض ذلك لأن الخيار الوحيد المتاح أمام الانسانية فى ظل تحول العالم كله الى قرية صغيرة هو التعايش بين الديانات والثقافات المختلفة.