وهل يقوم العالم حيث يقيم الإنسان إلا علي السياسة؟ وإن كره الناس ساس ويسوس جراء عثراتها وإخفاقاتها وويلاتها علي الناس والتي لا تنتهي ،فهي مع ذلك في مقاصدها البعيدة التي لا تشوبها الشوائب ولا تجور بها الأهواء والرغائب كما تجور بالسفائن في أعماق البحار الأنواء ، ضرورة ملحة لتنظيم حياة الأفراد في المجتمعات بتحديد الحقوق وتسمية الواجبات بما يمنع الجور ويحول دون تسلط القوي الغني علي الفقير الضعيف وبكبح الرغائب والشهوات والشح الذي جبلت عليه الأنفس للتعدي وتجاوز الحق المشروع إلى ما في أيدي الغير, ذلك لينعم الجميع بالحرية والأمن والعيش الكريم . ولهذه الغاية السامية العصية علي التحقق , تعددت النظريات والفلسفات فنشأ علم السياسة يلتمس السبل لتحقيق ذلك في المجتمعات وتبعه علم العلاقات الدولية عندما قامت الدول ليحقق ذات الغاية بين الدول لتقوم العلاقة علي تبادل المنافع ودرء الحروب .وبذلك تحقق بعض النفع لكن ظلت الحروب والقلاقل والدمار هي السمات الأبرز في تاريخ الإنسانية. وهل خلق الإنسان إلا في كبد؟!
والسياسة بهذا الوصف المثالي القاصد إلي الخير والخيرية, تجيز لي ولك الخوض في معتركاتها وصولاً لأسد الطرق لتحقيق غاياتها النبيلة في خدمة بني الإنسان لكن اتخاذها مهنة ووظيفة ووسيلة للجاه والثراء غير المشروع ,يُخضع ممتهنيها للمزالق التي زهــدت أكثر الناس فيها وزرعت شكوكهم في جل المشتغلين بها ليس عندنا وحسب بل علي نطاق المعمورة الفسيح. تعجب أحدهم عن تشابه جرس الكلمات في الانقليزية في وصف التلوث والسياسي: politician and pollution فلا تعجب إذن!
واذكر عنواناً كهذا (عالم بلا سياسة) لكاتب بقي في الذاكرة اسمه الأخير عبدالكريم أو ربما يعقوب في جريدة “السياسة ” , أواخر ستينيات القرن الماضي ,وكنت وقتها تلميذا في الثانوية ,وكان عمود الرجل مادة خفيفة تأتي بها الصحيفة في صفحتها الأخيرة كالتحلية في صحيفة يدل اسمها علي ثقل ما تحمل من العراك والجدال السليم والعقيم وقد كان ذلك سيد الموقف في ذاك الزمان وهذا الزمان أيضاً! وكانت مادته لا أذكر شيئا منها , سريعة الهضم محببة، كالمحليات التي تقدم بعد الوجبات خاصة في الولائم الكبيرة الدسمة المشبعة , تلك (المكللة لحما مدفقة ثردا) في وصف ذلك الذي كان يستدين لإطعام الطعام وقري الضيفان فلامه قومه علي صنيعه الذي رأوه قرين السفه وإضاعة المال،نعم كان العمود مادة هاضمة مريحة مزيلة للانتفاخ كالمياه الغازية وكان أشبه ما يكون في مادته بما يسطره يراع الرجل العالم مد الله في عمره ، البرفسور محمد عبدالله الريح الذي اتخذ لقلمه اسماً ساخراً هو ( حساس محمد حساس) ! وصف مرة علي سبيل الرمز وربما استخفافاً بموضوع شجار نشجب بين رمزين من رموز الغناء والطرب حينها بأنه كان حول أغنيه سماها ( ويكة ..ويكة..يا حبيبي كر عليكا)!
وبعد،..فالذي أنا بصدده يتصل بالحرب التي توشك بعد أيام أن تكمل عاما كاملا من الزمان ، ومع ذلك أري الحدث الكارثي الرهيب يقع بويلاته, خارج نطاق السياسة وذاك مؤدي العنوان (عالم بلا سياسة ) ويقيني أن آخرين قد يرون في العنوان نوعاً من الحيلة وضرباً من الروغان واستغفال القراء والقارئات لأن الحرب عندهم هي السياسة بعينها لكنها لم تكن كذلك بالنسبة لي وللملايين الذين كانوا في حال ذهول يوم أن حلت بهم في صباح ذلك اليوم الذي سيرسخ في الذاكرة كأيام داحس والغبراء وربما صالح وثمود ,بمدججين بالسلاح يتطاير من عيونهم الشرر, يقتحمون عليهم البيوت يجمعون الثمين من المقتنيات كالساعات والهواتف وحلي النساء ويغتصبون النساء ويقتلون كل من يقاوم جرمهم ثم يطلبون منهم إخلاء المنازل وحال خروجهم يواجهون عنتاً من نوع آخر نقاط تفتيش عليها غلاظ لا يخشون الله وعلي بذاتهم بطاقات تعريف رتبهم في قوات الدعم السريع يشهرون أسلحتهم في وجه الشيخ الفان والشيخة المقعدة و الطفل الصغير ويزأرون زئير الوحوش في وجوه عزل ونساء وأطفال باتوا في بيوتهم آمنين: أنتو من وين من الشمالية؟ من الجزيرة؟ انتو فلول ؟ انتو كيزان؟ انتو النوبة العاملين عرب المسلطين علي رقابنا من مائة عام؟ رددت أنا , حكي الصبي ابن الخامسة عشر المرعوب الخائف علي أبيه المصاب بالجلطة وعلي أمه التي تتناوب عليها نوبات الربو كلما انفعلت لكن ,” قولي كان همساً في الحنايا في دواخلي لا يجري علي لسان انخلع من هول الدهشة: ومالهم النوبة أليس منهم شبكة وشبتاكا وبعانخي وتهراقا الذين حكموا الدنا وجزءاً مقدرا من الشرق الأوسط ؟أليس ذلك أبلغ الأدلة علي أننا في هذا المكان منذ الأزل.؟وكأن هذا الجاهل المستقوي بهذا السلاح الفتاك قد قرأ دواخلي فأمرني أن أترجل من السيارة (أنزل انت يا اب رويس شبهك فلول.. ) وصرخت أمي, (دا ولد صغير حرام عليك !)وغابت المسكينة عن الوعي وأبي لم يكن أصلا في وعيه منذ أن كسروا باب بيتنا!”
قال ,”وبحثنا عن مشفي في المدينة الفسيحة فلم نجد فقد أحالوا المستشفيات لترسانات حربية تصنع الموت لا تنقذ منه ولا تمنح الشفاء.”
وغدت المدينة في أيام قلائل مرتعاً للوحوش الآدمية والسفلة في كل خسيسة في الإنسان واستحالت المدينة الكبيرة إلي مدينة أشباح كأن لم تغن بالأمس القريب وهي التي كانت مثل خلايا النحل تموج حركة وحيوية فقد قطعوا عنها الماء والكهرباء وتعطلت الأسواق والمخابز وكل ما يمت لأسباب الحياة بصلة. حدث ذلك في العاصمة الخرطوم بمدنها الثلاث وفي مدني وفي الفريجاب وقري الخوالدة والكواهلة وطابت والهلالية والمدينةعرب التي مرعلي مدرستها تلامذة أبناء الجزيرة الخضراء مروراً سهلاً إلي معاهد التعليم العالي ورفدوا السودان بعلماء في كل أبواب المعارف وكان لنيالا البوتقة ورمز التسامح والتعايش وللجنينة الحديقة الغناء والقطينة نصيباً من الإذلال والمهانة والتقتيل والتطهير العرقي وتوعدوا دنقلا وكريمة وشندي وبارا والمتمة مجددا بالويل والثبور وعظائم الأمور! ولم تسلم المعالم الحضارية التي لا علاقة لها بخلافات السياسة كالمكتبات والجامعات ودور العبادة الإسلامية والمسيحية والمتاحف لذلك لم تفلح إرمادة وسائط التواصل والإتصال , أحدث ما انتجته المصانع من أدوات التضليل وأقنية التلفزة المنشأة أصلاً لقلب الحقائق وخداع الملايين والغش, من حجب حقيقة الفاعل الحقيقي للحرب ومن يقفون وراءه بل والصامتين علي جرمه, فتنادي طيف من الأحرار لا يجمعهم جامع من حزب أو اعتقاد أو جماعة سوي الحرص علي بقاء الوطن الجميل وأنبروا بالسلاح الذي يقوون علي حمله لرد غائلة العدوان عنه والتآمرعليه غير عابئين بالسباب البذيء وسقط القول وفاحش الكلم فلله درهم أجمعين!
ما الذي حدث ويحدث؟ لعله تجربة جديدة (بروفه)للقوي الإمبريالية لإعادة احتلال العالم الغني بالموارد, الذي أفقروه بكفاءة عالية والثروات تحت أقدامه أو فوق رباه وسهوله المعطاءة .قوام التجربة (البروفه)فقط سيارات الدفع الرباعي زهيدة الثمن مقارنة بسواها من أدوات الحرب ,تقودها شياطين في أجسام بشرية تُشتري بالدرهم والدينارتطلق كالوحوش الجائعة من أقفاصها لتقتل وتنهب وتقوض الدول وتحرق الأرض وتخلي الأمكنة من السكان؟ والقانون الدولي و الملف بتطبيقه الفقراء الضعقاء عديمو الحيلة ومؤسساته ,يتفرجون بل ومؤسساتنا نحن الإقليمية, الجامعة العربية والإتحاد الإفريقي ومنظمة التعاون الإسلامي ومجموعة دول عدم الإنحياز جميعاً عاجزة عن مجرد مواساتنا دع عنك الدفع عنا ومع ذلك لا تزال ألسنتنا البريئة أو قل الساذجة تردد عبارات الأشقاء والجيران والأصدقاء ولا يجول في خواطر الظن السئ أنها أخت التأمر أو ابنة عمه و يا رحمة الله ! أليس ذلك أيسر وأقل كلفة علي الإستعمار الجديد من حشد الجيوش و وإزجاء حاملات الطائرات والأساطيل لفصل جديد في التزاحم علينا واجتياح بلداننا جميعاً ؟! ألم تحمل الأسافير أمس خبرا يقول إن فرنسا تعد كتائب مرتزقة للإنقضاض؟ بدأتها روسيا بفاجنر وفرنسا علي الطريق وآخرين لا نعلمه , الله يعلمهم. وهل شنشة “دولة 1956” بداية للزحف اللا مقدس سيتبعها التنكر لمليون ونصف شهيد في الجزائر وغانا نكروما ودولة 1957 هناك وسيكتوري وغيرهم من أبطال الإستقلال؟ بلوا الرؤوس أيها الأحرار أو امتشقوا الحسام فالسيف أصدق أنباء من الكتب!
نحن سواد الناس وعامتهم لا نعرف السياسة ولا علاقة لنا بها فنحن العوالم التي توجد خارج نطاقها نجتهد في توفير اللقمة لصغارنا بالكد والعمل والذي أصابنا إجرام صريح يروم إذلالنا وسرقة ما عندنا بل وإبادتنا إن استطاع.
وتلك هي السياسة البغيضة التي تشبه التلوث والتي تلوّث الفطرة السليمة الحريصة علي حفظ النوع لا استئصال شأفته والتي هي أيضاً اللَوثة والجنون المفضي إلي ذلك وهي التي لا نعرفها لأن خيوطها تنسج بعناية في مراكز القوة والجبروت ويُسخَر لتنفيذها مستجدو النعمة في الجوار يحسبون أنه السبيل الأوحد إلي العظمة ورضا الأقوياء والقبول في أندية البيضان بالإنتساب . ورهط من أبنائنا وبناتنا يرضون من ذلك كله بفتات لا غني له مجلبة للعار والشنار في صحائف التاريخ غداً ومذمة للنسل واحتقار.
والفرحة المستحقة بعودة مبني الإذاعة والتلفزيون فرحة بعودة المعاني لا المباني .وهي فأل حسن يحمل في طياته الأمل في النصر الكامل علي البغاة واسترداد الوطن الحبيب .
وحين يحدث ذلك لن يسلّم الشعب نفسه من جديد لطغاة جدد مدنيين كانوا أو عسكريين يستعينون في سبيل السيطرة عليه وتدجينه , بالخارج أياً كان ذاك الخارج إوبمليشيات جديدة ,بل لن يرضي إلا بحكم يقيمه هو عبر الصناديق في كنف الرقابة والشفافية ويرعاه هو وحده دون وصاية من أحد وتلك غاية دون تحقيقها المهج والأرواح لكنها لازمة وضرورية يوجبها هذا الدرس القاس الذي عشناه ولعمرك هذا هو الجانب المشرق من السياسة الذي نعرفه جميعاً ونتوق إلي تحقيقه ولك أن تزعم أنههز الديمقراطية الحقة.