عابر خليج! – 4

لم تلبث الغربة التى كانت بادىء ذى بدء مخرجا وحيدا للكثيرين من بطش السياسة وملاذا آمنا من ويلاتها أن أصبحت اختيارا تزاحم على حوضه الأولوف طواعة. بعضهم رغبا فى عيش كريم وهروبا من حال بئيس أصبح يتردى فى دركات السؤ يوما بعد يوم وبعض آخر من متوسطى الحال والميسورين خافوا أن يصبحوا هم الفقراء المعسرين ان همو لم يلحقوا بأولئك خاصة وقد صنع الناس من الغربة أساطير عجيبة عن ضخامة الأموال هناك ويسر الحصول عليها. وخلافا لحال أمهات الأول اللائى فضلن اغتراب الأبناء على وقوعهم فرائس سهلة لزوار الفجر فحثثنهم على السفر بعيون باكية وقلوب أسيفة وحشا محروق , غدت أمهات الأفواج اللاحقة من المغتربين يدفعن بهم قسرا بعد أن أصبح الاغتراب وجاهة وجاها دونه كل جاه. تقول احداهن وفى صوتها قسوة توبيخ وزراية وتهمة خمالة وكسل:
” يا ولد القاعد ليها شنو متل العجائز ؟ وظيفة شنو وعربية شنو العندك دى؟ أولاد نفيسة أختى فى سنتين سووها عمارة ودكاكين وتكاسى!”
قلت مرة ما عهدنا الأمهات فى السودان محرضات على سفر! ما الذى حدث؟ زلازل وبراكين وعواصف مسفة هزت حياتنا من القواعد هزا عنيفا عشيت فيها الأبصار واختلت الرؤى. ترى ماذا يخبىء لنا الغيب فى مقبل الأيام والليالى سيما والليالى من الزمان حبالى يلدن كل عجيب!
لشد ما ساء الفتية موضوع هذه الحلقات أن يروا أعدادا مقدرة من رجال التعليم من الكهول والشيوخ الموقرين قد دفع بهم ضيق الحال بعيدا عن قلاع كانوا يصنعون فيها المستقبل الى أتون غربة لم تعد أجسادهم المنهكة تقوى عليها يهيمون فيها على وجوهم بحثا عن عمل أى عمل شريف. كان المعلم فى مجتمعنا موضع التقدير والاجلال والغبطة والحسد معا. قالت مغنية البنات على أيامنا:
يا ماشى لى باريس
جيب لى معاك عريس
شرطا يكون لبيس
ومن هيئة التدريس
النارى……..
سايق العظمة سافر خلانى ليه!
أذهب الاغتراب للأسف بهاء المعلم المستحق بجدارة وانصرف الثناء الحسن الى المغترب وأنتم تحفظون من ذلك الكثير . و(بلاش أنا).
غريب غناء البنات . هل هو عين دالة وآلة راصدة تؤرخ للأزمنة والأمكنة؟ كنا فى المدرسة الابتدائية التى كانت تسمى الأولية فى بداية ستينات القرن الماضى وانتقلنا الى حى السجانة الجديدة فى الشارع الذى تقع فيه محطة حجازى فى الخرطوم وهناك كان حفل ختان أنجال رجل نسيت اسمه , ميسور الحال مقارنة بأهل الحى فهو صاحب ورشة فى المنطقة الصناعية وله سيارة. جاء هذا الرجل بالفنان الراحل عبد العزيز محمد داود و الموسيقار الراحل برعى محمد دفع الله وفنان شاب يدعى يحيى الأمين لاحياء المناسبة السعيدة. وكان الحفل خاصا مقصورا ربما على ذوى الرجل وأصدقائه حيث انعقد الحفل داخل الصالون وليس فى فناء الدار. ربما كان ذلك بسبب قساوة البرد ذلك العام ولا أذكر على وجه الدقة لماذا لم نكن ضمن من بالصالون رغم أننا من أبناء الحى ربما لصغر سننا. لقد تسمرنا على شبابيك الصالون من الخارج فى برد قارس لنتابع ولتكتحل عيوننا بنجوم متلألأة فى ذلك الزمان. ثم صدحت حسناء :
أرزونا .. لى .. لالا
حبيى يا الراكب التكسى
يا نور عينى شفاء قلبى
لو ما بخاف من ربى
كنت عبدتك يا وردى
يا وردى!
وكان وردى قد خرج على الناس للتو بلو بهمسة.
ونرجو ألا تكون المغنية قد وقعت فى المحظور فقد منعتها على كل حال مخافة الله من عبادة العباد. ومن الكلمات والعبارات ما هو أدخل فى دائرة الجد ووروده فى غيرها يخدش الحس ويفسد الذوق أحيانا والأولى تركه وحصره فى ماهو أليق به .وقولها من قبيل ما قال شوقى فى تعظيم الأم :
لولا التقوى لقلت لم يخلق سواك الولدا
ان شئت كان العيرا أو ان شئت كان الأسدا
وعلى ذات النسق من التحرز فعل شوقى فى مدح المعلم:
قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا!
وأعجب اليوم من ورود كلمة “أريزونا” فى غناء شعبى دارج وأريزونا هى احدى ولايات أمريكا وقد تشبه الخرطوم فى طبيعتها الصحراوية الجافة. وهى قبلة لمرضى الربو والروماتيزم لذلك السبب. هل نقول ان كلمات الغناء أو ربما غناء البنات والسيرة لا تعلل لأن حفاوة المغنين والمغنيات بالموسيقى أشد من احتفائهم بالكلمات؟ وكثيرا ما يسألونك فى الغرب عن الذى يستثير طربك فى الغناء أهى الموسيقى أم الكلمات. وقالوا ان الشعر العربى أصله الغناء. وقد سمعت الشاعر المبدع الجواهرى يقول فى لقاء تلفزيونى قبل موته بأعوام أنه يقرض الشعر على نسق ما يصنع من الغناء أى أنه يرصع النغمات بالكلمات المناسبات من الأشعار. قال الفنان المبدع الكبير عثمان حسين أنه وضع لحن أغنيتين هما (ناس لا لا) و (كل لحظة ) ثم طلب من الشاعر الرصين السر دوليب تطريز الكلمات المواكبة للحن. معذرة لا أدرى من الآخر هل هو الشاعر السفير صلاح أحمد أم المرحوم عبد المنعم عبد الحى.
وعلى ذكر الجواهرى وشعر العرب فقد انتقل أصحابنا من اقامتهم تلك الى دار حديثة قريبة من وسط المدينة رغم أنها على تخومها أيضا واقتنوا جهاز تلفزيون. ( كان الراحل على الطنطاوى يستبدل الكلمة الفرنسية تلفزيون بترجمة عربية فيقول الرائى كما حاولوا ربما فى مجمع اللغة العربية فى القاهرة مع كلمة راديو فجعلوها الحاكى. تلك محاولات لم تصادف نجاحا.) وتعرف أصحابنا عبر ذلك الجهاز على غناء جميل لمغن يمانى حسن الصوت:
يا طير مالك والبكا خلى البكاء لى
خلى البكاء لى
وهالهم ابداع فنان المغرب الكبير عبد الوهاب الدوكالى. قال ( أغنى لكم أغنية باللغة العامية المغربية. ) وشرح لهم اللحن الموسيقى حتى تسهل عليهم المتابعة فيطربوا للغناء. قال: ( قولوا معى:
كم تكى هوم…كم تكى هوم..) ثم شدا كالعندليب:
مرسول الحب … فين مشيتى و فين غبتى علينا
خايف لا تكون نسيتنا وهجرتنا وحالف ما تعود
ماذا الحب بينا مفقود وانتما النبع وسقيتينا…وسقيتينا
مرسول الحب غيابك طال هذى المرة … هذى المرة
وقلوب الأحباب وانت بعيد ولت صحرا
لا يحركها احساس جديد ولا تنبت فيها زهره
تعال .. تعال.. يا مرسول .. اشتقنا لك يا مرسول.. هاى.. هاى
تأمل قوله مخاطبا مرسول الحب بأن طول غيابه هذه المرة قد أحال قلوب الأحباب الى صحراء (ولت صحرا) وولت فى عامية المغرب الكبير معناها أصبحت فى هذا السياق. ومعناها على الاجمال يشبه نقيضها فى عامية المشرق فالتولى هو الادبار والذهاب بعيدا لكنها فى المغرب تعنى الاتيان والحضور. استفسرت حسناء فى سفارتنا فى الجزائر عن صديقة لها كانت تعمل هناك :(بالصح.. فلانة تولى؟ ) أى تداوم!
والدكالى قامة فى الفن الأصيل سامقة .. لله دره لو تغنى بصوت رخيم بأغنية تقول كلماتها:
كان يا ما كان….
والمغرب بلد جميل معطرة سماواته بالتاريخ الجميل أيضا..المرابطون والموحدون تسمع باذن الخيال حوافر خيولهم وصهيلها وهى تسعى بهمة فى مغازيهم! وتسمع أيضا تراتيل مشايخ التصوف أحمد التجانى والآدريسى وترى بعين الخيال أروقة جامعة القرويين فى فاس القديمة غاصة بطلاب العلم ينصتون فى شغف وكأنما على رؤوسهم الطير للعلامة عبد الرحمن بن خلدون يؤصل ويضع الأسس لعلم الاجتماع الحديث.
هذا ضرب من نتائج الانفتاح على الغير وأيضا على الذوات القريبة التى فرقتها الحدود المصطنعة.
وفى الغربة التقى تدين السلوك والمقاصد الذى وسم التدين فى السودان وهو تدين تعبر عنه السلوكيات أكثر مما تعبر عنه الشعائر , بتدين ترعاه النصوص وتقوم عليه. وآثار هذا التلاقح شاخصة فى سودان اليوم. وفى الغرب يميزون أيضا بين ضربين من التدين فيطلقون على من ظنوا نقاء سريرته واخلاصه فى القول والعمل من المتدينين كلمة روحانى Spiritual وقد يصفون غيره من المشتغلين بأمور الدين بمطلق الشعائر والطقوس كلمة religious والتى لا تقابلها بالضرورة كلمة متدين بظلال معانيها لدينا اذ أنها عندنا قد تطلق على المتدين الروحانى نقى الروح والسريرة.
كان الفضيل بن عياض من أعلام المذهب المالكى- ان لم تخنى الذاكرة- وكان عابدا متبتلا كثير البكاء من مخافة الله ومن حبه اياه كذلك جمع بين معارف الدين التى كان يدرسها فى الحرم الشريف وبين الاجتهاد فى العبادة والتقرب الى الله فهو متدين روحانى. لكن عبد الله بن المبارك اتخذ الجهاد والمغازى قربة الى الله تعالى ولم ير سوى ذاك السبيل طريقا الى رضوان الله فكتب للفضيل بن عياض الأبيات التاليات:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله فى باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم وعبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب
وقريب من مثل هذا السجال – مع فارق لا يخفى- وقع بين المتصوف عبد الصادق الهميم أحد أعيان السادة الركابية فى المفازة نواح القضارف وبين قاضى العدالة ود دشين. وآل دشين أسرة عريقة فى المدنيين فى ود مدنى وهم عشيرة الشيخ ود مدنى السنى الذى سميت عليه المدينة المعروفة عاصمة الجزيرة الخضراء حيا ربوعها البهية الحيا. ولعل السنى صفة ودالة على اتباع الشيخ الجليل للسنة النبوية المطهرة انتقلت الى أسلافه لذلك اعترض القاضى دشين على جمع ود عبد الصادق الهميم بين الأختين فى الزواج والعهدة على ود ضيف الله صاحب الطبقات . قال ود الشين ان هذا العقد باطل لمخالفته صريح الآية القرآنية ” حرمت عليكم أمهاتكم و… .. … وأن تجمعوا بين الأختين الا ما قد سلف”(النساء الآية 23). وعلى ذلك فلا بد من فسخه. رد عليه ود عبد الصادق داعيا عليه ” الله يفسخ جلدك!” قال ود ضيف الله فانفسخ جلده! الا أن الرجل لم تلن له عريكة واستمسك بقضائه ولعله قال ” والله لو فسخت جلدى مائة مرة فهذا العقد باطل لا يجوز.” ويروم ود ضيف الله تعظيم الرجلين معا فيوح لك بأن القاضى حكم بظاهر الشرع الا أن ود عبد الصادق يرى بعين الباطن ما لا يعقله العقل الذى يحكم بظاهر الأشياء! وهذا جدال ليس هذا موضعه ولا نملك عدته ساقتنا اليه الشجون.
وفى الختام نستغفر الله من لغو الشتاء ولعله سبحانه يقيض لنا فسحة من الوقت والأجل فنمض بهذا الحديث فى شأن الغربة والاغتراب وما كان من أمر الفتية أرصد, سارية اصيفر وصحبهم الى نهاياته.

تعليقات الفيسبوك