بعث إليّ الأخ الصديق الأستاذ عبد المنعم الأمين عبد الرحيم بحلقة سجلها راديو الكويت مع الأستاذ الأديب العربي محمود محمد شاكر، أغلب الظن أنها سجلت في النصف الثاني من ستينيات القرن العشرين حيث وردت الإشارة إلي الدكتور طه حسين بما يفيد بأنه كان لا يزال علي قيد الحياة حيث وافته المنية عام ١٩٧٢ ، كما جاء في ثنايا الحديث ذكر العام١٩٦٥ . وكنت قد أشرت إلي الأستاذ محمود محمد شاكر ،إشارة عابرة جاءت في سياق الحلقة الأولي من سلسلة من الذكريات بعنوان “أسمار” نشرت منها جريدة ” الرأي العام” جدد الله شبابها ، خمس حلقات وتوقفتُ لعوارض وقتها عن الكلام المباح، جئت فيها علي ذكره فيما اتصل بكلمة أسمار في كتابه “أباطيل وأسمار”. وتلك الحلقات منشورة كذلك في الغراء الإلكترونية “سودانايل” . وربما في غيرها ،قلت فيها إن الرجل أغلظ علي الدكتور لويس عوض وأشرت إلي أن لكليهما صلات بالسودان كما أشرت إلي حديث حسن قاله في شأن العلاقة بين مصر السودان وأشرت إلي أن أباه الأستاذ محمد شاكر عمل قاضياً للقضاة في السودان وقام بالتدريس في كلية غردون كما ذكر ذلك البروفسور عبد الله الطيب. وفي الحلقة المسجلة في إذاعة الكويت، موضوع هذه المقالة، أكد ذلك كله وأضاف إليه أن أخاه الأكبر الأستاذ أحمد شاكر بدأ دراسته في كلية غردون في الخرطوم وأتمها في معهد يتبع للأزهر في الإسكندرية عهدت إدارته لوالده بعد عودته إلي مصر حيث تخصص في العلوم الشرعية وعلوم الحديث. وعن نفسه ذكر أنه درس في المدارس العصرية التي أسس مناهجها الإنقليزي دانلوب عام ١٩٠٧ الذي كان مستشاراً مسؤولاً عن وزارة المعارف في مصر. وهو الذي فيما قال الأستاذ شاكر، الذي قطع صلة التعليم في مصر بتراثها الحضاري والديني لدرجة بلغت حد سخرية الأجيال الحديثة من الحضارة العربية والإسلامية والتقليل من شأنها واحتقار من يحملونها ووصمهم بالتخلف والتحجر بدءاً بجيله هو، الجيل الذي التحق بالجامعة في العام ١٩٢٥ وبعده،. قال :” أول أثر شهدته لهذه المدارس أني وأنا صغير، رغم نشأتي في بيت من بيوت العلم والأدب والديانة، فإني قد كرهت العربية كرهاً شديدا ككل شاب مصري يكره العربية إلي يوم الناس هذا. وصار أمر العربية محتقرا ومدرسوها أشد احتقاراً كالعهد بهم إلي هذا الوقت”. وقد أفاض في ذلك في كتابه ” المتنبي”. ولذلك السبب كان يبغض العربية وعلومها جميعاً رغم أن دارهم كانت منتدى لكبار المثقفين الذين يشار إليهم بالبنان في ذلك الزمان، ذلك لأنه كان من ذلك الجيل (المفرغ) من ثقافته، المقطوع الصلة بها كما قال. كان تلميذا متميزا متفوقاً في كافة المواد الحديثة، الرياضيات، العلوم واللغة الإنقليزية بينما كان ضعيف التحصيل في علوم العربية وآدابها. لكنه كان كلفاً بالخطابة السياسية والمناظرات أيام ثورة ١٩١٩ وكان بيتهم محجة للأدباء والمشاهير من كافة طوائف المجتمع وكان يغشاهم المازني والرافعي وطه حسين وكتاب المقطم والجهاد من أعلام صحافة ذلك الزمان. تلك الأجواء، أجواء الثورة، منحته حرية للحركة لم تكن متاحة لغيره من الصغار أمثاله في ذلك الوقت. ومكنته من التعرف علي شباب يكبرونه قليلا في الأزهر في سن السابعة والثامنة عشر وفي الجامعات مما قاده مرة ومرات للجامع الأزهر يستمع للخطباء ومن يتدربون علي الخطابة من الشباب هناك. واتفق مرة أن كان هناك في غرفة صغيرة للأستاذ محمد نور الحسن في رواق السنارية. والأستاذ محمد نور الحسن علم من أعلام العلم أصبح وكيلاً للأزهر حال بينه وبين أن يعين إماماً وشيخاً له كونه سوداني لا يحمل الجنسية المصرية. استمع الصغير محمود محمد شاكر في تلك الغرفة من رواق السنارية لطلاب سودانيين يقرأون ويتناقشون حول ديوان المتنبي وشعره. فجذبه ذلك للمتنبي وشعره فأحبه وقص كيف قايض ديوان المتنبي بشيء من المال دفعه لقريب له كان يقتنيه فسلمه الديوان و كيف كان وهو في السنة الرابعة الابتدائية يقرأه في الحمام حتي حفظه كله حفظاً متقناً دون أن يفهم شيئاً من معانيه ، ولم ينس أن يشير إشارة ذات مغزي في الزمان الذي سجل فيه ذلك اللقاء وفي زماننا هذا، قال:” كنا ونحن في تلك السن، وفي السنة الرابعة الإبتدائية نحسن القراءة “، كأنه يعرض بهذه الأزمنة جميعاً!! فأحيا ذلك حبه للعربية وللشعر خاصة الشعر الجاهلي. ومن يومها صرف بقية حياته للأدب وعلوم العربية في تحول كامل، بل حول تأهيله من المساق العلمي إلي المساق الأدبي حيث التحق بكلية الآداب بواسطة من طه حسين لمديرها أحمد لطفي السيد الذي وضع قانونا صارما يحرم دخول طلبة المساق العلمي لكلية الآداب. ورواق السنارية هو المكان المخصص في الأزهر الشريف للسودانيين القادمين من مملكة سنار والذي كان هو اسم السودان طوال فترة حكم مملكة الفونج أو السلطنة الزرقاء بين الأعوام ١٥٠٤ والعام ١٨٢٠ الذي انتهي بغزوة والي مصر محمد علي باشا. وكان هناك رواق آخر لطلاب سلطنة دارفور التي كانت مملكة مستقلة حتي العام ١٨٧٤ حيث ضمها الزبير باشا رحمة لأملاك الحكم التركي المصري للسودان. وقد استقلت السلطنة بعد سقوط دولة المهدية علي يد السلطان علي دينار وظلت كذلك حتي أعادها الحكم الاستعماري في العام ١٩١٦ فأصبحت جزءاً عزيزا بعد ذلك من السودان المستقل. وقد ظل اسم سنار والسنارية دالاً علي السودان والسودانيين حتي في ظل الحكم العثماني ففي مديح حاج الماحي خاصة المدحة الأشهر (بحبو من صغير) . قال خاطبوهم في أرض الحجاز عندما قدموا للحج: ( وقالولنا حباب السنانير!) وقالت خالة لي تمكنت من أداء الفريضة أوائل ستينيات القرن العشرين أنهم خوطبوا بذات الاسم: حباب السنارية! ذلك بعد نحو قرن كامل بعد مدحة حاج الماحي.
ورواق السنارية في الأزهر معلم ثقافي دال علي تعلق السودانيين بطلب العلم والارتحال إلي مظانه البعيدة وتحمل صعاب السفر في الزمن القديم للوصول إليه. وقد ساءني ما ذكره لي قبل سنوات الأستاذ هاشم الإمام محي الدين الذي زار الجامع الأزهر فلم يجده ولما سأل عنه قيل له أنه حول إلي مكتب فأبلغ الملحق الثقافي بسفارتنا في القاهرة بذلك ورجاه التحري في الأمر والسعي لإعادة الرواق إلي ما كان عليه، وشيجة تربط بين الشعبين ومعلم من معالم ممالك السودان القديمة. ولئن كان التغيير قد طال كافة أروقة البلدان الأخرى قيمكن فهم الأمر في اطار سنن التغيير التي تطال كل الأشياء وإلا فليعامل رواقنا بالاحترام والمحافظة أسوة ببقية الأروقة.
ونعود للإستاذ محمود محمد شاكر فنقول إنه حفظ الود القديم لأشقائه في السودان وكنت قد أشرت في مقالتي سالفة الذكر(أسمار١) إلي أنه قد تصدي بالنقد للذين تحسروا علي ما أنفقت مصر علي السودان بعد أن اختار السودانيون الاستقلال علي الوحدة أو الاتحاد مع مصر، بأن ذلك أضعف الحجج وأن الذي بين البلدين أكبر من ذلك بكثير. والرجل وفي لمعتقده فقد ذكر في اللقاء موضوع هذا الحديث أنه عربي وحسب لا تحده حدود قطر بعينه فأقطار العرب عنده جميعا، قطعة واحدة مترامية لا تتجزأ. قال (أنا لا أعد نفسي مصريا ولا مغربيا ولا سودانيا ولا عراقياً…) وعدد سائر أقطار العرب قاطبة ليخلص لعبارته الآنفة الذكر بأنه عربي وحسب. ولعل السودان، فيما قرأت، قد حفظ ود الرجل للسودان فقد توسط رئيس وزراء السودان الأسبق الأستاذ محمد أحمد محجوب لإطلاق سراحه عندما سجن في عهد الرئيس جمال عبد الناصر إثر وشاية ضارة فالرجل لم يكن منتمياً لحزب ولا لجماعة. قلت لعل المحجوب قد تتلمذ علي والده الذي كان يدرِس في كلية غردون أو لعله زامل أخاه الأكبر أحمد محمد شاكر في تلك الكلية، الله أعلم أي ذلك كان.
وفي الختام نشير إلي أن الرجل لم يكن عدواً للحضارة الحديثة مشدودا لأمجاد الماضي البعيد بلا روية ولا تمحيص للصالح فيها وللذي كان فيها ابن زمانه وحده، لكنه كان مثقفاً ثاقب البصيرة أعيته خفة وسعادة ساذجة اكتنفت البعض بمظاهر الحضارة المعاصرة وإفرازاتها فأدارت ظهرها لتراث تليد راسخ القدم يعد قاعدة صلبة تبني علي قواعدها ثمرات الجهد والناتج الإنساني الذي تعيش بعض فوائده البشرية اليوم.
ولعلنا نفصل في ذلك، إن أذن الله بذلك، عند استعراضنا لكتابه العمدة (المتنبي).
سودانيون في رواق السنارية حببوا العربية لمحمود محمد شاكر عبر المتنبي !!
0