والدمعة على من مات فى مثل سنه والعود مخضر والفرع مسود لا تكون بالحرى إلا حرى. حارة نازفة مفجوعة وملتاعة. فقد خبرنا الموت يتصيد فى غالب الحال, الشيخ الفانى والشيخة العجوز قبل الفتى الفتِى والفتاة الغضة البضة , فيتأسى الناس ويجدوا بعض السلوة فيما أمضى أولئك من طول السنين والأعوام فكأنهم يغادرون فى ميعادهم بعد أن أدوا مهامهم بين الأحياء. والشيخ الفانى هو أنا والفتى الفتِى هو جعفر. حملته على ظهرى صغيراً وأنا طفل كبير أكبره بنحو ثمانية من الأعوام. لاعبته وأضحكتنى أول كلماته المتعثرة يشير إلى شارع بيتنا فى السجانة إذا مر يوسف الذى صوروا لنا يومها أنه قد قام بعد الموت من قبره . كان يحمل طبقاُ من السعف على رأسه وهو ينادى على بضاعته القليلة المزجاة (جوافة… ليمون… نعناع!) كان فى نحو السبعين متجهم الوجه مقطب الجبين ضجِراً تخاله بالفعل قد قدم من العالم الآخر. وتبدو الدهشة على الصغير فيشير جاداً إلى حيث يأتى الصوت (الديو..ديو..) يحاول تقليد الرجل فتخرج كلماته فى معاناة وكبد..كيف لا وقد ولد فى كبد! ولد دوننا فى مستشفى الخرطوم الذى كان جديداً فاخراً أول العهد به.أبقوه ليومين فى سرير صغير أخضر اللون صنع على هيئة أرجوحة. ومات أبوه وهو فتى فى سن موته هو تركه طفلاً فى عامه الثانى يعالج الكلمات وكان أشبهنا جميعاً به خَلقاً. أخذوه و أخوته وأمه وهذا الطفل الذى هو الآن هذا الشيخ الذى يسطر هذه المناحة وهو كبيرهم يومئذ من الذكور إلا أحمد وكان فى نحو العاشرة بقليل إلى محطة القطار فى الخرطوم كى يعودوا لمسقط رأس أبيهم الراحل للتو فى الشمال قبل القصى . وهناك فى محطة القطار قال عقلاؤهم يبقى هذا الكبير ليواصل تعليمه. فتشبث به جعفر وهو يحمله على جنبه يلح عليه لدخول القطار معهم والطفل الكبير الذى هو هذا الشيخ اليوم ,لايرقأ له دمع يود لو تركوه يذهب فى صحبتهم. لحظات لا يزال هذا الشيخ يحاذر من تذكرها فجراحها لم تندمل وما أحسبها تندمل حتى يلحق به فى عالم البقاء السرمد . والأحزان لا تموت لكنا نعزي النفس منها بالتأسى كما قالت الخنساء رحمها الله. أفراخ زغب الحواصل وأم شابة مريضة لا تكاد تقوى على المشى شاء الله أن يرحم جسدها الناحل الذى هدته الروماتزم وفؤادها المكلوم وعيونها الباكية على بعلها فى جوف الليل وفرقاً من مصير ينتظرصغارها الله وحده العليم كيف يكون, فأراحها بقبض روحها بعد عامين ففقد جعفر وفقدنا معه آخر الحوائط الحصينة . وهكذا أصبح صغيرنا وهو فى عامه الرابع يتيماً أكتملت حلقة يتمه تماماً.وكان أحمد – مد الله فى عمره وأسبل عليه ثوب العافية-هناك ليلتقط قفاز العبء الكبير فيحيطهم جميعاً حوط الحمى برعايته حتى شبوا جميعاً عن الطوق: هاشم, جعفر, الخضر , السيدة وسعيدة.
لم يكمل جعفر تعليمه كما رجونا لا عن عجز لكنه كان يكره قيود التعليم النظامى فقد كان يعشق الحرية فى كل شئ لكنه استدرك ما فاته من محاسن التعلم المنتظم فثقف نفسه بنفسه وأصبح خبيراً فى المكتبات. وقد ذكر أحد أصدقائه من أساتذة جامعة إفريقيا العالمية وهو يؤبنه أمام المصلين فى حيه, أن الأساتذة والباحثين كانوا يعتمدون على خبرته الطويلة مما أتاح له فرصاً واسعة للإطلاع فأصبح كاتباً متمكناً رصين العبارة مرتب الأفكار يتذوق جميل الأشعار فى الفصحى والعامية بل ويدبج المقالات تخاله من المتفوقين حملة الشهادات. وكنت كثيراً ما أجده يجادل المثقفين بمنطق قوى وحجج دامغة . ولعل الظروف التى عاشها قد عجمت عوده فقد كان قوى الشكيمة جهورى الصوت, صريحاً لا يخشى فى الحق لومة لائم. صفات ربما يظن البعض أنها منفرة لكن يدحض ذلك أنه كان كثير المعارف بأصدقاء كثر من جميع طبقات المجتمع ومختلف دروب الحياة لا تهمه المناصب والمقامات يلتمس فيمن يصادق نقاء السريرة وكمال الإنسانية وشيم الوفاء. ورغم الصرامة التى تبدو فى مظهره فقد كان رقيق الدواخل قريب الدمعة وكان يحب الفكاهة وكان رواية للطرائف والمُلح يضحك من القلب ملء أشداقه.
الله يعلم كم فجعنا بموته الباكر كما فجعنا بموت أبينا الباكر من قبل. لكنا بقضاء الله راضون فكل نفس ذائقة الموت: مآقينا مبللة فالمشاعر إذا فاضت جرى الدمع السخين وقلوبنا منفطرة بالحسرات على فراقه الأبدى فى دنيا الناس هذه وأكبادنا تتفتت كما لو أن السهام قد صوبت إليها كلما جرى اسمه على لسان .وحالنا بفقدانه مثل حال ابن الرومى يبكى على ولده – فقد كان منى بمنزلة الابن- يقول إن بقاء أخويه لا يخفف حزنه بل يجدد مواجعه:
محمد ما شئ توهم سلوة لقلبى إلا زاد قلبى من الوجد
أرى أخويك الباقيين كليهما يكونان للأحزان أورى من الزند
إذا لعبا فى ملعب لك لذعا فؤادى بمثل النار من غير ما عمد
فما فيهما لى سلوة بل حزازة يهيجانها دونى وأشقى بها وحدى
ومع ذلك فقد خفف من مصابنا الجموع الغفيرة من الخيرين, أهل الوفاء الذين توافدوا للصلاة على جثمانه والمئات من أهلنا و أقاربنا وأصدقائنا وزملاء الفقيد ونفر كريم من المسؤولين على مستوى المركز والولايات الذين سارعوا معزين من العديد من مدن السودان وأولئك الذين هاتفونا من جميع بقاع المعمورة من سفراء السودان ودبلوماسييه ومن المواطنين المغتربين فى المهاجر المختلفة ومنهم من أقام المآتم يتقبل العزاء نيابة عن الأسرة . الله نسأل أن لا يريهم مكروهاً فى أحبائهم وأن يجزل ثوابهم صحة ورضا فى هذه الفانية وقبولاً وغفراناً فى التى هى أبقى.
غفر الله لجعفر وأدخله الجنة بغير حساب وجعل البركة فى ذريته:معتز , مازن , محمد وفاطمة وفدوى وهالة. ومتع الله السيدة العظيمة حرمه المصون بنت الناس محاسن بدر دياب بالصحة وبدد أحزانها. آمين.