وفصيح كلمة (عكفة) هو عقفة. والمعقوف فى اللغة هو الملتوى. رجل ذو أنف معقوف أى ملتوى عند أرنبته . وقولك الكلام بين معقوفتين أى بين هلالين هكذا ( ). فكأن عاميتنا قد استبدلت القاف بالكاف. وهذا الإبدال معروف عند العرب . نقول ويقول العراقيون (كتله) يريدون ونريد (قتله) وحتى فى معرض الإستعارة يتطابق الإستعمال. وعليه فعقفة السرج الذى يوضع على ظهر الدواب للركوب هى شكله الهلالى المقوس الذى يناسب تقويسة ظهر الدواب.
والعلاقة بين هلال الشهر الفضيل وسرج الدواب قصة طريفة رواها على مسامعنا صديق ظريف يدلل بها على ضرب من العناد الطفولى الذى لا يرى الأشياء المحسة الشاخصة كما نراها بأعيننا بل كما يريدها هو أن تكون كقولهم فى القصة المشهورة عندما اختلف أثنان على مخلوق يرونه من بعيد . فقال قائل هو طائر بينما قال الآخر بل هو عنزة .وبعد برهة طار ذاك المخلوق فى الهواء فقامت الحجة على من قال إنه عنزة لكنه لم يقر بالهزيمة فأقسم قائلاً “عنزة ولو طارت” ولا ندرى بم أقسم ؟ هل أقسم بالخالق العظيم أم أنه طلق المسكينة أم العيال!
قال صاحبنا إن الخصومة الفاجرة ميزت العلاقة بين قريتين فى السودان هما قرية تسمى (أولاد عبد الله) وأخرى. وأن شباباً من تلك الأخرى قد علموا عند مرورهم من مزرعتهم مساء على قرية أولاد عبد الله أن أصحاب نظر حديد فيها قد رأوا هلال شهر رمضان المبارك وعليه فقد وجب الصوم غداً. ولما بلغوا مساكنهم عشاءاً نقلوا الخبر الهام لأبيهم الذى لم يكن مستعداً فيما يبدو للإنخراط فى إنفاذ فريضة الصوم هكذا على عجل. فتساءل عن مصدر ثبوت الشهر فأخبروه فاستشاط غضباً مستعيناً بدرع البغضاء بين القريتين فى دفع حجة الثبوت:
” انتو جنيتو يا جنيات…. ولاد عبد الله ياتن البشوفو الشهر؟.. روحو شوفولكم شغلة.. والله إن جابو الشهر عكفة سرج ما نصوم معاهم..!” أى ” لو أن ناس قرية عبد اللهجاءوا إلينا يحملون شهر الصيام غضاً مقوساً تقويسة السرج ما صدقناهم!” وهذا ضرب فى العناد لا نظير له كما ترون.
ودلالة الطرفة بل ومغزاها لا تبقى حصرياً على المثقفين كما يؤمى العنوان ولكنها تسع الناس جميعاً فى السودان وهى خاصية يصنع بنا خيراً من يعكف على دراستها ضمن خصائص الشخصية السودانية. لكنا خصصنا المثقفين للتبعات الملقاة على كواهلهم بحكم المعارف التى أنفق عليها سواد الناس على ما هم فيه من المسغبة ورقة الحال لإكتسابها ليديروا بها الدولة والبلاد. والمثقف الحق ذو عقل ناقد يسبر غور الأشياء وإن خطا خطوة أخرى فى مدارج الكمال ,وطَّن نفسه على تقديم التضحيات من أجل المجموع. قال الدكتور مارتن لوثر كنق– وهومثال للتضحية والفداء- فى الليلة التى سبقت إغتياله وكأن ستر الغيب قد كشفت له وقد جاء إلى ممفيس نصيراً للغلابة عمال النظافة المضربين ينافح عنهم:
“إننى ككل الناس أتطلع لحياة رغدة ممتدة فى الزمن.. لكننى لست معنياً بذلك الآن حيثأن الرب قد رفعنى عالياً إلى قمة الجبل وهناك رأيت أرض الميعاد (أى أرض العدالة التى تطمحون إلى تحقيقها) . إننى قد لا أصل إليها معكم.. لكننا كأمة سنصل إليها! لذلك وحده فأنا لا أخاف أحدأً ولا شيئاً لأننى قد صعدت إلى قمة الجبل ورأيت أرض الميعاد.” ثم خنقته العبرات فعاد إلى مقعده..
وكنت قد نعيت مثل هذه الخصومة على مثقفينا فى مقالة من ثلاث حلقات على صفحات “الرأى العام ” الغراء فى النصف الثانى من عقد تسعينيات القرن المنصرم بعنوان ” المثقفون السودانيون: اتكاسروا القحف ودقوا بينهم عطر منشم !”.وكان قد غمزنى بذلك العنوان ممازحاً صديقنا السفير الدكتور الدرديرى محمد أحمد قائلاً “اتكاسروا القحف هذه لعلها تعنى قومك عيال شايق.. أغلب الظن أنهم تعاركوا فى خمارة شعبية فكسروا جرار الشراب الحرام!” ولعل الرجل لم يبعد النجعة فى الربط بين القحف والشراب لأن (القِحْف) من فصيح العربية) وقد قال أمرئ القيس حين أخبروه أن أباه قد قتل:” اليوم قحاف وغداً نقاف” أى اليوم شرب خمر بالقاحف وغداً قتال”. والقحف هو عظمة الجمجمة التى تلى الدماغ وتطلق مجازاً للإناء يكون على هيئتها ولما انثلم من كل إناء. والآنية كانت من الخشب والفخار أيضاً فالِفلقة منها تسمى قحفاً.فالقطعة مما انكسر من الزير والجرة والبرمة من الفخار تسمى قحفاً . وتلى مدينة العيلفون قرية تسمى (أم قحف). وكنت قد أشرت إلى ضرورة الحوار بين المثقفين وصولاً إلى تراض يشكل قاعدة إنطلاق للبلاد متفق على خطوطها العريضة وأن ذلك يستلزم نسيان مشاجرات ايام الطلب فى الجامعات والمعاهد العليا وضرب الأسياخ! سيما وقد وخط الشيب الأفواد وصقلت التجارب العقول وتمددت الحكمة والتثبت مكان النزق والحماسة وفورة الشباب كما أشرت إلى خطل حملة كانت فى أوجها يومئذٍ تستهدف الكيانات الطائفية وجوداً ورمزية وضربها . قلت إن تلك الكيانات هى إحدى مكونات الثقافة الإسلامية والوجود السودانى ارتقت بالسودان خطوة فى سلم الإنصهار الوطنى درجة فوق القبلية وأنها كيانات مميزة لتطور الثقافة السودانية ينبغى الصبر عليها حتى ترتقى وفق آليات التطور الطبيعى عبر التعليم والتثقيف لوطنية جامعة تنصهر فيها الأعراق والأمزجة الدينية والروحانية لأن القضاء عليها واستئصالها بالقوة إن نجح , يترك فراغاً ليس فى مقدور الحركة الإسلامية سده مع الإقرار فى مقالة سابقة أخرى فى يومية الأنباء” بعنوان “السودان بين رهق العسكرتاريا وفوضى الطائفية!” بدور الطائفية السياسية السالب فى فشل التجارب الديمقراطية . أما الشق الآخر للمقالة فهو رفض رهق العسكرتاريا كما يدل على ذلك العنوان نفسه وقلت مثل ذلك فى حق عسكر نوفمبر أمجد الثورة عليهم فى أكتوبر الأغر عام 1964 فى ثنايا مقالتى “بم تغنى طاغور؟ ” وأنا بالهند عام تسعة وألفين..
وعفا الله عن من ظن أن كلمة الحق عندنا مبتذلة تدور مع المصلحة والوظيفة مداً وجزراً!
والذى أرمى إليه من هذه السطور هو الإشارة إلى أن القطيعة التى بين المثقفين بسبب إختلاف الأيدولوجيات والمذاهب السياسية هى أس الداء وأصل البلاء الذى قعد بالبلاد ولا يزال. وبعض تلك القطيعة وربما الحماسة وشئ من الإستقطاب يجد لنفسه فسحة ومضماراً فى بلاد صمدت قواعد بنائها وتكلست عظامها فهى تستعص على الأعاصير والزلازل والبراكين, أما فى بلد ذهب ربعه مساحة و ثلثه سكاناً قبل حين وتتململ أطرافه الآن و يضمر بعضها رحيلاً , يكون الفجور فى الخصومة والتراشق بالتهم والتنابذ بالألقاب والمباهاة بطروحات للخروج من الأزمة جربناها جميعاً دون إستثناء دون نجاح أيضاً, يعد بمثابة الهروب من واجب المساهمة فى إطفاء حريق يستفحل أصاب بيتاً من قش النال. والهروب فى هذه الحالة وإضرام النار سيان.
دعوات الإستئصال والتلويح بالويل والثبور وعظائم الأمور لا تبنى وطناً يحترق هو فى مسيس الحاجة إلى الآن للإتفاق فقط على الإبقاء عليه لا على الإيدولوجية التى تحكمه. والإتفاق يستلزم مشاركة الجميع دون فرز أو إقصاء فى وضع الأسس التى تبقى عليه. والمنطق البسيط يستلزم أن تكون تلك الأسس توافقية تقيم نظاماً ديمقراطياً يتسم بالشفافية والفصل بين السلطات ويضع قواعد يرتضيها الجميع للمشاركة والتنافس على الوصول إلى الحكم.ويستلزم مع ذلك صنيعاً مثل صنيع الرجل العظيم نيلسون مانديلا يبعد شبح محاكم التفتيش ومقاصل عهد الرعب فى أعقاب الثورة الفرنسية يفتح صفحة جديدة تعترف بأن الماضى كله ومنذ الإستقلال رغم ما أكتنف بعض مراحله من الخير والسداد, قد حفل بكل ألوان الأخطاء والخطايا والخيرفى السمو فوق جراحاته وإتاحة الفرص لأجيال جديدة تقوده لم تلغ فى دمائه ولا تتوسل لقيادته بإحياء الفتن ونفخ الروح فى المرارات والجراحات. بذلك الصنيع نعترف جميعاً بأننا تسرعنا فى بناء الشواهق على رمال متحركة لم نحسن غراس أساس تبنى عليه الدولة العصرية المركبة سواء كانت قد خلصت النوايا الحسنة تستعجل إلتماس الخير العام أو تعجلت تروم العظمة والإستحواذ على الصولجان.
والذى يطالع ما يكتب فى المواقع الإلكترونية وصفحات الجرائد يصاب بالإحباط جراء معارك فى غير معترك وتخوين متمترس لا يبقى أحداً من الناس لدرجة أن عدداً مقدراً من الناس قد أحجموا عن قراءة بعضها ,فيتساءل المرء كيف يصنع الديمقراطية ويقيم العدل بإعلاء شأن القانون من يدعو للإقصاء ومحاكم التفتيش؟
قال أحد الكتاب فى إحدى الصحف الأمريكية مندهشاً من دعوات الإقصاء والتنكيل بالخصوم من دعاة للديمقراطية والليبرالية فى واحدة من بلدان الربيع العربى :.
“إن الليبرالية عندنا تعنى التسامح وقبول الرأى الآخر لكن يبدو أنها تعنى نقيض ذلك فى الشرق الأوسط.”
إن فاقد الشئ لا يعطيه بل يتحول إلى طاغية جديد يسوم الناس الخسف ويمتهن إنسانيتهم. والتغيير يصنعه الجميع بالتراضى . قد تقوده فئات بعينها لكنها تنجح فى مسعاها بإشراك الجميع كما تعيقه وتجهضه وتحصد الفشل بالتخويف والإقصاء والتخوين. والناس لا يخافون لكنهم يتوجسون من فوضى عارمة تطال الأرواح والممتلكات والحرمات و من هرج لا يبقى أحداً. ويخشون أن حصاد ما يجنون أن يرددوا مقالة أحد العقلاء قديماً ” ما بكينا من زمان إلا وبكينا عليه!”
والخلاصة أن هذا ليس وقت الحديث عن طروحات سياسية وعقائدية لمعالجة الإقتصاد ومحاربة الفقر وإصلاح التعليم أو قل ليس وقت الإشتجار عليها. المطلوب بإلحاح الإتفاق على الإبقاء على الوطن أولاً بالتحاور الشامل والإنتقال السلس إلى نظام ديمقراطى تعددى لا مركزى يستجيب لأشواق الجميع فى المشاركة فى السلطة والثروة ويضع قواعد شفافة وعادلة للتنافس الحر فى المضمار السياسى للوصول إليها أستنادا فقط وحصرياً على قاعدة المواطنة. وحبذا لو إنحصر الهم فى تحقيق ذلك وإلتماس ما يتناسب من الوسائل للوصول إليه. يا حبذا . فيا معشر المثقفين وأصحاب الرأى وحملة الأقلام إتحدوا ساعة لإنجاز المهمة لتخلفوا وراءكم وطناً لأبنائكم وللأجيال القادمة.. هذا واجب المرحلة ولا أرى واجباً يعلو عليه..
المثقفون السودانيون: بين هلال رمضان و”عكفة السَرِج”!
0