رأيت إستعراض مقالة الكاتب البريطانى الجنسية الهندى المولد كنعان مالك فى (مجلة شؤون دولية ) عدد مارس/ ابريل 2015 والتى تحمل بعض العنوان أعلاه “فشل سياسة التعدد ية الثقافية” وقد أضفت , تحريا للدقة ,إلى العنوان انها تلك المنتهجة فى بعض دول أوروبا الغربية تحديدا لا على إطلاق .وقد دفعنى إلى تكبد مشاق هذا العرض الموجز جداً للمقالة , ما رأيت من تشابه بينه وبين ما ظلت البلاد بصدده من حوارات تهدف إلى إبتدار مرحلة جديدة من تأريخها السياسى الأمل معقود عليها لتحقيق الإستقرار , القاعدة الضرورية للتنمية والتقدم. ومخرجات المقالة محرضة على التثبت وتحسس مواقع الأقدام خشية الزلل والسقوط الناتج عن العجلة والركض وراء الشعارات بلا روية وإمعان نظر.
والسيد كنعان بدأ ماركسي الهوى طاف على عدد من التنظيمات الماركسية , تلمس بعض ذلك فى تحليل ما نحن بصدده, ثم تركها فيما قال أو ما ينسب إليه من أقوال وفاء للقاعدة التى ينبنى عليها فكره : الإنحياز التام لفكر عهد التنوير القائم على علمانية الدولة ومحاربة التمييز وإطلاق العنان لكافة الحريات إلى آخر المدى تصل لديه حتى مناصرة سلمان رشدى فى آياته الشيطانية.
إبتدر المقالة بالقول إنه قبل ثلاثين عاماً رأت أوروبا أن معالجة التنوع العرقى والثقافى بها يكمن فى إنتهاج سياسة التعددية الثقافية لمعالجة مشاكل أوروبا الإجتماعية لكن أعداداً متزايدة من الأوربيين يرون الآن أن تلك السياسة هى االسبب فى نشؤ تلك المشكلات. ضمن أولئك رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون ومستشارة ألمانيا ميركل.وبلغ ضيقهم بها أن أعلنوا ذلك صراحة ورأوا أنها باتت تشكل خطراً على أوروبا .شكل ذلك ما يشبه وقود النجاح لحملات المتشددين من المحافظين كالجبهة الوطنية فى فرنسا وحزب الحرية فى هولندا لتشديد النكير على المهاجرين بل بلغ حد الفعل الإجرامى الذى تمثل فى عملية النرويجى الذى ارتكب مجزرة عام2011 فى إحدى جزر النرويج. فما الذى قلب المعادلة وجعل سياسة التعددية الثقافية هدفاً لكثيرين من الساسة ورجال الفكر فى أوروبا يرومون التخلص منه بعد أن كانت وصفة سحرية للعلاج؟
يقول منتقدو سياسة التعددية الثقافية, إن المشكلة تكمن فى أن أوروبا سمحت لأعدادكبيرة من المهاجرين للمجئ إليها دون وضع التدابير اللازمة لدمجهم فى ثقافتها الأمر الذى أدى لتآكل الترابط الإجتماعى وأضعف الهويات الوطنية واصاب الثقة بين مكونات المجتمع فى مقتل. ويرد عليهم مؤيودوها بان الأزمة لا تكمن فى تنوع زائد عن الحد وإنما فى عنصرية متزايدة. وتجد فى ثنايا المقالة إشارات قوية تقول إن صهر أولئك الملونين أصحاب الثقافات المغايرة , فى البوتقة الأوروبية لم يكن هدفاً منذ البداية لسياسات التعددية الثقافية. فقد أوردت المقالة مقتبس من تقرير حكومى للحكومة البريطانية عام 1953 يقول: ” إن وجود جالية كبيرة من الملونين فى بريطانيا مرئية للعيان سيضعف مفهوم إنقلترا أو بريطانيا الذى حافظ عليه المواطنون البريطانيون عبر سنوات الكمنولث.”
ويرى السيد كنعان أن الفريقين يغفلان التعقيدات المحيطة بهذه القضية و لذلك يصبح جدال الطرفين ضرباً من السفسطة.
ويحاول تناول القضية على النحو الوارد فيما يلى من سطور:
واضح أنه يتفق مع أولئك في فشل تلك السياسة لكن من منظور خطل الأهداف التى صيغت لها. فالمملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وشمال إيرلندا سعت لمنح المجموعات العرقية المختلفة نصيباً من حقوق سياسية متساوية بينما هدفت سياسة المانيا إلىتشجيع تلك المجموعات لإلتماس اساليب اخرى فى الحياة كوسيلة للحصول على الجنسية وهى فى الأصل كانت تنظر إليهم كزوار سيعودون إلى أوطانهم عندما تنتفى الحاجة و لجودهم فى المانيا.
أما فرنسا فقد رفضت سياسة التعددية الثقافية واصرت على تمثل القيم الفرنسية والإندماج التام فى ثقافتها كشرط لقبول المهاجرين.
والنتيجة فى بريطانيا كانت إستشراء العنف بين المجموعات العرقية المختلفة ومزيداً من التنافر بين الألمان والأتراك فى المانيا وتحول الأجيال الحالية إلى التدين على عكس الأجيال الأولى التى كانت أكثر ليبرالية. أما فى فرنسا فقد ارتفعت وتيرة التوتر بين الفرنسيين وبين المهاجرين من شمال إفريقيا.
وشرع فى تبيان ذلك:
وقع التعدد الذى تشكو منه أوروبا اليوم , بيدى لابيد عمرو, كما تقول العرب فقد حدثبسبب مهاجرين جاءت بهم تلك الدول بإختيارها فى أعقاب الحرب العالمية الثانية لسد النقص فى الأيدى العاملة .
ألمانيا فتحت ابوابها لليونانيين والطليان والأتراك فتدفق عليها من تركيا قرابة
الآن الثلاثة ملايين إلا أن الحاصلين على الجنسية منهم لا يتجاوز الثمانمائة ألف لأن شرط الحصول على الجنسية حتى وقت قريب كان أن يكون المولود لأبوين المانيين.
أما عن تجربة المملكة المتحدة لبريطانيا فيقول إن بريطانيا فى العصر الفيكتورى كانت تتميزبنظام إجتماعى طبقى فكان العديد من البريطانيين ينظرون إلى الطبقات الفقيرة فى المراكز الحضرية , رغم انهم بريطانيون يمثلون (الآخر) أى لا يعتبرونهم مثلهم كبريطانيين مشيرا إلى مقالة كتبتها مجلة مرموقة فى ذاك الزمان تسمى The Saturday Review عدد 1846 تصف النظرة إلى أولئك الفقراء , فقراء منطقة(بنثال الخضراء) بأنهم “يعتبرون طبقة مختلفة لا نعرف الكثير عنها والذين تعد مظاهر حيواتهم مختلفة عن مظاهر حياتنا وهم أولئك الذين لا تربطنا بهم رابطة.” ويضيف ومثلهم كتل بشرية كبيرة من فقراء المزارعين. ويقول عن (بنثال الخضراء) اليوم إنها تضم أغلبية من المهاجرين البنغاليين ينظر البريطانيون إليها ذات النظرة القديمة لفقرائها من البريطانيين. ويقول إن بريطانيا قد استقدمت عمالاً بعد الحرب من مستعمراتها فى جزر الكاريبى وفى آسيا وطبقت عليهم سياسة التعدد ية الثقافية واضطرت لتهدئة شكواهم من التهميش واللجؤ إلى العنف إلى تقسيمهم حسب عرقياتهم المختلفة إلى جاليات تمثل فى مجالس المدن عبر من إعتبرتهم قيادات يتم إختيارها من قبلهم . أطلق على تلك التدابير عبارة ساخرة 🙁 التعاقد من الباطن) ! فاستعر التنافس بين العرقيات المختلفة وبلغ درجة العنف والإقتتال بينهم بالإضافة إلى ذلك شهدت بريطانيا ما يشبه الإنتفاضات من كل العرقيات مجتمعة وفرادى فىبيرمنقهام وفى أكثر من مدينة كدليل دامغ على فشل تلك السياسات .
وفى فرنسا التى ترفض سياسة التعددية الثقافية و تنتهج سياسة صارمة على ضرورة إندماج المهاجرين فى السياق الثقافى الفرنسى , عبّر سبعة من عشرة اشخاص فى إستطلاع أجرى عام 2013 أن فرنسا تستضيف أجانباً أكثر من اللازم . ويرى 74% منهم أن الإسلام لا يتناسب مع فرنسا. وهذا يؤكد أنه لم يحدث إندماج هناك وان الفرنسيين لا يزالون ينظرون إلى المواطنين المنحدرين من أعراق فى دول شمال إفريقيا كمهاجرين وكعرب ومسلمين . يبلغ عدد المسلمين فى فرنسا نحو خمسة ملايين وهم بذلك يشكلون أكبر جالية مسلمة فى أوروبا. ويدلل على خواء دعاوى الإندماج هناك على كثير من إحتجاجات أولئك فى كثير من المدن الفرنسية تشكو التمييز والعنصرية ويقول إن الجيل الثانى من المهاجرين من شمال إفريقيا يوصف بانه ممزق بين ثقافتين لكنه فىواقع الحال لا يملك واحدة أصلاً ! لذلك لجأ بعضهم إلى الإسلام السياسى وقلة منهم عبروا عن سخطهم بالإنضمام إلى التنظيمات الجهادية. وقد وصف الفرنسى كريستوفر فيلى هذا الواقع بما أسماه ” الهامش الفرنسى. ” والذى تضافرت عوامل عديدة لخلقه مثل توقف الصناعات وإعادة إستيلاء الطبقات الغنية لممتلكاتها فى قلب المدن بإعادة إصلاحها وتطويرها وبالتالى إجبار الفقراء الذين ظلوا ولعقود يعيشون فيها على الخروج منها إلى خارج المراكز الحضرية أى إلى هوامش المدن بعيدا عن الثقافة السائدة الغالبة على المجتمع الفرنسى مما أدى لشعور تلك الطبقات الفقيرة بمرارة التهميش وأنها منبوذة من السياق الإجتماعى العام. (ظاهرة عودة الأغنياء إلى قلب المدن مزدهرة ايضاً فى كبريات المدن الأمريكية مثل واشنطن ونيويورك وغيرها).
وللتدليل على فشل كلتى السياستين, التعددية الثقافية والإدماج القسرى الفرنسية , ساق كاتب المقالة نتائج إستطلاعات تؤكد وقوع ذلك الفشل, فقد أجرت IFOP الفرنسية بين الألمان إستطلاعاً عام 2011 ذكر 40% من المستطلَعين أن وجود الجاليات الإسلامية فى المانيا يهدد الهوية الوطنية لألمانيا . وفى إستطلاع آخر اجرته جامعة بيلفيل الألمانية عام 2005 أن ثلاثة من اربعة ألمان يرون أن الثقافة الإسلامية لا تتناسب مع القيم السائدة فى الغرب .
ويخلص إلى أن إنتهاء أهمية الطبقة سياسياً فى أوروبا وانعدام الفوارق بين اليمين واليسار وضعف المنظمات العمالية والإيدولوجيات كإتحادات العمال والكنائس , جعل الأوربيين يعرّفون التضامن الإجتماعى لا عبر الإتنماء السياسي بل عبر العرق والثقافة والدين وعلى ذلك بنيت السياسات.
وبعد.. لا يتسع المجال لأكثر من هذا فى صحافة سيارة رغم أن تفاصيل تحليل الرجل جديرة بالنظر والتأمل.. نشير فقط ونحن فى خضم الحوارات الداعية لوضع اللبنات لمجتمع متصالح أن تهدف سياسات التنوع والإعتراف بالفوارق, أى التعددية الثقافيةإلي إقامة نظام إتحادى فعال يقنن للتنوع كمبتدأ وعينه على تجسير الفوارق وزيادة المشتركات فى نهاية المطاف المفضية إلى إرساء ثقافة قومية جامعة يفاخر بها وينافح عنها كل رجل وإمرأة يضمه هذا التراب المترام الذى يسمى السودان.