تفرض علينا دقة الأوضاع المقبلة عليها البلاد أن نطل على المشهد العام رغم قواقع المهن التى نقبع بداخلها ولو عبر كوى صغيرة ثم نجتهد الى القول بأنه لا تثريب علينا طالما أجهدنا النفس فى البقاء حول الحمى دون أن نقع فيه. والأمر جلل بلا جدال فالرقعة المترامية الأطراف التى يتمدد عليها السودان اليوم , معرضة للتجزئة وبنصوص قانونية عبر استفتاء يجرى العام المقبل يتيح لأبناء وبنات الجنوب تقرير مصير السودان وعما اذا كان سيظل الدولة العاشرة من حيث المساحة على مستوى المعمورة أو يتقلص حجما الى حدود مملكة الفونج التاريخية قبل حملة محمد على باشا عليه.
وقد قطعت جهيزة قول كل خطيب عندما صرح المسؤول الأول فى الجنوب السيد سيلفا كيير ميارديت رئيس حكومة الجنوب أن الجنوب سيصوت للانفصال وأن ذلك سيكون هو خياره المفضل على المستوى الشخصى حيث أن السنوات الفارطة منذ انفاذ اتفاق السلام لم تقنعه بالبقاء ضمن اطار السودان الذى تنعته الحركة الشعبية لتحرير السودان فى أدبياتها ب “السودان القديم” وأن السودان الجديد: الديمقراطى العصرى الذى يتساوى فيه المواطنون لم يتحقق . هذا رغم أن الاتفاق الموقع بين طرفى الحكم لم ينص أصلا على تحقيق قيام السودان الجديد بعد سنوات الانتقال الست وانما نص فى صلب نصوصه على اقامة دولة بنظامين مختلفين فى بروتوكول مشاكوس الذى استغرق التوصل اليه نحو عامين من الزمان وهو واقع الحال القائم الآن . واستنادا الى نصوص هذا البروتوكول الحاكم الذى مهد الطريق للوصول الى اتفاقية نيفاشا التى حققت السلام وأوقفت الحرب وسمحت بقيام حكومة كاملة الصلاحيات فى الجنوب مع المشاركة بنسبة الثلث تقريبا فى مؤسسات الحكم الاتحادى فى الشمال يبدو واضحا أن عدم تحقق قيام السودان الجديد ليس هو السبب فى تبنى قيادات الحركة لخيار الانفصال والدعوة اليه رغم نص الاتفاقية الصريح على تقليب خيار الوحدة.
بعد استبعاد هذا السبب ( قيام السودان الجديد) كحجة للدعوة للانفصال ننظر فى حجج أخرى منها أن حكومة المؤتمر الوطنى لم تف بالتزاماتها التعاقدية التى نصت عليها اتفاقية السلام وهذا الفعل جعل الوحدة ليست جاذبة. بمعنى أن الاخفاق فى الوفاء باستحقاقات الاتفاق يكرس انعدام الثقة بين الطرفين ويشوب علاقتهما بالتوجس الدائم والشكوك ويجعل المراهنة على المستقبل محفوفة بالهواجس وغير مأمونة العواقب. وهذا انشغال معقول ان صح. لذا يلزم أولا التحقق من صحته.
وللوقوف على صحة هذه الدعوى وهذا الاتهام يلزم اللجؤ الى الآليات التى نصت عليها الاتفاقية نفسها للتحقق من انفاذ نصوصها ومعالجة أسباب القصور التى تحول دون تحقيق تلك الغايات. هذه الآليات قائمة بالفعل ومنها مفوضية التقويم والتقدير التى يرأسها البريطانى السير ديريك بلمبالى وتشارك فى عضويتها بالاضافة الى الشريكين ورئيسها الذى يمثل المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى كل من مملكة النرويج وايطاليا والولايات المتحدة الأمريكية. فماذا قالت تلك اللجنة عن تنفيذ الاتفاق؟
لحسن الطالع فقد اتفق لى وبناء على دعوة كريمة من لجنة العلاقات الخارجية بالبرلمان أن استمعت لمحاضرة قدمها رئيس المفوضية المذكور البريطانى السير ديريك بلمبالى بعربية طلقة عنوانها ” تقييم اتفاق السلام الشامل”. وذلك فى اليوم الخامس من شهر أغسطس لهذا العام 2010 شاء الرجل مبالغة منه فى الدقة أن يشفعها بنص مكتوب وزعه على الحضور باللغتين العربية والانجليزية لم يحد عنه قيد أنملة وهاكم فيما يلى نص ما أورده عن انجازات الطرفين فى انفاذ الاتفاق:
” يجب أولا أن نذكر مقدار الانجازات حتى الآن: خلال خمسة أعوام ونصف استدام السلام وتم الحفاظ على وقف اطلاق النار على وجه العموم. وتم كذلك وضع الترتيبات والمؤسسات الدستورية كما نصت عليها الاتفاقية وتم تنفيذ ترتيبات تقاسم الثروة خاصة فيما يتعلق بعائدات النفط طبقا للاتفاقية. كل ذلك يمثل انجازا ضخما, ويجب تهنئة شريكى الاتفاقية عليه. واستفاد شعب السودان منه بصورة بالغة كما ساهمت الاتفاقية فى النمو الاقتصادى الواضح فى أنحاء عديدة من البلاد وترسخت مؤسسات الحكم فى الجنوب وعاد حوالى 2 مليون مواطن الى بيوتهم.”
هذه شهادة ممتازة قدرها بعض المراقبين المحايدين بل بعض أعضاء حكومة الجنوب بأن هذه النسبة من تنفيذ بنود الاتفاقية تفوق الثمانين بالمائة. لا يقدح فى ذلك بالتأكيد ما أشار اليه رئيس اللجنة فى ذات المحاضرة بقوله:
” فى المقابل فان العديد من بنود اتفاقية السلام الشامل تم تنفيذها جزئيا أو متأخرة أو- فى حالتين- لم تنفذ على الاطلاق. وترسيم الحدود بين الشمال والجنوب هو مثل واضح لذلك” . ويلقى شريك الحركة الشعبية , المؤتمر الوطنى باللائمة عليها فى عدم تنفيذ هذا البند الهام- ترسيم الحدود- بتغيب أعضائها عن اجتماعات اللجنة المنوط بها ترسيم الحدود . ويبقى هذا الاتهام الخطير جديا حتى تقوم الحركة بتفنيده بطريقة مقنعة خاصة وأنه اتهام جاء على لسان نائب رئيس الجمهورية السيد على عثمان محمد طه فى مؤتمر صحافى ظهر الاثنين الرابع من اكتوبر الحالى 2010 وهو عضو فى مؤسسة الرئاسة.
هذه شهادة جهة محايدة قالت ان الشريكين يستحقان عليها التهنئة . لاحظوا تأكيدها ” وتم تنفيذ ترتيبات تقاسم الثروة , خاصة فيما يتعلق بعائدات النفط طبقا للاتفاقية.”
نعم هذه شهادة تضاف الى رصيد هذا البلد التاريخى فى احترام التعهدات فقد قيل ان اتفاقية( البقت )التى أبرمها عامل خليفة المسلمين فى مصر مع ملك النوبة استمرت سارية المفعول لسبعة قرون وهو أطول عمر لمعاهدة فى التاريخ البشرى.
وعليه نستبعد أيضا ذريعة عدم احترام الاتفاقية كسبب للدعوة للانفصال.
ونقول دون تحيز أو محابة وبالمنطق البارد فقط أن الحركة الشعبية لتحرير السودان مدينة للشعب السودانى ولشعوب القارة الواعدة السمراء بل ولأنصارها من أبناء الشمال الذين شاركوها فى أحلامها وطموحاتها فى وحدة تقوم على أسس جديدة , بتوضيح أسباب جنوحها للانفصال لأن آثاره تتعدى السودان الى العديد من الأقطار الافريقية التى عصمها من هذا المصير قبول مبدأ آباء القارة فى الحفاظ على الحدود الموروثة عن الاستعمار وسعى الاتحاد الافريقى لتحويل القارة البكر بأسرها الى كيان موحد.
وأود أن أزعم أن الاتفاقية قد حققت فوق الأهداف المحددة التى وردت فى صلب نصوصها والقابلة للرصد والجرد والتقويم على نحو ما أشرنا اليه سابقا, وأحدثت اختراقا أهم و أضخم فى الشمال فى سياق ما لايقاس بالعدد و هو كسر الحواجز النفسية التى ظلت مسيطرة فى الشمال على المزاج العام بقبول ودون كبير عناء تولى الاخوة فى الجنوب لمناصب هامة فى الدولة على المستوى الاتحادى دون كبير عنا . وتلك ليست منة يمتن بها الشمال على الجنوب ولكنه حق اكتسبه الجنوب عن جدارة واستحقاق بتقديم كفاءات عالية التأهيل والدراية وهذا أمر لا ينبغى أن يغفل ليس استبطانا لقناعات هابطة بدونية الجنوبى لكن قدرة الرأى العام فى الشمال على هذا الانتقال السريع بتجاوز المرارت والصور النمطية يعد دلالة دامغة على تنام المشتركات بين الشمال والجنوب. وهو تطور كان بامكان الحركة أن تبنى عليه فى نضالها السياسى السلمى لتحقيق أهدافها كدليل قوى على هشاشة الحواجز التى تفصل بين الوجدانين الجنوبى والشمالى وكانت ستجد عضدا ونصيرا فى الشمال الليبرالى. ويعتقد الكثيرون أن الراحل الدكتور جون قرنق مبيور كان سيكون منافسا قويا للوصول الى سدة الرئاسة بدعم شمالى مقدر. هذه طفرات نادرة الحدوث فى تاريخ العمران البشرى تقفز بها الأمم فوق المراحل . و يرى مؤرخو الدراما فى الولايات المتحدة أن فنانا كوميديا مبدعا هو (بيل كوسبى) عبر سلسلة كوميدية استمرت على مدى عقد كامل من الزمان قد أحدث انقلابا ايجابيا كبيرا فى نظرة البيض الى الأمريكيين المنحدرين من أصول افريقية وجسر الهوة بين البيض والسود بأكثر مما فعل الساسة. وليس بين الشماليين والجنوبيين فى السودان من فوارق عرقية كبيرة كالتى بين البيض والسود فى أمريكا أو جنوب افريقيا لذلك فتجسير الهوى لا عبر الدراما بل عبر الاحتكاك الحقيقى والتلقائى قد وسع أرضية المشتركات الوطنية اللازمة لوحدة خلاقة.
وعليه فلو أنى كنت ناشطا فى الحركة الشعبية لغدوت موكلا بيفاع الأرض أشرفه شرقا وغربا شمالا وجنوبا داعيا برباطة جأش ويقين راسخ للتصويت للوحدة نضالا من أجل اقامة السودان الجديد الديمقراطى الذى يتساوى فيه الناس جميعا , لا يهم ان تم ذلك فى عمرى المحدود لكنه سيتم فقط اذا بقى السودان موحدا. ذلك لأن الأحلام الكبرى لا تكون الا مشروعات تستغرق أكثر من حياة وأغلى من عمر واحد. ولكانت نبؤة رجل عظيم مخلص تحدو ركب نضالى و تملأ جوانحى حماسة وأملا. ذلكم هو رائد حركة الحقوق المدنية الدكتور مارتن لوثر كنج يوم نعى نفسه قبل أقل من أربع وعشرين ساعة أغتيل بعدها وهو يخاطب عمال النظافة المضربين عن العمل فى ممفيس بولاية تنسى:
” اننى كأى انسان أتوق الى حياة رغدة طويلة. لكننى لست معنيا بذلك الآن لأن الرب قد صعد بى عاليا الى قمة الجبل وهناك رأيت الأرض الموعودة ( أى أرض العدل والمساواة والحرية) اننى قد لا ابلغ معكم تلك الأرض الا أننا كشعب سنصل الى أرض الموعودة …” وهنا فاضت به المشاعر فدمعت عيناه ولم يقو على متابعة الحديث فغفل راجعا الى مقعده وأغتيل ظهر اليوم التالى. وقد قطع السود أشواطا بعيدة بعد تلك النبوة حتى أوصلوا أحد مواطنيهم السود الى سدة رئاسة أقوى بلد فى العالم! وما كانت مجرد الأحلام المشوبة بالأوهام هى التى ستدفعنى فى هذا السبيل لأننى واتساقا مع أدبيات الحركة التى انتميت ( افتراضا) اليها كنت سأرى بفراسة المناضل المتمرس أن الأطراف المهمشة التى كنت أتذرع بها وأسعى لتسليحها و تجميعها لتصبح أغلبية قد أصغت الى واشتعلت مثلى تطالب بالمشاركة فى السلطة والثرة وأن المستقبل العددى فى مصلحتها ومن هذا الفهم يكون اصرارى على ترسيخ الديمقراطية لأن اعداد أولئك لا معنى لها الا فى ظل الديمقراطية اذ أنها لو راهنت على السلاح فستتعطل حركة التمازج العرقى والثقافى وسيلوذ كل الى سربه ممتشقا سلاحا فيضيع الوطن كله وتكون حركتى التى رفعت شعارات التقدم والديمقراطية قد استحالت الى كارثة للتشظى والعنصرية البغيضة وما أضيع الوطن عنئذ ويا لفداحة السبة التى ستلحق بربعى! ولا يخادعن واهم نفسه اليوم بأن انفصال الجنوب سيجعله منصة للانطلاق المسلح مع الهامش لغزو الشمال وفرض أسس وحدة جديدة عليه فان كانت أسلمة الجنوب- والذى كان هشا طريا يومئذ- وتعريبه قسريا وبحد السيف قد استعصت على نظام الفريق عبود العسكرى فان الشمال الذى استوعب مواريث النوبة الوثنية والمسيحية والاسلام ومواريث سلطنات سنار والمسبعات والفور والعباسية تقلى وصهرها جميعا مع تيارات العصر الأوروبية قد استعصت هويته من قبل على الامبراطوريتين العثمانية والبريطانية وبقى هوذات السودانى الذى اذا ذكر تداعت خصائصه ومكوناته الى الذهن, سيستعصى على الاكراه والجبرية من أى جهة قدمتا. لا سبيل الى قيام سودان موحد متسامح الا بالحسنى وبالتعايش بين مكوناته المختلفة ثم التلاقح الذى يبقى على الصالح من الرؤى والممارسات.
نعم ان تجميع الأطراف المهمشة سلميا فى اطار التنافس الديمقراطى سيدفع الشمال والوسط النيلى لمزيد من التلاحم فى وجه تحالف قوى السودان الجديد لكن لا بأس بذلك فى ظل الصراع المدنى الديمقراطى وجدلية التدافع فسيستحيل تحالف السودان القديم الى حزب او جبهة محافظة مثل الأحزاب المسيحية فى أوروبا الغربية ومثل حزب المحافظين فى بريطانيا والحزب الجمهورى فى أمريكا : كيانات تجمع متدينين وسدنة لطرائق العيش القديم تتحفظ ازاء كل طارف وتحتفى بالتالد من موروثات الآباء والأجداد فى تربية النشء ومناهج التعليم وتتفانى فى الحفاظ على موروثاتها الثقافية والاجتماعية. وسيستعر النضال المدنى بينها وبين القوى الليبرالية الجديدة عبر صناديق الاقتراع ومنظمات المجتمع المدنى ومؤسسات الثقافة والفنون وصناعة الرأى العام . وفى خضم هذا الصراع تتساقط وتفنى طروحات ليبرالية وأخرى محافظة أيضا وتبرز الى السطح أخر فتتقارب الرؤى تحت ضغط الواقع الصلد الثخين.وعلى هذا النهج سبقتنا مجتمعات تلاشت فيها النعرات والجهات الا قليلا. وتكون الحركة بذلك قد قدمت خدمة عظيمة للوطن وللقارة الافريقية وتبقى ارثا فاعلا من مواريث السودان.
أما أن تسارع الحركة الى الانفصال والانكفاء دون أن تبدى مبررات مقنعة للسودانيين وللأفارقة فستعلق فى الذاكرة الافريقية شبيها لحركة جون سافمبى زعيم حركة (يونيتا) فى أنجولا وسيشهد التأريخ عليها بأنها قد توسلت مخادعة بشعارات نبيلة الى غايات أبعد ما تكون عن النبل .و ستكون قد أيقظت مشاعر عرقية وجهوية فى كل ركن فى السودان وأشعلت الحرائق فى حرب ضروس وقودها الناس يزيدها اشتعالا اضعافها لسلطان الدولة على الأمورمما سيدفع الناس مرغمين لمزيد من الانكفاء على الجهة والقبيلة طلبا للحماية .و كانت قد بدأت النعرات تتقاصر فى بطء بفعل التمدن وكان الزمن وتدابير اقتسام الثروة والسلطة التى جاءت بها الاتفاقية كفيلة بمعالجتها . سيكون هذا ارث الحركة من شعارات الثورة التقدمية على الظلم وعلى التصدى للاستعمار والرجعية وهو ارث يجىءعلى نقيض ميراث جنوبيين أفذاذ مثل على عبد اللطيف وعبد الفضيل الماظ وغيرهم بلغوا مصاف الأبطال فى تاريخ السودان الحديث.
ويومذاك, يوم أن ينفرط عقد السودان سيتساءل كثيرون مثلما فعل الصحافى المقتدر عبد المحمود الكرنكى ذات يوم مطير فى مدينة واشنطن من شهر مايو عام 1989 وهو يواجه الراحل الدكتور جون قرنق مبيور زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان : ” ألا تخشى ان يصنفك التاريخ مع تشومبى وكاذافوبو بدلا من أن تصنف مع كوامى نكروما وباتريس لومومبا ونيلسون مانديلا؟” ورغم أن الدكتور أجاب بغضب : ” اذا كنت أنت الذى سيقوم بهذا التصنيف فاننى لا أكترث لذلك!” لكن يبدو أن الرجل عندما وجد مئات الألوف تخرج لاستقباله فى قلب الخرطوم فى صيف يوليو 2005 قد أيقن بالفعل أن قيام السودان الواحد الديمقراطى ليس غاية بعيدة المنال.