بدعوة كريمة من كلية سلم السلام بولاية كيرلا في جمهورية الهند وعن طريق الدكتور علي لياقت مدير مركز مولانا آزاد الثقافي بسفارة الهند بالقاهرة ، لمخاطبة الجلسة الافتتاحية لمؤتمر علمي عن الكتابة الأكاديمية باللغة العربية في ٢٠ يونيو ٢٠٢٠وجهت فيه الكلمة التالية للمؤتمر عبر التطبيقات الإلكترونية وقد اقترح عليّ بعض الأصدقاء نشرها للتوثيق ومظنة أن يكون في ذلك بعض النفع وها أنذا أفعل:
بسم الله الرحمن الرحيم
الاخوة الأفاضل والأخوات الفضليات، الطلاب والطالبات والضيوف الكرام بقاماتكم السامية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في البدء أود أن أعبر عن سعادتي البالغة بالعودة إلي خير الله أو كيرالا ولمروجها الخضراء وباسقات نخيلها ولأهلها الأوفياء الذين وجهوا الدعوة لي لزيارتها مرة أخري وإن جاء الوصول إليها هذه المرة افتراضياً وعبر الأثير ورغم محبتي الشديدة لولايتكم المتميزة التي تركت زيارتي الأولي لها أثرا باقياً ما بقيت الروح في الجسد، فإنني لم أزل لا أحسن معرفة لغتها التي ظلت بالنسبة لي مثلما كان الأمر بالنسبة لمن حلوا بأرضها الطيبة من العرب في الزمان القديم، ذات لسان لا يُعلم،) ملايلم(. غير أني علمت أنها تعلم وتتميز بعلم ومعارف مفتقدة في ربوع كثيرة من بقاع العالم المعمور، كيف لا وهي الصغيرة في المساحة تضم أكثر من جامعة وكلية متخصصة في تدريس العربية وحدها مع العديد من المدارس التي تدرس حتي ألفية ابن مالك التي لا تدرس للمفارقة في بلاد العرب اليوم، إلا في الجامعات وفي الكليات المتخصصة لتدريس اللغة العربية. وقد علمت أيضاً أنها الولاية الأولي التي تمكنت من محو الأمية وأن صحافتها هي الأعلى توزيعاً في عموم الهند. هذه بقعة من الأرض طيبة المحتد والغراس لا يمكن أن توصف لغتها بأنها مما لا يُعلم إلا على سبيل الفكاهة المحببة الناتجة عن تشابه الجرس الصوتي لكلمتي) ملايلم (وما لا يُعلم تمليها المحبة والتحبب لمكان حباه الله بالجمال الذي يأخذ بالألباب.
لقد مضي عقد كامل علي زيارتي الأولي مع لفيف من السفراء والدبلوماسيين العرب المعتمدين لدي الهند في نيودلهي والتي تمت بدعوة كريمة من معالي السيد وزير الدولة بالخارجية الهندي الأسبق الدكتور ساشي ثرور، الذي أحسب أنه من أبناء هذه الولاية أيضاً ، لحضور مؤتمر نظمته الخارجية بالشراكة مع قسم اللغة العربية بكلية مهراجا في مدينة كوشي عن العلاقات العربية الهندية عبر التاريخ . وهنا اسمحوا لي أن أخص بالتحية والشكر الأخ العزيز الدكتور علي لياقت مدير مركز مولانا آزاد الثقافي في سفارة الهند بالقاهرة ورئيس قسم اللغة العربية بكلية مهراجا آنذاك فقد أحسن وفادتنا يومئذ هو ولفيف من زملائه الكرام أذكر منهم الدكتور هلال موسي، و والدكتور كي جابر وسواهم ممن لا أذكر اسماءهم.
لا غرو أيها السادة والسيدات أن ما نراه من اهتمام ولايتكم باللغة العربية فيه وفاء لتأريخ عريق من العلاقة بين ولايتكم وبلاد العرب من قديم فهي تقع علي بحر يسمونه بحر العرب ظل بمثابة الرافد الدائم الذي يجدد الصداقة الأبدية بين بلدكم العظيم,جمهورية الهند, وبين بلدان العالم العربي .ولعل ولايتكم من أوائل ما وطئت أقدام العرب من بلاد الهند، والهند ظلت ولاتزال رافدا من روافد التي ترفد الثقافة بمعناها الحسي المادي والمعنوي في البلدان العربية فهي موطن العطور والبخور وحلي الزينة وموطن أنواع من صنوف الطعام كما اشتهرت بصناعة السيوف فقد أهدت إليهم أحَد السيوف وأصلبها فقد قال كعب بن زهير في وصف النبي (ص):
إن الرسول لنور يستضاء به مهند من سيوف الهند مسلول وقد ورد في الآثار أن النبي صلي الله عليه وسلم قد استبدل الشطر الأخير من البيت إلي: مهند من سيوف الله مسلول. وظلت مهند الدالة علي الهند ثابتة في مكانها ومغزاها.
وأطلقوا علي أبطالهم اسم المهند وعلي حسناواتهم هنداً ولا يزالون: ولعلكم تحفظون أبيات العاشق عمر بن أبي ربيعة:
ليت هندا أنجزتنا ما تعد وشفت أنفسنا مما نجد واستبدت مرة واحدة انما العاجز من لا يستبد ولا تزال خزانات الكتب ملآ بالمخطوطات العربية التي آمل أن تعمد الكليات العربية في الهند إلي تحقيقها بتشجيع طلاب الدراسات العربية العليا إلي بذل الجهد في ذلك خدمة للمعارف الإنسانية وتمتينا للروابط العربية الهندية. وقد وقفت قبل سنوات علي أن قصيدة اليتيمة المعروفة والمنسوبة إلي أبي الفضل يحي بن نزار المنبجي من ثمرات خزانات الهند ( خزانة رامبور). وهي قصيدة من عيون الشعر العربي يقول مطلعها:
هل بالطلول لسائل رد أم هل لها بتكلم عهد أبلي الجديد جديد معهدها فكأنما هو ريطة جرد
وفيها البيت الذي يقول:
فالوجه مثل الصبح مبيض والشعر مثل الليل مسود ضدان لما استجمعا حسنا والضد يظهر حسنه الضد حيا الله بلادكم الهند التي أهدت للعالم النام بلدا يعد أنموذجاً للتسامح والتعايش الأخوي الديني والثقافي بين مكوناته المتعددة بما يعد دليلا علي مهارة في إدارة التنوع الذي أصبح مظنة التقدم والرفاه للجميع وقمين بها المحافظة علي ذلك فكيرالا بكنائسها ومساجدها ومعابدها المتعددة دالة قوية علي ذلك.
أما عن موضوع مؤتمركم المهم: الكتابة العربية الأكاديمية فأقول إن العرب قد تفوقوا علي سواهم في القديم بابتكار علم السند في تتبع صحة الأحاديث النبوية وتلك إضافة هامة في التحقق من غير عاطفة أو محاباة أو مجاملة في الوصول لحقائق الأشياء وقد انفردوا في هذا الضرب من التحقيق والتحقق علي غيرهم فيما يعرف اليوم بالتماس الموضوعية.
والكتابة الأكاديمية هي الكتابة التي يحصل عبرها الكاتب علي درجة الماجستير أو الدكتوراه وهي موجهة في الأصل للعلماء الأساتذة في الجامعات عليها تنبني النهضة لأن كل رسالة سواء كانت في العلوم التطبيقية أو النظرية ينبغي أن تكون إضافة جديدة للمعرفة الإنسانية تفيد منها البشرية لأنها إن كانت تكراراً تصبح كالاجترار لا نفع فيه بل مضيعة للوقت والجهد لا طائل وراءه و الكتابة العربية الأكاديمية لا تختلف عما تواطأ الناس عليه في أكاديميات العالم إلا من حيث كتابتها باللغة العربية فالذي يكتب بالانقليزية أو الفرنسية أو الألمانية يحرص علي الكتابة العلمية الرصينة التي لا تحتمل التأويلات فإن أعيته مهارة ذلك دفع ما كتب لمن يحسن التحرير والإبانة بتلك اللغة .
يتعين علي الباحث الذي يكتب باللغة العربية أن يكتب بلغة فصحي مفهومة ومباشرة خالية من الإيحاء والتلميح والبلاغة الإبداعية التي تصلح للكتابة الأدبية وأن يحدد الباحث بدقة موضوع البحث وتميزه عن غيره وهو ما يحتم عليه دراسة البحوث المشابهة لموضوعه حتي يقنع الممتحنين بأن موضوعه متميز بميزات يذكرها في صلب بحثه ومن ذلك مشكلة بحثه وصعوباته وما يفعله حيال ذلك حتي إذا بلغ غاية الإبانة مما يريد بحثه ،وضع ذلك كله في (كبسولة) صغيرة يتفاوت عدد كلماتها بين الجامعات المختلفة، تسمي المستخلص Abstractوهي التي تحوي بإيجاز شديد الموضوع ومنهج بحثه وخلاصاته ومقترحات الباحث في النهاية. إن أهمية المستخلص تكمن في أنه يسوق ويسوغ الموضوع للراغب في التعرف عليه فإن حوي بالوضوح التام شرحاً دقيقاً ومتقناً، حفز ذلك الراغب في الإقبال عليه ومواصلة القراءة أو صرفه عنه بالكلية.
ولما كان الباحث في أول الطريق لا يحق له الدخول في تعريفات للمصطلحات من عنده. علي سبيل المثال لا يجوز له تعريف علم الاجتماع مثلا بالقول إن علم الاجتماع هو كذا وكذا لأنه لم يبلغ درجة اصدار الأحكام والفتوي وهو لم يجاز في تخصص رفيع فيه، فقصاري ما عنده أن يورد تعريفات العلماء في الميدان المعين مع الإشارة إلي مصدر المعلومة بالدقة المتناهية وبالطرق المتعارف عليها في كتابة الحواشي والإشارة إلي المراجع ودور النشر وسنوات النشر وأرقام الصفحات. ويلزم في هذا الضرب من الكتابة الترقيم بالفاصلة والنقطة وعلامات التعجب والاستفهام.
وفي الختام أحي اختيار القائمين علي المؤتمر لموضوع الكتابة العربية الأكاديمية ويقيني أن كوكبة العلماء المشاركين فيه سيوفون الكيل ويتصدقوا بعلم ييسر العسير ويمضي بالكتابة العربية الأكاديمية إلي الغايات المرجوة من التحصيل النافع في حيازة المعارف بما يعود نفعاً علي البشرية جمعاء. وفقكم الله وسدد خطاكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،