أشرنا فى الحلقة الماضية الى النجاحات التى حققها اليمين الدينى فى ميادين السياسة الداخلية والخارجية للولايات المتحدة عبر الضغط على الكونقرس على النحو الذى أوردته مجلة ” نيوز ويك” ونوجز في ما يلى اجمالا اخفاقاته فنقول:
– فشل فى استصدار تعديل دستورى من الكونقرس يجيز اجراء صلوات جماعية فى المدارس العامة المملوكة للدولة والتى يحرم فيها التبشير أو الاشارة الى أى دين تفاديا لاستثارة حساسيات المنتسبين لديانات غير المسيحية بينما يمكن فى بعض المناطق لمن يريد أن يقيم صلوات طواعية من عنده ودون اكراه لأحد أن يفعل أو أن يعقد حلقات فى المدارس لتدارس الانجيل ولكن بعد ساعات اليوم الدراسى.كذلك فشلت جهود اليمين الدينى فى السماح بتدريس نظرية الخلق الواردة فى الكتاب المقدس فى صورتها الحديثة التى تعرف ب “الابداع الذكى ” جنبا الى جنب مع نظرية النشؤ والارتقاء لشارلس دارون. والطريف أن القس( بات باتريسون) صاحب الشبكة التلفزيونية المعروفة وأحد غلاة قادة الكنائس الافانجيليكية وهو أيضا أحد المرشحين لرئاسيات 1988 توعد سكان احدى مقاطعات ولاية بنسلفانيا بغضب من الله لأن مجلس الآباء قد صوت لمنع تدريس نظرية “الابداع الذكى” قائلا اذا ابتلاكم الله بكارثة طبيعية فليس فى وسعكم الاستنجاد بالله تعالى! وكان قد وافق القس ( جيرى فولول ) مؤسس مجموعة ما يعرف بالأغلبية الأخلاقية عندما عزا أحداث 11 سبتمبر 2001 الى عقاب من الله على مخالفة تعاليمه . وقد أثارت تلك التصريحات ضجة وغضبا على الرجلين فى حينها.
– فشل أيضا فى استصدار قرار من المحكمة يسمح بعرض الرموز الدينية فى المحاكم كالوصايا العشر الواردة فى الكتاب المقدس الا ما كان من تلك الرموز جزءا من معروضات تاريخية تتحدث عن واقعة أو وقائع تاريخية بعينها. وكانت المحكمة قد أمرت بازالة لوحة فى احدى محاكم ولاية الباما تحمل الوصايا العشر للسيد المسيح عليه السلام على اعتبار أن ذلك يتعارض مع الدستور الأمريكى.
لكن تجدر الاشارة الى أن مقالة ” نيوز ويك” لم ترصد فقط نجاحات واخفاقات اليمين الدينى فى التأثير على دفة السياسة الأمريكية الداخلية والخارجية لكنها تحدثت أيضا عن شرخ خطير فى صفوف أهم مكونات ما يعرف باليمين الدينى وهى مجموعة الكنائس الافانجيليكية. وقد اختار الكاتب عنوان مثيرا لذلك هو : أزمة هوية الأفانجيليكانى !
وقد أرجعت المقالة ظهور الكنائس الافانجليكية الى بدايات القرن العشرين عندما نشطت ” الحركة الأصولية ” وهى حركة تكونت من أتباع الكنائس البروتستانية للتصدى عبر الكتيبات والمنشورات لما اعتبرته زحفا ” للعلمانية الحديثة” على الحياة والمعتقدات. وتعتقد الحركة فى صحة ما جاء فى الانجيل حرفيا ودون تأويل كما تقدم مثل الميلاد المعجز للسيد المسيح من السيدة مريم العذراء وكذلك فى قيام السيد المسيح من الموت بعد أن صلب وفى معجزاته كالمشى على الماء وما جاء به الانجيل حول خلق آدم وحواء. المعروف أن بعض المذاهب المسيحية تأول بعض ذلك ولا تقول بضرورة تصديقه حرفيا كما ورد.
وقد تم أول تأثير واضح لليمين الدينى على السياسة فى عام 1979 عندما كون القس جيرى فولول مجموعة “الأغلبية الأخلاقية” آنئذ من الافانجليكانيين والكاثوليك لاسقاط الرئيس( جيمى كارتر)وكانت أجندة ذلك التحالف : الوقوف ضد الاجهاض , مساندة مفاهيم الأسرة التقليدية ( أى زواج الرجل من امرأة فى مقابل الصيغ الأخرى لمفهوم الزواج كزواج المثليين), مساندة اسرائيل ( وقد كان القس فولول صديقا شخصيا لمناحيم بيغن رئيس وزراء اسرائيل من كتلة ليكود), دعم سياسة دفاعية قوية ( أى متشددة ازاء المعسكر الاشتراكى والعمل على تطوير صناعة الأسلحة فى مقابل دعوات نزع السلاح والتعايش السلمى.) وفى المقابل فهذا التحالف ضد : الشواذ والشاذات جنسيا وضد المخدرات وضد الصور والأفلام الاباحية وضد تعديل الحقوق المتساوية . وقد دعم هذا التحالف ترشيح( رولاند ريغان) رغم أنه – فى رأى كاتب المقالة- ليس افانجليكيا حقيقيا حيث أنه طلق زوجته الأولى وكان ممثلا فى هولوود التى تمثل حتى اليوم بالنسبة للمحافظين نقيض كل ما هو حسن وخير( بتشديد وكسر الياء).
تمكن هذا التحالف من تسجيل بين 4 الى 5 ملايين ناخب ضمنوا الفوز لريغان بالرئاسة.
وردا على تساؤل : كيف لمتدينين يدعون لاتباع المسيح فى حياة بسيطة متقشفة أن يصبحوا جزء من الحكومة بما فيها من أبهة السلطان والوجاهات؟ أجاب (ايد دبسون) الذى كان متحدثا باسم هذا التحالف ثم تركه :” المسيحيون (يريد هذه المجموعة تحديدا) بشر مثل الآخرين , يحبون أن تسلط عليهم الأضواء وأن تلتقط لهم الصور مع الرئيس.”
تقول المقالة ان الافانجلكيين الذين كانوا ضد المؤسسة فى الماضى قد غدوا جزءا منها فالرئيس الحالى جورج بوش يفتأ يذكر أفضال القس ( بيللى جرام) عليه قائلا انه خلصه من خطيئة الشراب والضياع. وتحدث الرئيس عن مقدرة السيد المسيح على تغيير القلوب. وتقول المقالة أيضا ان البيت الأبيض قد درج منذ عام 2000 أى منذ فوز الرئيس بوش بالرئاسة على دعوة الافانجلكيين بشكل راتب كل أسبوع للتعرف على انشغالاتهم ومطالبهم.
جاء فى المقالة أيضا أن نشاط الكنائس المذكورة فى التأثير على سياسات الدولة الداخلية والخارجية قد أحدث استقطابا حادا داخل هذه الكنائس نفسها فبدأ ظهور تيار جديد بينها ينادى بالنأى عن السياسة منتقدا تأييد أكثر رموز هذه الكنائس مثلا للحرب على العراق.ويرى هذا التيار أن تعاليم السيد المسيح أشمل من أن تحصر فى قضايا الجنس كزواج الشواذ والاجهاض وما الى ذلك من قضايا وأن الوقت قد حان للاتفات الى قضايا محاربة الفقر والبطالة والعدالة الاجتماعية أى الانتقال من التركيز المفرط على خطايا الجسد الى الخطايا الاجتماعية.
يقول القس الافانجيليكان آدم هاملتون وهو فى الثانية والأربعين ويترأس كنيسة بلغت عضوية المنتسبين لها 14000 ان اليمين الدينى قد أبعد النجعة وقد فقد القدرة على التركيز على بؤرة روح تعاليم المسيح عليه السلام وقسم العالم الى قسمين : أبيض وأسود بينما العالم رمادى اللون. وأضاف ” اننى لا أتصور السيد المسيح واقفا تحت لافتة تدمغ الشذوذ الجنسى. انه من الصعب تصور ذلك.”
وتشير المقالة الى أن عددا من هؤلاء القادة الدينيين قد غدوا يرون فى القس ريك وورين من كاليفورنيا مثالا يحتذى فى ما ينبغى أن تفعله الكنائس : وهو اطعام المشردين فى الولايات المتحدة والجياع فى أصقاع افريقيا المختلفة.
ويرى كاتب المقالة ان الكنائس الافانجليكية تقف الآن على مفترق الطرق بعد تجربة القرب من السلطة ممثلة فى علاقات لم يسبق لها مثيل مع هرم السلطة فى الولايات المتحدة وهو رئيس الولايات المتحدة نفسه . وأفضل تعبير عن حالة الاحباط التى يعيشها رموز اليمين الدينى ما قاله ديفيد كو الذى سبق أن عمل مساعدا للرئيس الحالى جورج بوش اذ أكد أن السلطة التى حازها اليمين الدينى لم يحصد من تلقائها سوى القليل من الفوائد لذا فأنه يتعين الابتعاد عن السياسة .
ومن التبريرات الجديرة بالملاحظة لهذه التحولات فى أوساط الحركة الافانجليكانية وتنامى التفكير فى تناول قضايا اجتماعية واقتصادية أشمل , يقول شاك كولسون والذى أسس ابان سجنه بسبب فضيحة وتر غيت مجموعة دينية باسم ” زمالة السجن” : ان التحولات التى تشهدها الحركة الافانجيليكية مردها الى أن الحركة من خلال احتكاكها بمراكز السلطة وبالرئيس تحديدا ” قد بلغت سن الرشد”حيث وجدت أن اهتمامات الرئيس أشمل من مجرد الاجهاض وزواج المثليين.
وان صح هذا التحليل يصح أن يقال ان السياسة تؤثر أيضا على اتجاهات ومسارات ومآلات التيارات الدينية.