أحسن صنعاً زميلنا السفير الشاعر عبد الله حمد الأزرق وأجاد ببذل الجهد فى رصد الروافد والأسباب التى أفضت فى خاتمة المطاف لظهور حركة داعش أو كما أسمت نفسها (الدولة الإسلامية للعراق وسوريا Isis ) أو (الدولة الإسلامية للعراق والشام ISIL). وذلك على هيئة كتاب عظيم الفائدة عنوانه “تنظيم الدولة الإسلامية داعش / إدارة التوحش ” , تداعت جهات عالمية عديدة كما أخبرنى لإقتنائه . وكانت مجلة “شؤون دولية” الأمريكية قد أعدت كتابا إلكترونيا فى ذات الخصوص حوى تقريباً كل ما كتب عن ظاهرة داعش التى أصبحت شغلاً شاغلاً وهما مُمُضاً لدوائر السياسة والإستخبارات فى العالم بأسره.
لكن الدكتور شادى حميد الذى عمل باحثاً فى عدد من مراكز الأبحاث المرموقة فى الولايات المتحدة ويعمل حالياً كبيراً للباحثين فى قسم دراسات الشرق الأوسط بمعهد بروكنز المعروف فى واشنطن العاصمة , أشار إشارات عميقة لوطأة حركة داعش على برامج ومشروعات ومستقبل الحركات الإسلامية فى الشرق الأوسط المنبثقة عن حركة الاخوان المسلمين وذلك فى كتاب له بعنوان :Islamic Exceptionalism: How the Struggle Over Islam is Shaping the World
(ولك من واقع الحرف أن تترجم العنوان إلى الإستثناء الإسلامى ومن واقع السياق والكتابات التى استعرضت الكتاب ان تقول: خصوصية الإسلام أو تفرده أو إختلافه إن شئت (مقارنة بما عليه حال الديانتين المسيحية واليهودية من حيث أن رسول الإسلام كان نبياً ورأساً للدولة): الصراع على الإسلام يعيد تشكيل خارطة العالم.) وهذه المقالة ليست إستعراضاً للكتاب الذى سيتم تدشينه هذا الأسبوع لكنها محض تعليق وإضاءة على جزئية منه جاءت على شكل مقالة نشرتها دورية ” السياسة الدولية” فى عددها الأخير بعنوان ” لماذا يقاتل الجهاديون؟” , أحاله إلىّ مشكورا الشاب النابه مأمون يوسف سلفاب , نجل البروفسور العالم يوسف سلفاب وحفيد أول سفراء السودان لدى المملكة المتحدة الأستذ الجليل عوض ساتى رحمه الله.
إستنتاجات الكاتب جاءت نتاج جولة ميدانية فى تونس ولقاءات مع شباب ومع ذوى شباب التحقوا بداعش مات أكثرهم هناك. واختيار تونس عميق الدلالة وهو إختيار يحسب للباحث حيث أنها تحمل تناقضاً كبيرا إذ أن تونس هى الدولة الوحيدة من بين دول الربيع العربى التى إجتازت إمتحان الديمقراطية وهى الآن تسير بخطى ثابتة على هذا النهج إلى الدرجة التى وصلت فيها حركة النهضة الإسلامية , احدى أكبر حركات الإسلام فى المنطقة , حد الفصل بين السياسى والدعوى . ومع ذلك تعتبر تونس من أكثر البلدان التى يلتحق قطاع معتبر من شبابها إختياراً كمقاتلين بداعش والحركات المتشددة الأخرى مثل جبهة النصرة . فما حقيقة هذا التناقض وكيف يتم تفسيره؟ فى إجابات الشباب وذويهم أن الديمقراطية تظل حتى الآن شعاراً جذاباً مجرداً من الفعل لم يلامس واقع قاس تعيشه غالبية الناس فى تونس. يقول الكاتب إن الآمال كانت معقودة على الديمقراطية ومشاركة الطبقات المغيبة فى العملية السياسية وإتاحة الفرصة لهم للتعبير عن إنشغالاتهم السياسية والإقتصادية على إعتبار أن ذلك سيكون العلاج الناجع لمحاصرة وإنهاء ظاهرة الإرهاب فى الشرق الأوسط . يقول الكاتب لكن تتنامى الأدلة والشواهد على أن هذا الإعتقاد صحيح جزئياً فقط وعلى المدى البعيد . لكن تونس كما يقول لم تصل بعد لذلك المدى البعيد ولن تصل إليه فى القريب العاجل. يقول إن إسقاط ديكتاتور (بن على) مع نشوة النصر العارمة التى تبعت ذلك , والتى إنتظرها الناس هناك طويلاً , قد بعثت آمالاً عريضة لدى الناس . لكن مؤسسات الحكم الجديدة لم تزل ضعيفة وعاجزة عن تحقيق تلك الآمال . وقال الكاتب إنه عندما كان يذكر الديمقراطية لأولئك الشباب يجيبون بسخرية وتهكم ” أى ديمقراطية تعنى؟!” وعندما تساءل مستغرباً عن تناقض أن تكون تونس هى أنموذج الديمقراطية فى العالم العربى ومع ذلك ترسل العديد من المقاتلين إلى الجماعات المتشددة , أجاب مغنٍ للراب: “إنك تحس بهذا التناقض لأنك تعيش فى الخارج لكننا هنا نعلم أننا لا نعيش الديمقراطية. إن الأمر يشبه رجلاً متسخاً لم يزاول الإستحمام لأشهر عديدة لكنه فجأة وفى أحد الأيام ظهر بملابس جديدة زاهية وغالية الثمن.”
وأود أن أقفز نظراً لضيق هذا الحيز المتاح عادة فى الصحف السيارة , إلى المعضلة التى جعلتها عنواناً لهذه المقالة وهى معضلة مسيرة الحركات الإسلامية الحديثة بعد ظهور جماعات التشدد الإسلامى مثل داعش التى كونت أنموذجاً يتمدد على مساحة واسعة من الأرض و كونت حكومة بمحتوى مغايراً لنظام (الدولة- الأمة ) الذى يقوم عليه النظام الدولى السائد .
يرى الدكتور حميد أن الحركات الإسلامية نشأت متأثرة بالحداثة وفى كنف (الدولة-الأمة ) أو القطرية وهى تجهد نفسها لا للقضاء على هياكل (الدولة-الأمة ) بل لأسلمتها وذلك من لدن حركة الاخوان المسلمين التى أسسها حسن البنا فى مصر عام 1928. ويضرب مثالآ للسعى للتماهى مع تكوين الدولة الحديثة ومحاولة أسلمتها بحركة النهضة فى تونس فيقول إن هزيمتها كانت فى نجاحها الباهر فى أول إنتخابات حرة تشهدها تونس والتى حازت فيها على المركز الأول , ذلك لأنها من فرط قوة العلمانية فى تونس حاذرت بألا تتضمن برامجها حتى كلمة (شريعة) . وأن الكبت الذى تعرضت له حركة التدين عموماً إبان الحقبة الطويلة من الحكم العلمانى جعلت غاية الغايات بالنسبة للحركة أن يتم قبولها كأحد مكونات الحياة السياسية فى تونس لتصبح واقعاً (عاديا) مثل مكونات المجتمع السياسى الأخرى. (كأن هذا التماهى مع الواقع السياسى أفقدها البريق الذى يتوق إليه شباب متعطش متسرع للتغيير وبلغة أخرى كأنها أصبحت كاللاحدث!). حركة داعش وحركات التطرف الإسلامى الأخرى ترى فى المقابل وعلى نقيض رؤية الحركات الإسلامية الحديثة ,أن الأزمة قائمة بسبب هياكل الدولة الحديثة وأن الأولية هى تقويض تلك الهياكل تماماً لإقامة نظام الإسلام القائم على الأممية الإسلامية والذى ظل قائماً حتى سقوط الخلافة العثمانية عام 1924 لا التودد لها والتصالح معها لقبول الحلول الإسلامية سيما وأن كافة محاولات الإسلاميين القائمة على التصالح مع الدولة الحديثة كانت دوما تنتهى على حساب إقامة الإسلام لتبقى وتنتصرهياكل ومؤسسات الدولة الحديثة. بمعنى بانقضاض الدولة بهياكلها على التطلعات الهادفة لإقامة الإسلام . لذا لزم فى مخطط المتشددين الكف عن هذه المحاولات الفاشلة وإقامة الإسلام على أنقاض الدولة الحديثة وعلى نهج الخلافة . ويرى الكاتب أن تنازلات الإسلاميين فى إطار الموضوعية والبراقماتية والقبول العقلانى بالواقع الذى يفرضه العصر , يكون على حساب شخصيتهم كإسلاميين. وتلك قمة الأزمة بالنسبة لكل حركات الإسلاميين الحديثة فى المنطقة المنبثقة عن حركة الاخوان المسلمين برمتها لا حركة النهضة وحدها. هذه الحركات بهذا الوصف ليس لديها ما تقدمه لهؤلاء الشباب المقاتلين الذين يسارعون للإلتحاق بداعش وغيرها. يقول ايضاً بينما تحرص الحركات الإسلامية على التصريح بأنها تقبل بالدولة المدنية وحقوق المرأة اوبالإرادة الشعبية كوسيلة للوصول للحكم لتحظي بالشرعية والقبول كعضو طبيعى فى النظام العالمى , فإن الدولة الإسلامية (داعش) لا تستهين وتتجاهل هذه الإعتبارات وحسب بل تتباهى برفض كل هذه الأعراف الحداثية. داعش تكتسب البريق لدى المتشددين بأنها على عكس كافة الحركات الإسلامية قد أقامت دولة ” دينية” بينما فشل أولئك جميعاً وعلى مثال الخلافة . وعلى الرغم من التشويه الذى ألحقته بمقاصد الإسلام وروحه عبر التقتيل والقسوة البالغة ,إلا أن ذات الكيان الشائه الذى أقامته قد حرك أشواق قطاع ربما يكون صغيراً لكنه معتبر بين المسلمين. يقول ولو أن “الدولة الإسلامية ” أو داعش ,سقطت غدا فإن الأذى الذى نتج عن قيامها لن يزول من حيث أنها خلقت أنموذجاً للمتطرفين المسلمين يكمن فى إمكانية الإستيلاء على رقعة واسعة من الأرض وذلك دون الحاجة إلى دعم كبير من المسلمين , ذلك بالإضافة إلى الرعب والبربرية والتى هى معنى الدولة الإسلامية التى أقامتها داعش.
ويورد الكاتب فى خاتمة هذا الجزء مقالة كان قد كتبها جورج أورويل عام 1940 معلقاً على كتاب أدولف هيتلر “كفاحى” بان هيتلر اكتشف ضلال الإعتقاد السائد فى كل الفكر الغربى بعد الحرب الأولى بأن غاية ما يصبو إليه الإنسان , كل الإنسان ,هو السلام واليسر وتفادى الأذى إلا أن هتلر اكتشف جوانب أخرى دفينة فى الفطرة الإنسانية يستهويها ما قدمه لها: “أقدم لكم الكفاح , الخطر والموت”. يقول وتنيجة لذلك خضعت كل الأمة تحت قدميه. يقارن ذلك بما عليه الحال لدى داعش التى تعظم القتل. يقول إن هذه المشاعر والقناعات المخيفة بالإمكان محاصرتها والتقليل منها وربما تصريفها تصريفاً بناءاً إلا أنها وللأسف لن تزول.
استنتجت الدكتورة J.M.Opera من جامعة أوستن فى نقدها للكتاب أن الكتاب يحض على التعامل مع الحركات الإسلامية الحديثة وقبولها فى ملاعب السياسة كعضو ويقلل من مخاطرها على الديمقراطية كأنما يعد ذلك ترياقاً للتطرف المخيف الذى يكاد يغير من الكثير من الثوابت على نطاق العالم وهو ما لا يروقها من تحليل على إعتبار أن الديمقراطية رديفة الليبرالية. صحيح أنه فى مقالة أخرى نشرتها “نيويورك تايمز” كان قد أشار إلى أن تجربة الرئيس محمد مرسى فى مصر كانت تجربة فاشلة للحركة الإسلامية إلا أن الفشل الأعظم كما يراه , هو فشل الأنظمة العلمانية فى الشرق الأوسط فى إستيعاب الإسلاميين فى العملية الديمقراطية ذلك أن الفكرة , فكرة ضرورة إستيعاب الإسلام بما فى ذلك قضية الشريعة بصورة من الصور فى الحكم تحظى بدعم الأغلبية فى مصر وغيرها وأن موت الحركة الإسلامية لا يعنى البتة موت الفكرة التى قد تعود بالإسلاميين مجدداً يوماً ما . وهو يرى أن الديمقراطية فى الشرق الأوسط ستظل دوماً – إن قامت- تعانى من نقص فى الجرعة الليبرالية التى تميزها فى مواطنها فى الغرب بحكم محورية تعاليم الإسلام فى الحياة هناك وأنه يلزم أن يدرك الغرب هذه الحقيقة.
أكرر أننى لم أطلع على الكتاب بعد فقط اسستهوانى هذا المقال الجدير بالقراءة والدراسة والمحفز لمزيد من الحوار حول مستقبل الحركات الإسلامية الحديثة ومستقبل الإستقرار فى الشرق الأوسط وما وراء الشرق الأوسط حيثما وجدت أكثرية مسلمة. وما جاء حول وطأة داعش قد يولد أفكاراً جديدة بحكم تلك التحديات لدى الإسلاميين مما دفع بعض الباحثين للحديث عن ما أسموه : ما بعد حركات الإسلام السياسى أوPost-Islamism مثل كتابات الدكتور عاصف بيات التى أشار فيها إلى تحولات جذرية قد تحدث فى فكر تلك الحركات بما يراه أكثر إنسجاماً مع الواقع المعاصر مع بقاء المعتقدات الإسلامية .
وطأة داعش على الحركات الإسلامية ومستقبلها!
0