(من أرشيفنا – بتصرف- : كُتب ونًشر فى مارس 2004)
فى أمسية سنية من أماسى حاضرة الجزيرة الخضراء ود مدنى الغراء, حيا مروجها البهية الحيا , وأغدق الله عليها من غيوث الخير جودها فرهامها, وقف شاعر العرب الكبير الراحل نزار قبانى فى عرصات “نادى الجزيرة” الذى كان الدخول إليه يومئذ وقفاً على “الأعضاء فقط ” وهم يومئذ علية القوم ووجهاء المدينة, ليلقى على مسامع الحضور الكثيف الذى ضاقت به مساحة النادى الضخم المتمدد على شاطئ النيل الأزرق المزدان بالخضرة الخلاقة. ولم تلهنا الفخامة تلك الليلة ولا الضخامة الباذخة وحسن التنسيق الذى ازدان به المكان عن متابعة الشاعر القامة يلقى بصوت مدوى كالرعد قصيدته السياسية الأولى , (هوامش على دفتر النكسة) وهى مرثية هزيمة العرب المدوية فى القرن العشرين عام1967:
إذا خسرنا الحرب لا غرابة…….
لأننا ندخلها بكل ما يملك الشرقى من مواهب الخطابة
بالعنتريات التى ما قتلت ذبابة..
بمنطق الطبلة والربابة….
وبلغ الطرب بالحاضرين مبلغاً عظيماً وكنا فى زمرة أولئك, صبية فى ميعة الصبا وشرخ الشباب جئنا سيراً على الأقدام من داخليات ثانوية مدنى الحكومية التى تبعد عن المكان بنحو ثلاثة كيلومترات ننظرإلى الرجل بأفواه فاغرة وعيون تغمرها الدهشة. وقفت جموع الحاضرين لمرات عديدة تحى الشاعر بالتصفيق الحاد وعبارات الإستحسان. وصرفت مغازى القصيدة السياسية التى كانت تعريضاً بالرئيس جمال عبد الناصر البعض عن جماليات الشعر وبراعة الإلقاء فغضبوا الغضب كله وكان من بينهم رئيس شعبة الرياضيات فى مدرستنا, المصرى رياض هدهد فحملت الكلمات بعض مواجده لكنها تاهت فى الخضم الهادر بالإعجاب والإستحسان.
والشأن اليوم فى هذه السطور هو شأن عنترة الشاعر الفحل المجيد والعنتريات وأهل السودان. أما شأن ودمدنى وثانويتها العظيمة وأساتذتها الأجلاء أهل السبق والإجلال فشأن تعرضنا له فى حلقات نشرناها على صفحات يومية “الرأى العام” الغراء قبل نحو عام هي بعض كتاب لنا نأمل أن يرى النور قريباً بعنوان ” رسائل فى الذكرى والحنين”. ويقيننا أننا لم نوف المدينة ولا ثانويتها ولا اساتذتها الأجلاء حقهم كاملاً غير منقوص ولعمرى تلك غاية قل أن تدرك.
إذن فالشأن اليوم شأن عنترة والعنتريات وأهل السودان. والعنتريات إشتقاق محدث من اسم فارس العرب المغواروشاعرها الفذ عنترة بن شداد العبسي وهو إشتقاق يعد نقيض عنترة فى كل شئ. فعنترة رمزمن رموز الشجاعة والشموخ والنبل العربى والعنتريات ضجيج بلا طحين وفرقعة تذهب فى الهواء وقول بلا عمل!
والناس لم ينصفوا عنترة الفحل عندما اشتقوا من اسمه هذا الهراء. وعنترة هذا العبسى شديد الشبه بأهل السودان لا لأنه جمع فى شرايينه بين جزيرة العرب وإفريقيا.صحيح أن اباه شيخ العرب فى قبيلة عبس النجدية وأمه زبيبة الحبشية والحبشة يومئذ بعض السودان, لكن تأملوا أخلاقه تجدوا فيه بعض الذى تجدونه اليوم فى أنفسكم. قال مبتدراً معلقته التى من فرط عذوبتها وسلاسة ألفاظها وجمال سبكها أطلق العرب عليها اسم “الذهبية” لأنها فى نفاسة الذهب وعلقوها على أستار الكعبة وهى أقدس المقدسات منذ أن شيدها إبراهيم أبو الأنبياء عليه وعلى نبينا السلام :
هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم
قال شراح المعلقات إن معناها أن الشعراء لم يتركوا باباً ولا ضرباً ولا فناً من فنون الشعر إلا وطرقوه فلم يدعوا شيئاً لمستزيد ! وعنترة بلا جدال قد زاد وأجاد حتى وصفت معلقته دون غيرها بالذهبية. لكنه نبل التواضع وخلة الحياء ومحاذرة الوقوع فى حبائل الكِبر المفضى إلى الهلاك وتلك شمائل محمودة ظلت تميزسائر أهل السودان حتى زمان الناس هذا. ولئن كان عنترة قد قال ما قال تواضعاً حقاً أو إعتذاراً عن فخر تفاخر به لاحقاً فى ثنايا رائعته تلك أو قاله تجملاً فكل ذلك حسن يليق برجل عظيم مثله. إنه الوحيد بين شعراء العربية الفحول الذى ابتدر شعره بالتواضع. والتواضع خلة محمودة لأنه من الحياء الذى هو من الإيمان. لكن اللئام من الخلق قد يفسرونه خنوعاً وضعفاً واستكانة وربما جهلاً وقلة حيلة. لذلك بادر عنترة إلى تحذيرهم من مغبة الوقوع فى ذلك المحظور من سؤ الفهم فقال فى معرض خطابه لمحبوبته عبلة بنت عمه مالك :
إن تغدفى دونى القناع فإننى سمح مخالقتى إذا لم أظلم
وإذا ظلمت فإن ظلمى باسل مر مذاقته كطعم العلقم
وعنترة عفيف وأهل السودان يحبون الطهر والعفاف. وجاء فى الأثر أن النبى صلى الله عليه وسلم أثنى على بيت لعنترة يقول فيه:
وأغض طرفى ما بدت لى جارتى حتى يوارى جارتى مأواها
وتورد الأخبار أن النبى (ص) قال ايضاً “ما من إعرابى تمنيت رؤيته سوى عنترة”. وقد عد النبى بيته ذاك من مكارم الأخلاق لأنه ترفع عن فاحشة الزنا كما أنه احترام لقدسية الزواج ولحرمة الجيرة. وعفاف عنترة يمتد إلى المتاع الزائل فقد قال:
يخبرك من شهد الوقيعة أننى أغشى الوغى وأعف عند المغنم
وأهل السودان ربما شقوا وسعدوا بمزية الإنتماء إلى عالمين ومحيطين مختلفين هما الغابة والصحراء, شقوا ببلواء التمزق بين ذينك العالمين , فمنهم من شاقته الغابة الخضراء بأهازيجها الراقصة ورياضها البهية وطبيعتها الساحرة فأراد للسودان أن يتفيأ ظلالها الوارفة ودوحها الظليلة يروى ظمأه من عذب مياهها الدفاقة ويسعد بخضرتها النضرة ويمرح فى دغلها كما تمرح الآرام والحمر الوحشية طليقة من كل قيد لا يبالى ما تصنع الدنى لا تقيده قريش (بالتعلل) بأنساب الكرام ولا تميم كما تمنى المجذوب!. وربما علل أولئك خيارهم ذا بالمقولة المنسوبة للرئيس الغانى كوامى نكروما ” أعجب لأهل السودان يتركون الريادة فى إفريقيا ليرضوا بسير الظلعاء فى مؤخرة ركب العرب!” قالوامتحسرين إن السودان لايقع على هامش العالم العربى وحسب بل على هامش الهم العربى ايضاً. ذلك رغم أنه يحمل أرزاء التخوم وتبعاتها إذ أن البريطانيين عندما اقتحموه عنوة هالهم تأثيره الواسع على أجزاء واسعة من القارة البكر السمراء وراعهم أن يجدوا أن الثقافة العربية لساناً وأنماط سلوك قد انسابت عبر سماحة أهله كما ينساب المال الزلال إلى قلب إفريقيا حتى شطآن البحيرة العظيمة التى تحمل اسم الملكة البريطانية فيكتوريا , فهرعوا مسرعين يبنون القلاع ويقيمون الحصون لإعاقة أو بالكلية وقف ذلك الإندياح السهل المسالم الذى لم يكن يمتشق سيفاً ولا يتأبط بندقية ولا يجر مدفعاً, ليجتثوا ذلك النبت النضير من جذوره فاستبدلوا العربية التى انتشرت فى الجنوب بالإنقليزية لغة للتعليم فى مدارس الكنائس والحكومة على السواء إنفاذا لتوصيات مؤتمر الرجاف الذى عقد خصيصاً لهذا الغرض عام 1928. قال القس البريطانى المتعصب سبنسر ترمينقهام يصف ذلك القرار : ” لو لا ذلك (القرار) لما وقف عائق لإنتشار الإسلام فى إفريقيا.” كانت تلكم هى بذور الشقاق التى نمت وربت فاثمرت دماراً وموتاً وخراباً وجراحات لا تزال تنبت دماً وتزهق أنفساً كريمة وتأتى على موارد ثمينة سوى آثارها الجانبية فقراً وفاقة ومرضاً وتخلفاً فى بلد تجمع الدنيا على أن له من الأسباب والموارد والثروات ما يرتقى به إلى منازل الثريا وزحل. قالوا كل ذلك بسبب بعض دماء عربية تسللت إلى شرايينه وأوردته يتشكك فى جريانه كثير من العرب. كأن الجهد الحضارى والإنسانى الذى تطلع به هذه البلاد وتلاقى بسببه ما تلاقى لا يعنى لكثيرمن العرب شيئاً.إذا استبدت بأهل هذه البلاد سجية النخوة والشهامة , حظوا من فضلاء أولئك بكلم طيب أما إذا أحاطت بهذا البلد الخطوب وتكأكأت عليه بليل جيوش دول ثلاث ضحك بعضهم ملء أشداقهم شماتة واعتذروا لأنفسهم بأن هذا السودان يقع فى فخ نصبه لنفسه , وفى ذلك بعض الحق بلا جدال, صرفتهم خصومات السياسة الآنية عن إستبانة ضخامة الكارثة التى تحل بأهله وبهم إذا أزيل هذا الكيان ولم تسعفهم حكمة يعرب القديمة ” انصر أخاك ظالماً اومظلوماً ” والتى هذبها نبي الإسلام بإعتبار النهى عن الظلم نصحاً يعد نصراً وسنداً وإنحيازاً لقوة الحق. أنصتوا مجدداً لمرارات مواطنكم عنترة وهو يصف شبيه هذا الخذلان:
خدمت أناساً واتخذت اقارباً لعونى ولكن أصبحوا كالعقارب
ينادوننى فى السلم يا ابن زبيبة وعند اصطدام الخيل يا ابن الأطايب
وقالوا أيضاً لم يشفع للسودان أنه ابتدر الثورات على الظلم فى المنطقة قبل أكثر من قرن مضى وتحرر فأصبح الدولة الوحيدة المستقلة فى قارة إفريقيا إلى جانب إثيوبيا وليبريا فى القرن التاسع عشر ثم أقام ديمقراطية برلمانية قبيل إستقلاله بقليل وعرف منذ العام (1953) حرية الصحافة والتنظيم وحرية المعتقد واستقلال القضاء وإستقلال الجامعة وحرية المرأة وحقها فى الترشح والإنتخاب حيث انتخب سيدة أقتحمت مبنى البرلمان نائبة عام 1965 سابقاً بذلك دولاً فى أوروبا. وقبل ذلك اشعل الثورات والإنتفاضات فى أكتوبر 1964 وفى أبريل 1985. ومع ذلك الرصيد الضخم من الإنجازات ظل دوماً مادة للتندر والإستخاف للقنوات والصحافة العربية وبلغ حد الجرأة أن يكون رئيس السودان هو أول رئيس فى المنطقة تتصدر الإساءة إليه غلاف احدى المجلات العربية عام 1974 تحت عنوان ضخم : ” لماذا لا ترحل يا سيادة الرئيس؟!” كأنه الحاكم الوحيد فى المنطقة الذى يتعين عليه أن يرحل! وكان نزار قبانى قد دعاهم أجمعين أن يرحلوا فى رائعته التى ألقاها على مسامعنا فى تلك الليلة المشهودة فى ود مدنى البهية الندية ضمن ما ألقى بحماسة دفاقة تحت عنوان “الممثلون” التى نظمها بعد هزيمة 1967 المجلجلة وقد ابتدرها بسخرية قاتلة من بقاء الحال على ذات المنوال رغم الهزيمة المذلة:
جرائد الصباح ما تغيرت
الأحرف الكبيرة الحمراء ما تغيرت
واستطرد بذات السخرية القاتلة يصف الإستكانة والتأقلم مع كل جائحة تقع:
فاطمة تهدى إلى والدها سلامها
وسامر نال شهادة الكفاءة
طمئنونا عنكمو عنواننا المخيم التسعون!
ودعا فى الختام جميع حكامنا ان يترجلوا ويرحلوا:
المسرح انهار على رؤوسكم
فمتى سيرحل الممثلون؟!
نعم لم تجرؤ الصحافة العربية يومذاك على أن تسود صفحاتها بمثل هذا الشعر دع عنك أن تطلب من زعيم عربى واحد سوى رئيس السودان جعفر نميرى , أن يرحل. قال أحد أولئك الصحافيين العرب وكأنه يفسر سبب ذلك التطاول بما هو أقبح منه, ” أنتم صادقون فى حبكم وكرهكم, أوفياء لقضايا العرب والمسلمين لكنكم مسالمون لا تقتلون متطاولاً وفقراء لا تشترون قلماً!”
وقالوا أيضاً: أخبار السودان العادية لا تجئ فى قنوات العرب إلا فى ذيل النشرات الإخبارية وتالية لأخبار الرياضة .أما إن تصدرت تلك النشرات فاعلم أن مصيبة جديدة قد حلت باهل السودان المساكين. وتألموا حين شاهدوا شاباً سودانياً معجباً باحد المطربين من أبناء الخليج يسأله إن كان يطرب للغناء السودانى فيجيبه ذاك بفتور بائن بأنه لايعرفه حتى يستمع إليه.وانطوى السائل فى استحياء على نفسه وهويردد فى دخيلة نفسه بلسان الحال ” ولا حتى المامبو السودانى؟!” وغضبوا من مذيع عربى بارع يحاورالسيدة جيهان السادات وهى تردد إنجازات زوجها فى مناصرة المرأة المصرية وتنقيح قوانين الأحوال الشخصية بالقول إنه جاء بقوانين سودانية متقدمة وعصرية ومنصفة للمرأة فعاجلها المذيع الذى لم يرق له أن يكون السودان متقدماً فى شئ ! وقالوا أيضاً إنه بينما تقطع الدول العربية علاقاتها ببعضها البعض إذا استضافت شقيقاتها العربيات معارضين لنظام الحكم فيها فإن السودان هو البلد الوحيد الذى لا يفعل شيئاً إذا استضافت شقيقاته العربيات معارضى أنظمته المختلفة بما فى ذلك المعارضات المسلحة بل يتولى عبء تفسير ذلك الصنيع لمواطنيه بالزعم :” أن تلك الدولة الفلانية تحرص على جمع الصف الوطنى السودانى وتسعى لتقريب وجهات النظر لذلك فهى تستضيف المعارضين.”!! وأغلب الظن أن الدولة المعنية تلك يقتلها الضحك والدهشة من التبرير المقنع الذى لم يخطر لأجهزتها المتخصصة فى الخداع و(الفبركة ) وتدبيج الاضاليل كأعاليل , على بال! (ناس طيبين ) وكفى . ترى أى من مترادفات الضعة والهوان يصلح للتعبير عن مثل هكذا وقائع؟؟ قال أحد الزعماء فى السودان قبل عقود والحرب مشتعلة مع تمرد كاد يطيح بالبلاد : ” رغم أننا نعثر كل يوم على الأدلة الدامغة التى لايطرقها الشك ولا يتطرق إليها , على تورط بعض الأشقاء العرب فى دعم التمرد بالسلاح والعتاد المستهدف أصلاً للشق العربى من هويتنا, إلا أننا نطوى الضلوع ونلوذ بالصمت حتى لا نشوه لدى المواطن صورة العرب فى بلد مهددة فيه ثقافة العرب ووجودهم.” قالوا ذلك وكرت المسبحة تذكِربشواهد له فى القديم فقد زار السودان فى عشرينيات أو ثلاثينيات القرن الذى مضى الأستاذ محمد حسين هيكل مؤلف كتاب ” حياة محمد” فكتب مقالة عن تلكم الزيارة لم تخلو من تجريح للبلد وأهله حتى وصف طعام “الكسرة” وهى غالب طعام أهل السودان بأنها “نوع ردئ من الطعوم”! ولم يشف غليلهم الرد البليغ للراحل عرفات محمد عبد الله على المقالة التى خلت من الكياسة والحساسية التى تميز المفكرين. وقالوا…وقالوا… فى مرافعات من قبيل تلك التى تعرض على المحاكم العليا وظنوا أن ذلك يكفى لنفك إثارنا من هذه العلاقة التى لم نجن منها سوى الحصرم والحسرات. وفى الذى قالوه كثير من الحق.
ولكن هل بوسعنا حقاً أن نفعل ذلك؟ هل نغضب غضبة مضرية كغضبة بشار وندخل فى زمرته الشعوبية نكيل التهم للعرب وهم يُرمَون اليوم من كل قوس؟وتلك تجارة رابحة تفرح كثيرين وراء البحار والمحيطات. هل بوسعنا أن نفعل ذلك ونغضب لتفاهات السخرية من(تزعة” ويا “زول”) ؟ فنبادل التقريع بمثله وأشد وهو متاح بما لا يتصور؟ ذلك بالإمكان لو كنا نتزيا بزى الأعاريب رغبة فى التشبه بهم ونلوى ألسنتنا لتنطق بالسنتهم محاكاة بئيسة لهم, نعم لوكان الدوبيت والمسادير وشتى فنوننا فى الشعر والأمثال طارئة ودخيلة على الثقافة العربية و لو كانت مهيرة بت عبود وبنونة شقيقة المك نمر وشغبة البطحانية وحاج الماحى وود أبشريعة وحياتى والحاردلو وعمر البنا قد تعلموا الشعر من الفضائيات العربية التى تكاثرت بعد مماتهم بقرون والمذياع الذى عرفناه فى أربعينيات القرن الماضى , لوكان ذلك كذلك لخلعنا هذه النسبة ولرفعنا عن كواهلنا عبء ما جرته وتجره علينا كل يوم. نحن لا نستبسل هذه البسالة من أجل عيون العرب العسلية أو السوداء لأن العرب فى عبارة مذيع الجزيرة “ليسوا أمريكا..” أى فى قوتها وتقدمها وتأثيرها على المحيط الدولى برمته حتى ندخل فى جوارهم, نستكثر بهم وندفع بهم غائلة الأيام وبؤس السنين فحالنا من حالهم وضعفهم وهوانهم على الناس بعض ضعفنا وهواننا , فنحن هم وهم نحن وإن استكثر بعضهم علينا ذلك وظنوا أنهم إلى الروم أقرب. قال أبو الطيب يعرًض بغريمه ابن عم الأمير أبى فراس الحمدانى , لأن أمه كانت رومية أى بلغة العصر أوروبية ,مخاطبا سيف الدولة:
بأى لفظ تقول الشعر زعنفة تجوزعندك لا عرب ولا عجم
كأن أولئك لم يقرأوا ما خطه يراع عالم اللغة المصرى عبده بدوى فى طروحته لنيل الدكتوراة ” الشعر فى السودان” , “وللحقيقة يمكن القول بأن فى عربية السودان جزالة وشدة اسر وجهامة فى القالب تذكرنا بما هو موجود داخل المعجمات, ثم إن عامية السودان تعتبر من أفصح العاميات فى العالم العربى فالدخيل فيها قليل بسبب عزلة السودان, وإنطواء كثيرين من السودانيين وهى تقرب كما يؤكد الدكتور عبد الله الطيب من لهجة بنى أسد فى الجاهلية, ومن هنا يقول الأستاذ حسن نجيلة فى كتابه “ذكرياتى فى البادية” ( وإذا أتيح لك الإستماع إلى بعض هذه الألفاظ أو رأيتهم يبدلون الحروف على غير ما تعهد فلا تعجل عليهم باللوم, وإنما اتهم نفسك بالعجمة أولاً وعد إلى كتب اللغة تنبئك باليقين.) ولهذا رأينا البعض كالشاعر صلاح أحمد إبراهيم يكتب تحت عنوان ” نحن عرب العرب” ويقول إن شعره خشن كالخيش ويرى أن تلك الخشونة هى الجزالة التى تميز الذوق السودانى حتى اليوم.” (ص8)
أعراقنا فى السودان أمشاج من زنج , نوبة ,حام وسام وعرب.أما ثقافتنا الغالبة فثقافة اقليم من أقاليم العرب شوته بالحرارات الشموس أكسبته إيقاعات الزنج الصاخبة ورقصاتهم ونبت القارة البكر وعروق الذهب الغائرة الممتدة فى أعماق كوش وشبكة وشبتاكا وبعانخى وترهاقا والكنداكات ذلك المذاق الخاص. شأننا فى ذلك شأن عرب التخوم شرقاً وغرباً غشيتهم من فارس وتركمان ومن البربر والروم والهند غاشيات وصبغتهم من دمائهم (جينات) ومن أهازيجهم وربما من تراتيلهم نغمات. وقد غشيتقريش من نسل النبى الأعظم وسبطه زين العابدين على بن الحسين بن على (على السجّاد) مثل تلك الهجنة, أليست أمه (شاه زنان ) ابنة (يزدجرد) عظيم الفرس؟ وبين خلفاء الدولة العباسية قاطبة أطلقت العرب لقب (ابن العربية) على محمد السفاح لأنه الوحيد بينهم الذى لم تكن أمه من (الموالى) ؟ أين النقاء العرقى إذن واين تجد اليوم عرباً عاربة لم تخالط دماءها الدماء؟ نحن إذن شأننا شأن عنترة نحمل فضائل عالمين بينهما فى الأصل قواسم منذ عهد الملك النبى سليمان وسيف بن زي يزن وأبرهة الأشرم.وليس فى أخلاقنا وأخلاق العظيم عنترة التنكر لأحدهما بسبب جور الزمان وذهاب السطوة والسلطان فالوفاء والبر بعض قيمنا المرعية. والتنكر للعرب وإدارة الظهر لهم أهون على أيامنا هذه وأجلب للرضا والعطاء من سادة الدنيا الممسكين بأزّمة قيادها كما أن الإنتساب إليهم لا يعبر عن شعور بالدونية كما يظن البعض ولا عن تحقير لشأن إفريقيا.وكلمة عقدة التى تضاف لاسم الفارس عنترة “عقدة عنترة” إنما هى من قبيل التجريح والإنتقاص من قدر البطل المغوار شأنها فى ذلك شأن العنتريات فالعرب اليوم ليسوا أهل الشوكة كما تقدم حتى يستطيل المرء بالإنتساب إليهم وليس بينهم من هو فى شجاعة عنترة ولا هو من فى مهابة المطعم بن عدى حتى يدخل أهل السودان فى جواره وهم آمنون من فظائع تدبر فى حقهم . بل حالنا فى كثير من الأحيان مثل حال قريط بن أنيف الذى يندب حظه فى الإنتساب إلى بنى العنبر وهى قبيلة ضعيفة بل متهالكة لا تحرك ساكناً وقد أحاطت بابنائها الخطوب الدواهى. ومع ذلك لا تطاوعه نفسه الأبية نزع جلده والإلتحاق ب “مازن” القوية المرغامة, فيكتفى بنفث الزفرات وسكب العبرات:
لو كنت من مازن لم تستبح أبلى بنو اللقيطة من ذهل بن شيبان
إذن لقام لنصرى معشر خشن عند الحفيظة أن ذا لوثة لان
إلا أن يقرع قومه بسخرية قاتلة:
لكن قومى وإن كانوا ذوى عدد ليسوا من الشر فى شئ وإن هانا
كأن ربك لم يخلق لخشيته سواهم دون الناس إنسانا
والكريم الذى ليس فى وسعه إعانة أخيه حتى بالدعاء والكلم الطيب لا ينبغى أن يعين عليه بالكيد أو بمحاكاة الأباعد الذين لا يرومون خيراً بالجراة عليه. قال شيخ من الأردن الشقيق فى ندوة عقدت فى جامعة الخرطوم عقب هزيمة حزيران عام 1968 بلسان ذرب ووجدان صادق وهو عليم بحال الأمة البئيس يومئذ وهو يحكى عن حال العرب فى الأراضى التى تهاوت بعد حزيران 1967:” إن اخوانكم هناك لا يطلبون سوى الموت الشريف فأعينوهم على الموت الشريف.” لم يطلب الشيخ الجليل سلاحاً ولا ذخيرة ولا إغاثة من أى نوع بل طلب فى واقعية مؤلمة من أشقائه فى السودان وما وراء السودان أن يكفوا عن أهل الأراضى المحتلة الألسن وقالة السؤ! وفى زمن الإنكسارات الكبرى والهزائم المتلاحقة والخزئ المستشرى يفعل الراقد خيراً بالأمة من الجالس والجالس خيرا من الواقف والواقف أطهر مسعى من الساع فى الفتنة وهلاك الأهل حيث بإمكانه أن يعتذر بأنه قد كره الذى كان بالقلب وذاك أضعف الإيمان ويكون بمقدوره أن يبكى بعين دامعة وقلب صادق مفجوع ضياع الديار وفناء الأهل وذهاب الأوطان إن وقع لا سمح الله مثلما بكى دعبل الخزاعى حال آل البيت وقد أحاطت بهم الخطوب ,حيث بكى بعين دامعة وقلب أسيف:
مدارس آيات خلت من تلاوة ومهبط وحى مقفر العرصات
لآل رسول الله بالخيف من منى وبالبيت ذى الركن والجمرات
بنات يزيد فى القصور مصونة وآل رسول الله فى الفلوات.
وبعد… فهذا عتاب الأشقاء ويبقى الود ما بقى العتاب. ولئن لم تبلغ مفردات عتابنا نفاسة الدر إلا أن التشبه بالرجال فلاح فدعونا نتمثل بيت ابى الطيب فى عتابه لسيف الدولة:
هذا عتابك إلا أنه مقة قد ضمن الدر إلا أنه كلم
وليصلح الله الحال!
قسمات وقواسم , خلا العنتريات, بين عنترة وأهل السودان!
0