الحرب الباردة مصطلح يصف الصراع الذى كان بين المعسكرين الرأسمالى الذى يضم فى عضويته ديمقراطيات غرب أوروبا وتقوده الولايات المتحدة الأمريكية والإشتراكى الذى يضم دول أوروبا الشرقية الإشتراكية ويقوده الإتحاد السوفيتى والذى استمر بعد الحرب العالمية الثانية حتى سقوط الإتحاد السوفيتى عام1991 وما تبعه من تفكك المعسكر الإشتراكى وزوال حلفه العسكرى المعروف بحلف وارسو الذىكان قائماً لمواجهة حلف شمال الأطلسى (الناتو) الذى يضم دول المعسكر الرأسمالى المذكورة آنفاً.
والحرب الباردة حرب إقتصاديات و إستخبارات ودعايات معادية متبادلة ومؤامرات وهى باردة بهذا المعنى, بمعنى أنها ليست بالسلاح القاتل الفتاك غير أنها قد تشمل حروباً يموت فيها الناس بتلك الأسلحة لكن تلك تعد حروباً بالوكالة كحروب الكنغو وأنغولا والحروب العديدة فى مناطق مختلفة فى العالم الثالث. وهى حروب يدير كثير منها المعسكران المذكوران إما بصنعها إبتداءاً أو بتأجيجها و بإستغلال ظروفها لدعم هذا الطرف أو ذاك مادياً ومعنوياً بحثاً عن النفوذ والتوسع بإقامة القواعد العسكرية قرب مواقع الطرف الآخر بغية مراقبته وإحتوائه وبالتالى تحجيم دوره والتحسب للأخطار التى قد يلحقها بالمعسكر الآخرة. هذا النمط من (التكتيك) زادمن أهمية دراسات ما يعرف ب (الجيو بولتيكا) أى الجغرافيا السياسية ( حيث يؤثر الموقع والسكان على السياسة والعلاقات الدولية ). وللتفصيل فهى تعنى فيما تعنى تأثير الموقع الجغرافى للبلد من حيث الأهمية وعدمها على سياسات ذلك البلد وعلى سياسات الآخرين تجاهه.
وقد قامت سياسات الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتى على الجيوبولتيكا هذه خلال تلك الفترة أى بعد إنتصار الحلفاء على دول المحورعام1945 فى إطار التنافس بين العملاقين على قيادة العالم : بإقامة القواعد العسكرية,تأسيس المحاور والتجمعات السياسية والعسكرية, سباق التسلح والجاسوسية والوسائط الإعلامية الموجهة (الحروب الإعلامية).
وعندما انهار الإتحاد السوفيتى وتفككت منظومة الدول الإشتراكية الدائرة فى فلكه فى تسعينيات القرن الماضى انتشى الغرب فرحاً وبلغت به النشوة حداً أن ظن أحد علماء السياسة الأمريكيين , فرانسيس فوكوياما أن ذلك الحدث المجلجل بمثابة نهاية التأريخ وأن ريادة العالم قد انعقدت منذ ذاك الحين للغرب وأن نظمه : الديمقراطية الليبرالية فى الحكم وإقتصاد السوق فى الإقتصاد قد غدت الوصفة الوحيدة للتطور والإستقرار والعيش الكريم .
لكن الأحداث الأخيرة فى العالم مثل أحداث أوكرانيا واحتلال روسيا لجزيرة القرم وضمها إليها عبر إستفتاء أحادى ثم أحداث سوريا وموقف روسيا مرة أخرى منها و التنافس المحموم بين الصين واليابان على الحدود البحرية بينهما وعلى النفوذ فى قارة آسيا , قد أعاد إلى الأذهان أجواء الحر بالباردة بل وأحلام بروز قطبية جديدة منافسة لنفوذ الولايات المتحدة فى العالم . فما حقيقة ذلك؟ ومايعنينا من ذلك فى هذا الجزء من العالم ؟ وللإجابة على ذلك نستعرض فيما يلى وجهتى نظر متباينتين فى هذا الصدد عرضتا فى عدد مايو/ يونيو للعام الحالى 2014 من مجلة “شؤون دولية”FA: أولاهما جاءت بعنوان ” عودة الجيوبولتيكا” تقول إن قراءة الولايات المتحدة لحقبة ما وراء الحرب الباردة بإعتبارها قد أنتجت نظاماً دولياً مستقراً أدار ظهره للاحتكاكات الدولية والإقليمية و التنافس على المواقع لبسط النفوذ بما يعرف بالجيوبولتيكا, وأن النظام الدولى الجديد يتجه بالكلية إلى جعل الديمقراطية الليبرالية وإقتصاد السوق وصفات نهائية للحكم والإقتصاد , كانت قراءة رغبوية تقوم على التمنيات تعجلت فى قراءة الواقع الصلد بعين فاحصة.
هذه رؤية البروفسور( وولتر راسل مييد) , أستاذ العلاقات الدولية فى كلية كلارد الأمريكية وتتلخص فى أن الإرهاصات المذكورة والتى تدل على عودة أجواء الحرب الباردة هى أدلة قطعية على بقاء التدابير القديمة للجيوبوليتيكا:أهمية الحدود, القواعد العسكرية توسيع دائرة النفوذ مادياً على الأرض ومعنوياً بوسائل أخرى. ويرى أن كثيرين فى الغرب قد وقعوا فى خطأ الخلط بين سقوط الإتحاد السوفيتى الذى حرر شهادة الوفاة للصراع الإيدولوجى المتمثل فى فشل النظرية الشيوعية التى كانت تحكم الإتحاد السوفيتى وذلك ما عناه العالم السياسى (فرانسيس فوكاياما) ب “نهاية التأريخ” , وبين أن ذلك السقوط يعنى بالإضافة إلى ذلك سقوط الجيوبولتيكا أيضاً وإلى الأبد .أى أن الذى عناه فوكاياما بنهاية التأريخ هو نهاية الأيدولوجية وإن كان ثمة فكرة باقية للحكم والإقتصاد فهى الليبرالية بشقيها : الديمقراطية كنظام للحكم والراسمالية كوصفة وحيدة للإقتصاد المنتج الناجح. وهو عين ما ذهب إليه بروفسور جون مولر من جامعة أوهايو فى فصلية العلوم السياسيةPSQ لربيع 2014 متفقاً مع فوكاياما تحت عنوان : هل إنتهى التأريخ ؟ بأن فوكاياما عنى ب ” نهاية التأريخ ” محقاً , نهاية الإيدولوجية. وعبر عن هذه الفكرة بلغة الحاسوب بأن الليبرالية غدت حصرياً هى الإيدولوجية الباقية Default Ideology . لكن يقول مييد للذين طنوا أننهاية التأريخ تعنى أيضاً نهاية الجيوبولوتيكا, ها هى الجيبولتيكا قد أطلت برأسها مجدداً متمثلة فى حرص روسيا الإتحادية على توسيع نفوذها فى محيطها الإقليمى والتصدى لتوسع حلف الناتو والإتحاد الأوروبى ومن ذلك موقفها فى أوكرانيا وجزيرة القرم وموقفها والصين فى مجلس الأمن الدولى من نظام بشار الأسد.والتنافس اليابانى الصينى فى آسيا دليل آخر على بقاء الجيوبولتيكا. وقال إن فكرة “نهاية التأريخ” لدى فاكوياما حملها كثير من الباحثين والسياسيين أكثرمما تحتمل وهى شبيهة بما قاله الفيلسوف الألمانى هيغل فى وصف إنتصار نابليون فى معركة (جنا) عام1806 على جيش بروسيا الذى كان أقوى جيوش أوروبا التى لا تقهر بأن ذلك الحدث يمثل “نهاية التأريخ”. وقد قصد هيغل القول إنه لا رجعة للتأريخ إلى الوراء حيث أن المضامين الثورية التى جاءت بها الثورة الفرنسية فى الإخاء والعدل والمساواة هى سبب ذلك الإنتصار أو أن التدابير العسكرية التى أحدثتها هى الوصفة الوحيدة المحققة للنصر منذ ذلك الوقت فصاعداً. وأنه يتعين على كافة الجيوش أن تحذو حذو فرنسا بحمل تلك المضامين إن رغبت فى النصر. يقول إن المجتمعات المغلقة كالتى كانت فى الإتحاد السوفيتى قد أصبحت عقيمة وغير منتجة بالقدر الذى يجعلها تنافس المجتمعات والدول الليبرالية فى الغرب. واستناداً إلى هذا الفهم وقناعة به رأت الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبى أنه أما م روسيا والدول الشبيهة أن تنتهج الديمقراطية الليبرالية فى الحكم وإقتصاد السوق فى الإقتصاد لكى تنهض أو تعكف على نظمها البالية فيسبقها العالم . إذن فإنْ أرادت روسيا وتلك الدول أن تحارب الغرب عليها أن تصبح مثله والمؤكد أنها عندما تصبح مثله سوف تتمرغ فى الرفاهية ورغد العيش وستصبح دولاً وديعة, مسالمة حريصة على الحياة وستدير ظهرها للمواجهة والحروب فيسود السلام فى العالم لايعكر صفوه إلا بعض الدول المارقة مثل كوريا الشمالية وتلك دولة لا تقوى على مواجهة العالم. وهكذا تنتفى الحاجة إلى تدابير الجيوبولتيكا القديمة ويتحول الإهتمام إلى تطوير الإقتصاديات ومنع إنتشار أسلحة الدمار ويتحول بذلك جل إهتمام السياسة الخارجية إلى تغير المناخ والتجارة.
ويسترسل البروفسور ( وولتر راسل مييد) فى بسط فكرته عن عودة الجيوبولتيكا تفصيلاً ليقول
تحت عنوان جانبى : إحساس زائف بالأمن: : لقد وجدت القوى الغربية :الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد والأوربى وضعاً مريحاً استقرت عليه الأمور بعد إنتهاء الحرب الباردة تمثل فى توحيد ألمانيا فى أوروبا ودمج دول حلف وارسو المنهار ودول البلطيق فى حلف شمال الأطلسى وفى الإتحاد الأوروبى. أما فى الشرق الأوسط فقد غدت الغلبة فيه لقوى الإسلام السنى ( السعودية وحلفاؤها فى الخليج ومصر وتركيا) وهذه قوى حليفة للولايات المتحدة الأمريكية, وحدث كذلك احتواء مزدوج لكلمن إيران والعراق. وفى آسيا لم يعد هناك من ينازع غلبة النفوذ الأمريكى عبر سلسلة من العلاقات بموجب إتفاقات أمنية ابرمت مع استراليا واليابان وكوريا الجنوبية واندونيسيا. قرأ الغرب الوضع المؤقت الذى نتج عن نهاية الحرب الباردة قراءة خاطئة على أنه وضع دائم متمثل فى قيام نظام عالمى جديد . وكان التطبيق العملى لهذه القناعات أن قلصت الإدارات الأمريكية المتعاقبة ميزانية وزارة الدفاع ومخصصات وزارة الخارجية وبصعوبة أقنعت الكونقرس بدفع حصتها فى ميزانية الأمم المتحدة وأصبحت الأولوية فى السياسة الخارجية هى ترقية ليبرالية العالم والتخلى عن تدابير الجيوبولتيكا الكلاسيكية. ولكى تحقق ذلك وضعت الخطط لمنع إيران من صنع قنبلة نووية وعزمت على حل الصراع الإسرائيلى الفلسطينى, والتفاوض لإبرام معاهدة بشأن تغير المناخ, عقد صفقات مع الدول الآسيوية عبر الباسفيك وإتفاقيات مع روسيا للحدمن التسلح, تحسين العلاقات مع العالم الإسلامى وترميم الثقة مع الإتحاد الأوروبى, ترقية حقوق المثليين وإنهاء الحربفى أفغانستان.
ويرى بروفسور مييد أن جميع هذه القناعات السعيدة بأن العالم قد دخل حقبة جديدة من النظام الدولى قد تعرضت لإمتحان قاس بعدربع قرن من سقوط حائط برلين بما اشرنا إليه سلفاً من تطورات: الأزمة فى أكرانيا وصراع الصين واليابان ,مؤشرات عودة تدابير الجيوبولتيكا. ويقول إن ثلاث دولهى روسيا والصين وإيران مصممة على التصدى للنظام الذى استقر بعد نهاية الحرب الباردة والذى تحرص الولايات المتحدة على تقويته وبقائه خدمة لمصالحها كبديل لنظام الحرب الباردة. يقول هذه الدول ولأسباب ودوافع مختلفة مصممة على مقاومة المخطط الأمريكى. وقد أطلق عليها اسماً يحاكى من حيث الجرس الصوتى فى الإنقليزية تسمية جورج بوش لدول محور الشر:
محور( سوس وآفات الزروع والفاكهة An Axis Of Weevils) فى مقابل (An Axis Of Evil)
وقال إنها مصممة على التصدى لذلك المخطط معدداً بعض النجاحات التى حققتها وبعض مؤشرات أخرى على عودة تدابير الجيوبولتيكا. يقول إن الصين المتطلعة لتصبح قوة عظمى تقاوم المخطط الأمريكى بشراسة لكن مقاومتها وسعيها لتأكيد وجودها الفاعل فى محيطها الآسيوى قد أيقظ المشاعر الوطنية القديمة فى اليابان ويدفع عدداً مندول تلك المنطقة المتخوفة من تنام الوجود الصينى لمزيدمن تقارب تلك الدول مع الولايات المتحدة: وهذا فى حد ذاته مظهر من مظاهر الجيوبولتيكا والبحث عن الأحلاف السياسية والعسكرية إحدى وصفات حقبة الحرب الباردة. بالنسبة لإيران يقول إنها أضعف الثلاث دول لكنها أوفر حصاداً من روسيا والصين من الجيوبولتيكا إذ أنها استفادت من الغزو الأمريكى للعراق والإنسحاب المتعجل منه فأقامت قاعدة صلبة مع القوى المؤثرة فى العراق وامتد نفوذها إلى سوريا بمساعدة حليفها الإستراتيجى (حزب الله) اللبنانى. هذا الإنتصار عزز من مكانة إيران وقوتها وفى المقابل فقد أضعف الربيع العربى القوى السنية الحليفة للغرب والولايات المتحدة. روسيا عززت مواقعها من قبل فى جورجيا والآن فى أكرانيا وأعادت دولاً مثل أرمنيا إلى محورها.
خلاصة ما توصل إليه البروفسور (مييد) أنه رغم أن الدول الثلاث المذكورة ذات أجندات وقدرات مختلفة وأنه ليس فى وسعها خلق معارضة دولية منظمة وفاعلة كالتى كانت للإتحاد السوفيتى للترتيبات الغربية الأمريكية (شبه ضررها بضرر السوس ), إلا أن الأمريكيين قد أبطاوا فى التيقن من أن تلك الدول قد ألحقت بالفعل الضرر بالترتيبات الجيوبولتيكية فى (أوراسيا – أى آسيا وأوربا معاً ) بما عقّد جهود الولايات المتحدة والأوربيين فى بناء نظام ما بعد التأريخ الذى يربح الجميع فى كنفه.
وحذر بروفسور مييد الغرب من مصير “الرجل الأخير” الذى ورد فى عنوان كتاب فوكاياما الأشهر “نهاية التأريخ والرجل الأخير” وقال إن جزئية ” الرجل الأخير “من عنوان الكتاب لمتجد الحفاوة التى وجدها حديثه عن نهاية التأريخ لأنها تحذيرية وأقل إطراء للغرب. فهى مقتبسة من فكرة الفيلسوف الألمانى فريدريك نيتشة فى كتابه المعروف “كما تحدث زرادشت”. ووصف فوكاياما “للرجل الأخير” هو تحذير للغرب من الإستكانة والإسترخاء والنوم فى العسل على إعتبار أن التأريخ قد إنتهى بإنتصار نظمهم فى السياسة والإقتصاد وأنه لم يبق لهم سوى التنعم برغد العيش فى كنف سلام دائم لا يعكر صفوه معكر. ورجل فوكاياما الأخير :إنسان مستهلك نرجسى عاشق لذاته ليست له طموحات فوق الرحلة التالية إلى (المول mall( للتسوق. ويحذر فوكاياما من أن ذلك الإنغماس فى الماديات سيؤدى إلى ما أسماه ” الملل ” حيث يتوقف العقل البشرى من الإبداع فى الفنون والفلسفة ليسود حنين جارف إلى العودة إلى التأريخ.
على الغرب كما يرى البروفسور مييد, أن يتحسب للمخاطر المحيطة به ويقرأ الواقع كما هولا كما يتمناه.
ونستعرض الآن فيما يلى وجهة نظر مغايرة تماماً وناقدة لهذه الرؤية ترى أن الإستراتيجية الغربية الليبرالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية راسخة الغراس بل وتكسب أراض جديدة لأنها هى ذاتها التى أنهت
الحرب الباردة.
ووجهة النظر المغايرة هذه للبروفسور جى. جون إكنبرى فى ذات العددمن”شؤون دولية” بعنوان :
وهم الجيوبولتيكا: قوة واستمرارية النظام الليبرالى” . والبروفسور إكنبرى أستاذ للعلوم السياسية والشؤون الدولية فى جامعة برنستون الأمريكية.
يبدا تفنيده لرؤية البروفسور (مييد) بالقول إنها قراءة خاطئة بقدر هائل لحقائق العصر. ويقول إن النظام الدولى القائم على الليبرالية وإقتصاد السوق الذى تقوده الولايات المتحدة والذى حل محل نظام الحرب الباردة راسخ القدم بل ويتمدد فى العالم وأن بروفسور مييد قد أخطأ قراءته وضخم من قدرة الصين وروسيا على النيل منه. صحيح أنهما قد باتتا مؤخراً تتحينان الفرص لمقاومة قيادة الولايات المتحدة للعالم كما كانتا تفعلان دوماً فى الماضى . ولقد أبدتا مقاومة خاصة عندما تمدد نفوذ النظام الدولى الجديد إلى جوارهما المباشر. لكن حتى تلك المقاومة نتجت عن ضعف –فى نظمهم وفى قياداتهم- ولم تنطلق من مواقع قوة إذ ليس لكلتيهما ما يقدمانه للعالم بل إن على رأس مصالحهما الإندماج – روسيا وبالأخص الصين – فى الإقتصاد العالمى والمؤسسات التى تحكمه.
يقول إن بروفسور مييد قد أخطأ فى قراءة لب سياسة الولايات المتحدة الخارجية حين قال إنها أهملت قضايا الجيوبولتيكا الخاصة بالجغرافيا ومناطق النفوذ واتجهت بالكلية إلى بناء النظام الدولى الجديد.ويرى أن الولايات المتحدة لم تهتم بالحد من التسلح والتركيز على التجارة إعتقاداً منها بأن الجيوبولتيكا قد ذهبت إلى غير رجعة بل لأنها أرادت أن تدير وتنظم ميدان التنافس بين القوى العظمى. وإن بناء النظام الدولى من منظور الولايات المتحدة لا يقوم على إفتراض نهاية الجيوبولتيكا, انه معنى بكيفية الإجابة على الأسئلة الكبرى للجيوبولتيكا بمعنى رعاية الفوائد التى تعود على الجميع فى ميادين الإقتصاد والتجارة بديلاً للصراع على المواقع الجغرافية وبسط النفوذ هنا وهناك مثلما كان قائماً إبان الحرب الباردة: أى العلاقات القائمة على التوجس والخوف من الآخر والتى تدفع للإستحواذ على الجغرافيا والمواقع وفرض النفوذ وقد تنزلق بالفرقاء إلى أتون الحروب.
ويقرر أن بناء النظام الدولى الحالى بقيادة الولايات المتحدة لم يبدأ بناؤه بعد إنتهاء الحرب الباردة بل هو النظام الذى أنهى الحرب الباردة. لقد ظلت الولايات المتحدة وعلى مدى سبعين عاماً منخرطة فى بناء مؤسسات متعددة الأطراف الدولية ( كالبنك الدولى, صندوق النقد الدولى ,منظمة التجارة العالمية…) ,تحالفات, إتفاقيات تجارية دولية وشراكات سياسية. يقول إن هذه التدابير الأمريكية قد ساعدت على إنعطاف العديد من الدول إلى محور الولايات المتحدة وأسهمت فى تقوية النظم الدولية بما أفضى إلى إضعاف شرعية السلوكيات الشبيهة بأساليب القرن التاسع عشر القائمة على توسيع دوائر النفوذ عبر الإستحواذ على المواقع والأراضى والسعى إلى الهيمنة الإقليمية.تلكم التدابير منحت الولايات المتحدة قدرات وشراكات ومبادئ لمواجهة الدول الراغبة فى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء, إلى أجواء القرن الماضى.
إن التحالفات, والشراكات وإقامة المنظمات الدولية متعددة الأطراف والديمقراطية هى أدوات قيادة الولايات المتحدة وهى أدوات تحقق النجاحات الآن لا الخسارات فى مضمار نضال القرن الحادى والعشرين فى معترك الجيوبولتيكا والنظام الدولى.
ويبدأ بشئ من التفصيل تفنيد حجج البروفسور مييد من مقولة الجغرافى الإنقليزى هالفورد ماكيندر الذى تنبأ عام 1904 بأن القوة التى تتحكم فى قلب أوراسيا ( البقعة الجغرافية والسكانية التى تشمل قارتى أوروبا وآسيا معاً) يسيطر بالضرورة على العالم أجمع مشيراً هنا إلى ما قاله (مييد) من أن ثالوث روسيا , إيران والصين يحاول إعاقة نظام أمريكا الدولى بالسيطرة على هذا الفضاء الواسع الذى يضم القارتين أوروبا وآسيا وبالتالى التحكم فى العالم قائلا إن (مييد) لم يحسن قراءة الأوضاع الدولية حتى فى هذه الجزئية لأن الحقيقة الأنصع أنه حتى فى ميدان الجيوبولتيكا فى أوراسيا فإن الولايات المتحدة تتمتع بمزايا تفتقر إليها الدول المذكورة وأنه بالرقم من أن أمريكا قد تدنى موقعها قليلاً من قمة الهيمنة التى كانت تحتلها كقطب وحيد بعد زوال الإتحاد السوفيتى , إلا أنها لم تزل القوة التى لا منافس لها فى العالم وأنها تملك من الإمتيازات فى أوراسيا ما تعجز تلك الدول عن منافسته. إن ثراء أمريكا وصدارتها فى ميدان التكنولوجيا أبعد منالاً من أن تدانيه الصين وروسيا ودع الحديث عن إيران.كما أن تعافى إقتصادها من الكساد والذى يتقوى الآن بموارد هائلة من الغاز الطبيعى , ستمكّن الولايات المتحدة من المحافظة على وجودها العسكرى عبر العالم و رعاية إلتزاماتها الأمنية فيه. ويستطرد راداً على (مييد) فيما ذهب إليه من نشاط روسيا فى جوارها الإقليمى فى أوكرانيا وأرمنيا قائلاً إن روسيا تمكنت من إعادة ثمان دول من حلفائها القدامى إلى محورها بينما تمكنت الولايات المتحدة –وفقاً لدراسة علمية أجريت مؤخراً- من عقد شراكات أمنية مع ستين دولة فى العالم بينما لا تملك الصين سوى حليف عسكرى واحد هو كوريا الشمالية.
ويقول إن امتلاك روسيا والصين للقنبلة النووية مفيد للولايات المتحدة من جهتين: منجهة قناعتهما بأن لا أحد يملك هذا السلاح المدمر سيبادر بإستخدامه لضرب بلاد تملك ذات السلاح (الردع المتبادل) ومن جهة طمأنتهما أن الولايات المتحدة لن تغزوهما وهذه الطمأنينة تعد ترياقاً من حماقة قد يرتكبانها بدوافع الخوف بإستخدام ذاك السلاح الفتاك لتعطيل النظام الدولى الليبرالى الذى تقود خطامه الولايات المتحدة الأمريكية. تحدث أيضاً أن الموقع الجغرافى البعيد للولايات المتحدة قد جعلها القوة العظمى الوحيدة التى لا تجاورها قوى عظمى أخرى.وفى الحقيقة فإن هذا البعد الجغرافى جعل العديد من الدول قلقة لا من هيمنة الولايات المتحدة عليها بل من الإنشغال عنها وهجرها وإهمالها . بينما تتخوف العديد من الدول من جوار الصين وروسيا لها. لقد أدركت الصين تلك الحقيقة ولاحظت أن الدول المجاور لها بدأت ترد على صعود الصين بتحديث وتطوير قدراتها العسكرية وتمتين تحالفاتها الخارجية بعيداً عن الصين. روسيا أدركت ذلك مؤخراً ولاحظت أن أوكرانيا شرعت فى تطوير قدراتها العسكرية وتقوية علاقاتها بالإتحاد الأوروبى ( وربما كان ضم جزيرة القرم والتحرش بأكرانيا فى شرقها المشابه عرقياً ودينياً لروسيا , بسبب ذلك.)
يستطرد البروفسور إكنبيرى فى تفنيد طروحات بروفسور مييد فى عودة أجواء الحرب الباردة وتضعضع النظام الليبرالى الذى تسعى الولايات المتحدة وحلفاؤها فى بقائه بالقول كما أسلفنا إن ذلك النظام الليبرالى العالمى لم يقم بعد زوال الحرب الباردة ولكنه كان قائماً قبلها وهو الذى أزال تلك الحرب وانتصر للقيم التى يدعو لها بديلاً لتلك التى سادت آنذاك. ويقول إن ثلاثة من رجال الدولة الأفذاذ فى الولايات المتحدة هم : (دين أتشسون) وزير خارجية أمريكا عام 1949 وصاحب فكرة تأسيس حلف شمال الأطلسى وجورج مارشال الذى سبقه وزيراً للخارجية فى حكومة هارى ترومان ووزيراً للدفاع بعد ذلك وصاحب مشروع مارشال لإعادة بناء إقتصاديات أوروبا الغربية بغية التصدى للتوسع الشيوعى فى أوروبا, وجورج كنعان سفير أمريكا لدى روسيا فى ذلك الوقت ومهندس سياسة الحرب الباردة لإحتواء الإتحاد السوفيتى, هم الذين وضعوا لبنات الإطار العالمى الليبرالى لإحتواء المد الشيوعى والتوسع السوفيتى. ذلك النظام هو الذى أدى إلى ثراء الولايات المتحدة وحلفائها وإلى إستقرار الإقتصاد العالمى وأقام آليات لمعالجة المشكلات الدولية وإن نهاية الحرب الباردة لم تغير منطق هذا النظام الصامد فى وجه الأعاصير الشمولية اللاليبرالية.
إن هذا النظام الذى تقوده الولايات المتحدة, يقول قد وجد قبولاً عالمياً لحسن الطالع لأنه متناقم مع القوى العصرية التى تدفع النمو الإقتصادى قدماً وكذلك قوى التحديث الإجتماعى وأن أياً من روسيا أو الصين لا تملك بديلاً له يغرى بإستبداله.
ويستطرد فى تعداد خيرات هذا النظام الليبرالى المستمر منذ إنتهاء الحرب العالمية الثانية .من ذلك النمو المطرد للنظم الديمقراطية فى العالم. يقول إن الديمقراطية الليبرالية كانت محصورة فى بدايات القرن العشرين فى الغرب وبعض مناطق فى أمريكا اللاتينية. وبعد الحرب العالمية الثانية بدأت تتخطى تلك الأقاليم بحصول عدد من البلدان على إستقلالها فى الخمسينيات والستينيات. ثم شهد عقد السبعينات عددا من الإنقلابات العسكرية التى أبطأت بإنتشار الديمقراطية لكن أواخر ذلك العقد شهد عودة قوية للديمقراطية الليبرالية أطلق عليها صمويل هانتنغتون ” الموجة الثالثة” لإنتشار الديمقراطية تلك التى اجتاحت جنوب أوروبا وأمريكا اللاتينية والشرق الأقصى. وما أن إنتهت الحرب الباردة حتى انضمت دول أوروبا الشرقية الشيوعية إلى ساحات النظم الديمقراطية ومع نهاية عقد التسعينيات أصبحت 60 فى المائة من دول العالم تحكم بنظم ديمقراطية. ومع حدوث بعض النكسات إلا أن ظهور دول متوسطة من الناحية الإقتصادية والعسكرية مثل استراليا والبرازيل واندونيسيا والهند وكوريا الجنوبية والمكسيك وتركيا يؤكد إستمرار تنام الديمقراطية فى العالم وهذه الديمقراطيات الصاعدة تعتبر صاحبة مصلحة ومسؤولية فى نظام عالمى قائم على التعاون العالمى المتعدد الأطراف يسعى لمزيد من الحقوق والمسؤوليات وتوسيع دوائر النفوذ بالوسائل السلمية.
إن هذا النمو المطرد للديمقراطية الليبرالية بدخول إقتصاديات متوسطة الحجم تنمو باستمرار, سيشكل من أعضائه نادياً قوياً للديمقراطية يترك الصين وروسيا فى العراء.
يقول إنهذه التطورات بالإضافة إلى ما وقع فى شرق أوروبا بإنضمام العديدمن دولها لحلف الناتو وللإتحاد الأوروبى , تحاصر روسيا وتحشرها فى نطاق يضيق عليها كل يوم وهو ما دفع (بيوتن) للسطو على جزيرة القرم بدوافع الخوف لا بدافع القوة. ورغم ما يبدو من أن (بيوتن) قد كسب فى جورجيا والقرم وأرمنيا إلا أنه قد خسر المعركة.وبالمثل فجوار الصين يتمقرط بإضطراد. ففى ثمانينات القرن الماضى كانت اليابان والهند فقط هما الديمقراطيات فى آسيا. أما اليوم فإنها اندونيسيا والفلبين وكوريا الجنوبية وتايلاند التى تسير فى الطريق بحذر وتايوان وحتى ماينامار (بورما) على خطى أولئك. وعليه فإن الصين تعيش اليومفى جوار ديمقراطى يحيط بها من عدة جهات.ويخلص إلى القول إن الديمقراطية تحاصر روسيا والصين معاً وتضعهما فى وضع جيوبولتيكى معقد وهما وإن عدتا فى ندية مع الولايات المتحدة إلا أنها ندية غير متكافئة فالإنفاق العسكرى للولايات المتحدة وأصدقائها يشكل 75% من الإنفاق العسكرى العالمى. وعن إيران يقول إن نظامها مهدد داخلياً بحركة ديمقراطية متنامية وبمنظومة من العقوبات الدولية القاسية.
ويخلص إلى القول بأن روسيا والصين يعدان فى افضل حالتيهما فى مقاومة النظام العالمى الذى تقوده أمريكا ,مجرد دولتين تسعيان لتخريب ذلك النظام ( على طريقة السوس والآفات) لا تبديله لأن كلتيهما لا تملك القدرة والموارد والرؤى لتبديله. ويرجح أنهما تصرخان أحياناً طلباً لنصيب أوفر فيه لا العكس لأن فرص الإنفتاح التجارى تتيح لهما حصاد فوائد عديدة منه كما أن مبدأ السيادة (سيادة الدول على أراضيها ) المعتمد منذ إتفاقية (ويستفاليا) عام 1648 والذى لايزال العمود الفقرى فى السياسة الدولية , يعد ضماناً وحماية لهما من تغول الآخرين على سيادتهما. ويختم بالقول إنه فى ظل ما طرح من رؤية يتحتم على الولايات المتحدة المحافظة على النظام الذى رعته وصنعته وهو الصبر على المزيد من التعاطى مع الشأن الدولى عبر التجارة والمؤسسات متعددة الأطراف لحل المشكلات و إنتهاج الدبلوماسية لذات الغرض. تلك الإستراتيجية قد خلقت فيما يرى, عالماً صديقاً للمصالح الأمريكية وهو عالم صديق كما وصفه الرئيس جون كنيدى لأن ” الضعيف فيه يشعر بأنه آمن والقوى بأنه عادل.”
تجدر الإشارة إلى أن هذا العددمن المجلة قد خُصص للحديث عن الكميات الضخمة من الطاقة (غاز طبيعى ونفط – موضوع الغلاف) التى تتدفق الآن فى أكثر من مكان فى الولايات المتحدة الأمريكية بسبب تقانة جديدة لإستخراج تلك الكميات الضخمة التى كانت تحتبس فى الصخور.هذه الكميات ستؤدى منذ العام القادم لإكتفاء أمريكا من الطاقة وستجعلها قبل نهاية العقد الحالى أكبر مصدر للطاقة فى العالم.وسيحدث ذلك آثاراً على مجمل العالم سياسياً وإقتصادياً.
وبعد فهذه قراءات مختلفة ومتباينة لتطورات حدثت وتحدث بالفعل على النطاق الدولى , تتحسب لمآلات ذلك كله على أمن ورفاهية الولايات المتحدة وحلفائها .
ترى كم من معاهد ومراكز الدراسات فى المنطقة عاكفة على مثل ذلك التداول والمنطقة تجتاحها الحرائق والأعاصير الطائفية والجهوية الضيقة ومصيرها ربما ألح من أى وقت مضى ؟ ونحن فى محيط قطرنا الضيق هل ندير الحديث ونتداول بصدق , مع اختلاف رؤانا وتباين معتقداتنا وأفكارنا , حول ما يحدث عندنا وداخل حدودنا ونحن نقرأ الأحداث الضخمة الجارية فى العالم بغية تحقيق مكاسب ولو محدودة من الإستقرار والأمن لبلدنا وشعبنا أم نبقى مثل رجل زرادشت وفوكاياما “الأخير” نمنى النفس برحلة إلى ( مول) أغلب الظن أننا لن نجده؟!