محاضرة الخضر هارون/سفير السودان في واشنطن
في مركز الحوار العربي – 28 أغسطس/آب 2005
عن الثقافة العربية في السودان
يلزم في البدء أن نعمد إلى تعريف ما نرمي إليه من كلمة (ثقافة) الواردة في عنوان هذه المحاضرة قبل الخوض في غمار موضوع الثقافة العربية في السودان ذلك لأن كلمة ثقافة حمالة وجوه ومفاهيم يعتريها بعض الاختلاف والتعارض في ميادين العلوم الاجتماعية فضلا عن كون الترجمة إلى العربية قد أسهمت ولا زالت تسهم في إضفاء المزيد من اللبس والغموض عليها. ونشير للتدليل على ذلك إشارة عابرة إلى كلمة مثقف حيث تعد في أغلب الترجمات المقابل العربي لكلمة (intellectual) الإنجليزية بينما تحتمل الكلمة الإنجليزية معان أوسع مثل كلمة (مفكر) مثلا.
والتعريف الذي التزم به في هذه المحاضرة لكلمة ثقافة والذي أجده جديرا بأن يكون وعاء يتسع للجوانب المختلفة في موضوع هذه المحاضرة هو تعريف الأنثربولوجى البريطاني المعروف.Sir Edward Burnett Tylor، وهو مؤسس “علم الإنسان” أو الأنثربولوجي كعلم أكاديمي يدرس في الجامعات في العالم الناطق بالإنجليزية. حسب الأنثربولوجي الأمريكي مارفن هاريس. يقول التعريف اختصارا إن الثقافة هي ” كل ضروب السلوك الإنساني المكتسب” وتفصيلا هي: ” ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة، المعتقد، الفنون، الأخلاق والقوانين والأعراف والقدرات الأخرى والعادات التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في مجتمع.”
في ضوء هذا التعريف سأتناول تأثيرات الثقافة العربية في السودان في مفهوم الدولة وفي المعتقدات والتقاليد والأعراف والفنون والمعارف على النحو الوارد في التعريف المشار إليه آنفا. ونريد بالثقافة هنا مقابل الكلمة الإنجليزية culture)) حيث أن الكلمة العربية لم تكتسب هذا المعنى إلا في العصر الحديث إذ كانت تعنى في الماضي العمل بالسيف أي الخصام والجلاد كما قال صاحب اللسان، ويقيني أنكم على علم ببيتي عنترة:
ومدجج كره الكماة نزاله لا ممعن هربا ولا مستسلم
جادت له كفي بعاجل طعنة بمثقف صدق الكعوب مقوم
وتثقيف السيف تسويته من اعوجاج.
ولكن قبل الغوص في لجج ذلك قد يثير العنوان ” الثقافة العربية في السودان” بعض تساؤلات وأرجو ألا يثير حساسيات مردها كون السودان في قلب إفريقيا تماما من حيث الجغرافيا، وللمكان بما يحمل من مناخ وطقس وتضاريس وحياة برية دور في تشكيل الثقافة وتعديلها أيضا وهذه الحقيقة تفضي إلى حقيقة أخرى هي أن الثقافة العربية وغيرها من الثقافات الوافدة قديما وحديثا على السودان قد شوتها بالحرارت الشموس فصارت ثقافة سودانية. التسليم بذلك أدخل في باب المصالحات السياسية بل وفي التدابير اللازمة لبناء دولة عصرية تضم مختلف الأعراق والمعتقدات. وليس فيما سيأتي تحت عنوان هذه المحاضرة معارضة للمصالحات أو التدابير الضرورية لها لكن المبحث سوف ينصب على تاريخ دخول الثقافة العربية إلى السودان وتأثيرها عبر القرون على الثقافات التي كانت سائدة فيه خاصة وأن تلك الثقافة لم تفد إلى السودان بحد السيف وإنما دخلت سلما وتغلغلت في ربوع السودان المختلفة وفي ثقافاته العديدة طوعا لا كرها سيّما والخرطوم عاصمة السودان قد زفت في مطلع العام الميلادي خمسة وألفين عاصمة للثقافة العربية يتنادى إليها أهل الفنون والموسيقى والفكر والأدب من سائر أنحاء الوطن العربي على نحو ما فعلوا قبل آلاف السنين في أسواق عكاز وذي المجاز وغيرها يتابرون في عرصاتها شعرا وغناء وفكرا يستعينون به على عاديات العولمة والاستهداف الثقافي والحضاري المحدق بساحاتهم. فلماذا سرت الثقافة العربية في يسر وسماحة في أوصال الجسم الثقافي للسودان رغم أن السودان لم يكن خلاء بلا حضارة أو ثقافة بل كان إحدى مناراتها المضيئة في وادي النيل ولمدى زمني بلغ زهاء تسع إلى عشر آلاف عام؟ هذا السؤال سيقودنا إلى محاولة سبر أغوار العلاقة الأزلية بين ضفتي بحر القلزم، البحر الأحمر. أي بين إفريقيا والجزيرة العربية. هل يسرت العلاقة التاريخية الضاربة في القدم بين الضفتين من انسياب الثقافة العربية دون عناء إلى هذا الجزء من إفريقيا ؟
يتوسع البروفسور على مزروعي في شرح هذه العلاقة بين الجزيرة العربية موطن الثقافة العربية وبين إفريقيا متسائلا ومشككا في موضوعية الاعتبارات التي جعلت البحر الأحمر حدا جغرافيا فاصلا بين إفريقيا وآسيا ملحقة جزيرة العرب بالقارة الآسيوية. ويتساءل في سفره القيم المصاحب لسلسلة حلقات برنامجه التلفزيوني الوثائقي الذي بثته القناة العمومية الأمريكية قبل نحو ثمانية عشر عاما تحت عنوان ” الأفارقة: تراث ثلاثي الأضلاع ” a Triple Heritage” ، “The Africans.
كيف اعتبرت مورشياص التي تبعد ألف ميل عن الساحل الإفريقي ومدغشقر التي تبعد خمسمائة أجزاء من القارة الإفريقية بينما اعتبرت عدن التي تقع حسب تعبيره على مرمى حجر من سواحل الصومال عبر باب المندب جزء من قارة أخرى هي آسيا ؟ و قبل أن ينطلق من الجغرافيا إلى التاريخ الذي ربط الضفتين بأوثق رباط يورد ما أشار إليه بول بونان في كتابه ” African Outline” الذي أشار فيه إلى أنه حتى من الناحية الجيولوجية البحتة فإن الجزيرة العربية والقارة الإفريقية لا تنفصلان. يشهد على ذلك تأثرهما بظاهرة جيولوجية واحدة هي الأخدود الإفريقي العظيم الممتد من هضبة الأناضول في تركيا عبر البحر الميت في وادي الأردن حتى بحيرة رودلف في كينيا. أما بالنسبة للقرابة التاريخية والثقافية بل والعرقية يشير متسائلا من يكون الأمهر في إثيوبيا إن لم يكونوا من سلالة تحدرت من جنوب الجزيرة العربية وهو ما تشير إليه أيضا المصادر العربية بأنهم من سلالة قبيلة عربية تسمى حبشات؟ ثم يتساءل مجددا ماذا تكون اللغة الأمهرية إن لم تكن فرعا من فروع اللغات الأفرو-آسيوية؟
ونشير بدورنا إلى ما جاء في العهد القديم من إشارات إلى مملكة كوش وان موسى عليه السلام قد تزوج بكوشية وأن هاجر أم إسماعيل وزوج إبراهيم الخليل من تلك المنطقة أيضا وما سمعته من أن دمشق الاسم الذي تحمله عاصمة سورية الشقيقة وأقدم مدينة في التاريخ إنما هو اسم لخادم من الحبشة كان في خدمة سيدنا إبراهيم عليه السلام وإلى المعتقدات الإثيوبية المعاصرة بأن بلقيس ملكة سبأ كانت ملكة إثيوبية تزوجها سليمان عليه السلام وأنجب منها (منلك) جد الإمبراطور السابق هيلاسيلاسى الذي كان يلقب نفسه بأسد يهوذا في إشارة إلى تلك النسبة. ويعتقد كثير من المسيحيين أن الألواح المقدسة التي أوحيت إلى موسى تضمها إحدى كنائس منطقة أكسوم في إثيوبيا حيث يحج إليها آلاف المتدينين كل عام من كآفة أنحاء الدنيا. ونشير هنا أيضا إلى أن ملك إثيوبيا” كالب” أو ربما “غالب” أو “كليب” المسيحي الديانة قد جرد جيشا لنصرة الأقلية المسيحية في اليمن التي تعرضت للتعذيب على يدي الملك الحميرى الذي كان يعتنق الديانة اليهودية فيما يعرف بقصة أصحاب الأخدود حوالي عام 525 ميلادية بقيادة أبرهة الأشرم الذي استقل بملك اليمن حتى خلعه الفرس واستولوا على اليمن. وفي المقابل فقد أهدت اليمن لإفريقيا اسم أحد ملوكها ليصبح اسما للقارة وقد أطلق بادئ ذي بد على تونس التي ظلت تحتفظ به إلى ما بعد الفتح الإسلامي.
ويرى عدد من المؤرخين وعلماء الأجناس أن علاقات التصاهر بين شعوب المنطقتين قد بدأت قبل ظهور الإسلام ويرون أن البجا في شرق السودان والماساي في شرق إفريقيا من نتاج تزاوج عربي إفريقي. ويورد الدكتور فرنسيس دينق في كتابه “أفارقة عالمين” آراء للأنثربولوجي البريطاني المعروف السير إدوارد إيفانس بريتشارد وللقس الباحث في الشأن السوداني جون سبنسر تريمنغهام وسيلغمان تفيد بأن القبائل النيلية في جنوب السودان وهى الدينكا والنوير والشلك تحمل دماء قوقازية وحامية لذلك تعد متزنجة وليست زنجية. ويشير فرنسيس دينق في المصدر ذاته إلى عمق تأثر عقائد هذه القبائل بما جاء في الديانات السماوية الثلاثة الوافدة من “الشرق الأوسط” (نتحفظ على هذا التعبير الاستعماري الذي يكرس المركزية الأوروبية، فنحن لا نقول الغرب الأوسط والغرب الأقصى للإشارة لأوروبا وأمريكا – إ. ع)، وهى الإسلام والمسيحية واليهودية.
ويجدر بنا ونحن نتحدث عن التأثير المتبادل للمنطقتين على بعضهما البعض أن نشير إلى أثر إفريقيا ليس على “الشرق الأوسط” وحده عبر وقوع منطقة الشام بأسرها تحت حكم الفراعنة بل إلى اثر حضارة وادي النيل على اليونان القديمة إذ ثبت أن أفلاطون وأرسطو وأبو الفلسفة سقراط قد تتلمذوا على قدماء المصريين في مجالات الفلسفة والرياضيات الأمر الذي جعل الباحث البريطاني (مارتن بيرنال يؤلف سفرا قيما قبل نحو عقدين من الزمان أطلق عليه ( أثينا السوداء…) أو Black Athena by Martin Bernal.
وبعد هذا الاستطراد نشير مجددا إلى كتاب البروفسور على مزروعي آنف الذكر حيث وصف الثقافة الإفريقية المعاصرة بأنها نتاج تراث ثلاثي يتكون من الإسلام وبالطبع ما حمله من سمات عربية، والإرث الإفريقي المحلى (indigenous)، ثالثا الميراث الغربي المسيحي الذي جاء به الاستعمار الأوروبي إلى القارة، وهذا الأثر يظهر جليا في اللغات الكبرى السائدة في إفريقيا اليوم وهى العربية في الشمال والإنجليزية والفرنسية في مناطق أخرى بالإضافة إلى السواحيلية التي هي نتاج تلاقح بين العربية ولغات البانتو والبرتغالية وغيرها تشكل العربية فيها نحوا من ستين بالمائة وكذلك لغات الهوسا والفلاني في غرب إفريقيا المتأثرة باللغة العربية. هذه الحقيقة تجعل الثقافة العربية ليست وافدا أجنبيا على القارة بل واحدة من مكوناتها الثقافية.
ونسلط الضوء بعد هذه المقدمة على صلة السودان تحديدا بالعالم القديم المتمثل في جنوب أوروبا و”الشرق الأوسط” منذ سحيق الأزمان إلى بداية تدفق الهجرات العربية إليه خاصة بعد انتشار الإسلام. ونشير في عجالة إلى أن الإغريق والرومان من بعدهم قد أطلقوا على السودان اسم إثيوبيا ومعناها “أصحاب الوجوه المحروقة” ورغم أن الإغريق أطلقوا على جيرانهم من القبائل الأوروبية في الشمال أقذع النعوت فأسموهم البرابرة إلا أن هوميروس أطلق على النوبة أفضل الألقاب وكذلك ديودورس. قال هوميروس: “إنهم أبعد الأمم مكانا وأكثرها عدلا وأقربها مكانة وقبولا لدى الإله” وللمزيد يمكن الرجوع لكتاب ويليام آدمز “النوبة المعبر إلى إفريقيا” Nubia Corridor to Africa by William Y. Adams.
وقد ورد اسم إثيوبيا التي تشمل السودان الحالي وجزء من أكسوم في بلاد الحبشة زهاء ثمانية وثلاثين مرة في العهد القديم. وقد أرسل الإمبراطور البيزنطي جستنيان وزوجته ثيودورا الرسل لإدخال المسيحية إلى السودان عام 534 ميلادية وقد كان لهما ما أرادا ولا تزال الآثار الرومانية شاخصة حتى اليوم في مناطق كرمة في شمال السودان وما يسمى بالكشك الروماني في مناطق المصورات الصفراء ليس بعيدا عن الخرطوم.
أما عن صلة السودان بالجزيرة العربية يشير الطبري في تاريخه إلى أن العرب كانوا يعيشون منذ القدم على ضفتي بحر القلزم. ويشير الجغرافيون العرب القدماء إلى أن عشائر من حضرموت في اليمن قد اختلطت بقبائل البجا في شرق السودان قبل ظهور الإسلام مكونة ما عرف بالحداربة ومفردها حد ربى ولعلها تصحيف لكلمة حضرمي وقد احتفظوا بلغتهم البجاوية حيث وصفهم المادح السوداني حاج الماحي قبل نحو مائة وخمسين عاما في وصفه لمشاهداته في رحلة الحج إلى الأراضي المقدسة في قصيدة بعنوان “أب جاها حوانا”:
ننزل في سواكن لينا شانا
ومن سوق الحداربة أهل الرطانة
اتشهلنا من بيعنا وشرانا
كذلك عبرت مجموعة صغيرة من قبيلة هوازن البحر الأحمر إلى شرق السودان حيث استقرت في منطقة جبال التاكا واختلطت بقبائل البجا وتعرف اليوم بقبيلة الحلنقة.
وقد أشار الرحالة العربي ابن حوقل إلى أنه وجد عربا سودا في منطقة القضارف في شرق السودان.
لكن التاريخ الحقيقي للتغلغل العربي في السودان بدأ بحملة وإلى مصر الذي خلف عمرو بن العاص وهو عبدا لله بن سعد بن أبى السرح وهو من أقرباء الخليفة الثالث عثمان بن عفان وأخوه في الرضاعة فقد جرد حملة فيسنة 641 م لفتح بلاد النوبة المسيحية فلم تنجح الحملة في مسعاها لإخضاعهم بل تكبد المسلمون فيها خسائر مقدرة من رماة الرماح الذي أطلق عليهم العرب اسم ” رماة الحدق ” لمهارتهم في إصابة أهدافهم بما في ذلك عيون أعدائهم. وكرر ابن أبى السرح المحاولة بعد سنوات دون نجاح وأخيرا لجأ إلى مصالحة النوبة عبر معاهدة سميت معاهدة “البقط” ولعلها أطول معاهدة في التاريخ إذ ظلت نافذة على مدى ستة قرون. وفتحت هذه المعاهدة الباب لتدفق العرب المسلمين على بلاد النوبة في تؤدة وأناة بادئ الأمر وشكلت هذه المعاهدة مع معاهدة أخرى أبرمت عام 855 م مع قبائل البجا في شرق السودان وتلال البحر الأحمر أهم معلمين لبداية انتشار الوجود العربي والثقافة العربية في السودان وقد فتحت معاهدة المسلمين مع البجا في العام المذكور أول ما فتحت أرض البجا لتدفقات عربية كبيرة بدأتها قبيلة ربيعة التي كانت تعيش في نجد تنقيبا عن الذهب في منطقة وادي العلاقي في المنطقة الممتدة بين ميناء عيذاب وأسوان وبلاد النوبة ومنذ ذلك الحين احتدمت صراعات مريرة بين القبائل العربية المهاجرة المتنافسة على الثروة والملك في المنطقة وبين البجا والنوبة من جانب آخر وللاستزادة يرجع للمقريزي وفي كتاب المؤرخ السوداني ضرار صالح ضرار “هجرة القبائل العربية إلى وادي النيل مصر والسودان” توثيق جيد لذلك.
أما بالنسبة للتدفقات العربية إلى بلاد النوبة وبأعداد مقدرة فقد بدأت بوصول الخليفة العباسي المعتصم إلى الملك في بغداد ووصول أحمد بن طولون واليا على مصر868 م كأول وال مسلم غير عربي حيث قام الخليفة المعتصم والذي كانت أمه من أصول تركية باستبدال الكتائب العربية في مصر بأخرى من المماليك والأتراك كما قام بقطع الأعطيات التي كانت تصرف من بيت المال على الجند العرب الذين منعوا منذ أيام الخليفة عمر بن الخطاب من الاشتغال بغير الجندية حفاظا على انضباطهم وجاهزيتهم العسكرية فكونوا طبقة حاكمة مميزة في مصر انحصر وجودها في أروقة الحكم وفي الحاميات والحصون العسكرية فظلت على بداوتها وتقاليدها العربية وصحب قطع الأعطيات تضييق على الوجود العربي في مصر كان سببا في تدفق الهجرات العربية إلى بلاد البربر في الغرب وإلى بلاد النوبة في السودان.(للاستزادة أيضا راجع صفحة 160 من كتاب هارولد ماكمايكل( تاريخ العرب في السودان).
ومع تكاثر الوجود العربي وانتشار الإسلام تساقطت ممالك النوبة المسيحية الثلاث الواحدة تلو الأخرى ومع تزايد التصاهر بين العرب والنوبة انتشرت اللغة العربية ويرجح ابن خلدون أن العرب استفادوا من تقاليد النوبة في توريث الملك لأبناء الأخوات فتزوجوا أخوات الملوك حتى انتهى الملك إلى أبناء العرب من النوبيات فزاد ذلك من وتيرة التعريب في البلاد. وانتهت عمليات التصاهر بقيام أول دولة عربية إسلامية في السودان عام 1504 م أي قبل زهاء خمسمائة عام من يومنا هذا وهى مملكة سنار وتسمى أيضا دولة الفونج أو السلطنة الزرقاء وعرف رعاياها في المنطقة بالسنانير. قال المادح حاج الماحي يصف ترحاب أهل الحجاز بحجاج السودان على أيامه في قصيدة معروفة “احبو من صغير” :
قالولنا حباب السنانير!
وأقام سلاطين مملكة سنار رواق السنارية في الأزهر الشريف في القاهرة حيث كانوا يبتعثون طلبة العلم إلى هناك وحثوا عددا من علماء الدين والمتصوفة من شتى بقاع العالم الإسلامي للمجيء للسودان بغرض الدعوة ونشر العلم وأنشأ السلطان بادى الأحمر وقفا في المدينة المنورة لاستقبال الزوار من مملكته للإقامة المجانية هناك أثناء زيارتهم للحرم المدني لا يزال جزء من أوقاف السودان هناك وحذا حذوه بعد عقود السلطان على دينار سلطان مملكة الفور. وفي هذه الفترة انتشرت الكتاتيب التي تعرف بالخلاوى في السودان لتحفيظ القران وعلوم العربية ومبادئ الحساب.
وتبع قيام هذه الدولة سلطنات إسلامية عديدة في المنطقة أسهمت بقدر واسع في انتشار اللغة والثقافة العربية في أجزاء واسعة من إفريقيا فأسس الجيلي أبو جريدة وهو من مناطق الجعليين في شمال السودان، مملكة تقلى العباسية في جبال النوبة وسليمان صولون (أي العربي) وهو حفيد أبو زيد الهلالي مملكة الفور التي استمرت حتى عام 1916 والتي كانت ترسل الكسوة للكعبة في مكة كذلك أسس رابح فضل الله السوداني مملكة امتدت في مناطق من تشاد والكميرون والنيجر وأطلق على عاصمتها اسم انجمينا وهى كلمة عربية معناها استرحنا مشتقة من الجمام. يقول أبو الطيب المتنبي:
يقول لى الطبيب أكلت شيئا وداؤك في شرابك والطعام
وما في طبه أنى جواد أضر بجسمه طول الجمام
ومع سقوط دولة غرناطة في الأندلس كآخر معقل للعرب والمسلمين في الأندلس في عام 1492 حتى بدأت تدفقات جديدة من العرب المسلمين من تلك الأنحاء على السودان تشهد على ذلك عشرات القرى في منطقة الجزيرة والنيل الأبيض وولاية الخرطوم التي تنسب تلك القرى إلى المغاربة بالإضافة إلى العشائر التي وفدت من موريتانيا إلى ذات المناطق وإلى كردفان ويطلق عليهم اسم الشناقيط نسبة إلى مدينة شنقيط التاريخية هناك أو “المشايخة”. ويشهد على ذلك الخط المغربي المميز في نواحي كردفان ودارفور وهناك المذهب المالكي الذي وفد على السودان من نواحي المغرب العربي الكبير بينما يسود المذهب الشافعي في الجارة مصر والمذهب الحنبلي في السعودية وهى جارة للسودان عبر البحر الأحمر وكذلك لفظة “مسيد” التي تطلق على المدارس الدينية والخلاوى الكبيرة والمستخدمة حتى اليوم في المغرب العربي كمرادف لكلمة مدرسة. وتنتشر رواية ورش عن عاصم كإحدى روايات القرآن الكريم في أجزاء واسعة من غرب السودان وأغلب الظن أنها وفدت مع الهجرات التي ذكرنا. وهناك تنتشر الطريقة التيجانية القادمة أصلا من منطقة عين ماضي في غرب الجزائر والتي انتشرت بعد هجرة مؤسسها الشيخ أحمد التيجاني إلى فاس في المغرب الأقصى. أما رواية القرآن السائدة في أنحاء السودان الأخرى فهي رواية أبى عمرو الدوري ولا توجد اليوم في غير السودان. وعن خصائص العامية السودانية فقد الفت كتابا تجرى طباعته الآن تحت عنوان ” أشتات مجتمعات في الفصحى والعامية ” وقد وجدت أنها تنتسب إلى كافة لهجات العرب المعروفة مشرقا ومغربا يغلب عليها طابع البداوة ومفردات الأبالة وقد حوت العديد من الألفاظ المحلية دون إن تفقد خصائصها كلهجة من لهجات العرب كما حوت ألفاظا تركية جاءت مع حكم أسرة محمد على باشا للبلاد عام 1821.
وألف مؤخرا الباحث السوداني إبراهيم إسحاق إبراهيم مؤلفا عن صلة اللهجات المحلية في أقاليم دارفور باللهجات القديمة التي كانت سائدة في اليمن كاللغة الحميرية وهذا دليل آخر على عمق وقدم الثقافة العربية في السودان حتى قبل انتشار الإسلام. ومن الجدير بالملاحظة أن المسعودي أشار إلى ملوك النوبة في عصر الممالك المسيحية أكدوا له أنهم ينحدرون من أصول حميرية.
كذلك تدفقت هجرات واسعة بعد ذلك على السودان قوامها الهلاليون وقبائل جهينة اليمنية استقرت في سهوب البطانة في وسط السودان والجزيرة وكردفان ودارفور حتى بلغت نواح تشاد بينما تنسب القبائل التي تتحدث العربية دون غيرها في المنطقة الممتدة شمال الخرطوم إلى العرب العدنانية. هذا فضلا عن هجرات قبيلة الرشايدة من الجزيرة العربية قبل أقل من قرنين من الزمان ويبلغ تعدادهم اليوم قرابة نصف المليون نسمة.
وعن الموسيقى والغناء فقد تأثرت بالإيقاعات الإفريقية الصاخبة في بعض المناطق كما أن الطرق الصوفية قد وظفت هذه الإيقاعات في مجالات الدعوة عبر دقات الطبول والرقصات وهذا أثر إفريقي بلا جدال كما يقول البريطاني جون سبنسر تريمنغهام. ويغلب على الموسيقى السودانية السلم الخماسي السائد في تخوم الصحراء الكبرى من موريتانيا وحتى الصومال ويمتد تأثير السلم الخماسي إلى ما وراء القارة الإفريقية إلى شبه الجزيرة الهندية والصين واليابان وتجد الموسيقى السودانية في حزام الصحراء الذي ذكرنا رواجا منقطع النظير بينما لا تجد آذانا تطرب لها في ربوع الوطن العربي الكبير حيث تسود الموسيقى الشرقية والسلم السباعي الذي لا يوجد في السودان إلا لدى عرب كردفان ودارفور حيث الغناء عندهم مشابه للغناء التقليدي في الخليج العربي واليمن قال عنه الباحث اليمنى نزار غانم أنه مطابق في جرسه ومضامينه للغناء في اليمن ودونكم غناء الأستاذ عبد القادر سالم في أغانيه التراثية مثل “حلوة يا بسامة ” وبعض غناء عمر احساس. ومن الآلات السائدة في شمال وشرق وجنوب السودان آلة الطنبور وهو آلة وجدت على النقوش الفرعونية القديمة وتستخدم الفوف في أقصى الشمال مصاحبة للغناء بينما يقتصر استخدامها في مناطق السودان الأخرى على المدائح النبوية. أما الطبخ السوداني فهو في الغالب إفريقي في الأرياف مع مؤثرات عربية بدوية خاصة لدى الرعاة. أما المطبخ في المراكز الحضرية فهو بفعل الأثر التركي شديد الشبه بالمطبخ “الشرق أوسطي” (ما يسمى مطبخاً تركياً هو في الأساس مطبخ شامي، إذ أن القبائل التركية لم تكن قد أسست حضارة مستقرة يعتد بها قبل الإسلام، على عكس الفرس في الشرق. وقد أطلقت تسمية المطبخ التركي على الأكل العربي، والقهوة التركية على القهوة العربية، وأصل نبتتها يمني، خلال الاحتلال العثماني من قبل الأوروبيين – إ. ع).
وأعادت الثقافة العربية ما سبق أن أنتجته في جزيرة العرب ففي الشعر انتشر شعر الدوبيت ومعناه من الفارسية بيتين بيتين وهو شعر عبارته عامية شبيه بالزجل في لبنان والشعر النبطي في الجزيرة العربية. وأسوق الحديث التالي للشاعر السوداني الكبير عبدالله الشيخ البشير نقلا عن كتاب الأستاذ فرح عيسى محمد “فيض الذاكرة” يروى الشاعر عبدا لله الشيخ البشير انه عمل معلما في نجد في المملكة العربية السعودية يقول: “حصلت ألفة بيني وبينهم وجدت أنهم يشابهوننا في الكثير بدأت احفظ شعرهم العامي وهو يشبه شعر الدوبيت وان كان يختلف في الوزن صرت ألقى على الطلاب شيئا من الدوبيت فيحفظونه مثل الذي أرسل إلى أهله مع الطير:
يا طير إن مشيت سلم على الأمات
وقوليهن وليدكن في الحياة ما مات
الدار عيشت جابت تلات سلقات
المرة حلقت وجمله البسافر مات
بعد شرح الأبيات حفظوها وبثوها في نجد كلها. كذلك وجدت شبها في الأحاجي مثل حجوة ” أم ضبيبينة” الحجوة التي لا تنتهي أبدا يسمونها ” حجوة الذباب” ولهم ألعاب تتطابق مع ألعابنا تماما وقد لاحظت نبتة نحن نسميها في الشمال “الجتية” لما سألتهم عنها قالوا “الجثية “.
ونقلوا عن العرب وشم الشفاه واللثة عند النساء حتى يظهر ذلك بياض الأسنان. قال طرفة بن العبد في معلقته يصف جمال محبوبته:
وتبسم عن ألمى كأن منورا تخلل حر الرمل دعص له ند
سقته اياة الشمس الا لثاته أسف ولم تكمد عليه باثمد
وانتشرت بين رعاة الإبل منهم ظاهرة سرقة الأيل كنوع من أنواع الفروسية وعرف أولئك لدى العرب الأقدمين بالصعاليك منهم عمرو بن معد كرب وكان بينهم شعراء فحول سمي هؤلاء في السودان بالهمباتة والظاهرة بالهمبتة ومن شعرائهم الطيب ود الضحوية.
وهكذا وعلى مدى قرنين أو ثلاثة شكل السودان منطقة جاذبة تدفق نحوها عشائر عربية من أجزاء الوطن العربي الكبير الأمر الذي عمق غراس الثقافة واللغة العربية في أرضه ورغم أن الظروف المناخية في جنوب السودان قد حالت دون تدفقات كبيرة للقبائل العربية إلى هناك إلا أن الثقافة العربية قد تمكنت من الانتشار هناك لغةً وسماتٍ إلى درجة أصبحت فيها اللغة العربية منذ القرن التاسع عشر هي اللغة المشتركة بين قبائل الجنوب أو ما يعرف بLingua franca لأكثر من مائة لهجة محلية ولغة ويعلق الدكتور فرنسيس دينق في كتابه المشار إليه آنفا إلى أنه وبعد أن اعتمدت الإدارة البريطانية المستعمرة سياسات محاربة التعريب والأسلمة في الجنوب كان مما يسترعى الاهتمام أن العربية ظلت هي لغة التخاطب المشتركة بين قبائل الجنوب خاصة في المراكز الحضرية وما ظهور ما يعرف بعربي جوبا إلا أبلغ دليل على ذلك. يقول جون سبنسر ترمينغهام في كتابه” التناول المسيحي للإسلام في السودان” انه قبل وصول الاستعمار كانت أسواق الجنوب في مدن واو وغيرها قد أصبحت مثل أسواق الشمال تماما ويشيد بقرار الإدارة البريطانية تنفيذ قرارت مؤتمر الرجاف عام 1928 التي قضت بمنع تدريس اللغة العربية في مدارس الجنوب قائلا انه لولا ذلك لما وقف عائقٌ في وجه انتشار الإسلام في إفريقيا! علما بأن الإدارة البريطانية قد أغلقت الجنوب على مدى ثلاثين عاما في وجه الشماليين عبر قانون المناطق المغلقة الذي ضم جبال النوبة وأجزاء من دارفور وجنوب النيل الأزرق وصل حد طردهم من الجنوب واستبدالهم بالطليان واليونانيين ومنع الجنوبيين من لباس الجلباب والطاقية وتسمية أبنائهم بالأسماء العربية.
ومثلت فترة الحكم التركي منذ عام 1821 وحتى قيام الثورة المهدية وانتصارها في 1885 بداية ارتباط وثيق بين الثقافة العربية في مصر ونظيرتها في السودان ذلك أن العهد التركي (المقصود طبعاً عهد محمد علي باشا وذريته، رائد النهضة العربية الحديثة – إ. ع) أقام عددا من المدارس العصرية في السودان أرسل إليها أعلاما في تاريخ التعليم في مصر أمثال رفاعة رافع الطهطاوي كما عمدت الإدارة التركية إلى إقامة مؤسسة دينية فعينت مفتيا وقاض للقضاة سعيا منها لمراقبة الدين الشعبي الذي قد يؤدى لاشتعال الثورات وهو ما حدث بالفعل في نهاية المطاف بقيام الثورة المهدية. هذا رغم أن العهد التركي حارب العربية في مصر والسودان وجعل التركية لغة التدريس في كليهما (كم يتناقض هذا القول مع النهضة الثقافية الكبيرة، باللغة العربية، التي أنشأها محمد علي باشا في مصر، والتي كان الطهطاوي رائداً لها! لكن الحقيقة تبقى أن محمد علي باشا، بالرغم من كل إنجازاته ومحاسنه، لم يكن عربي الأصل، وكان يحكم مصر كأجنبي، وليس ك”ابن بلد” في النهاية – إ. ع). وقد يبدو غريبا الإشارة إلى أن اللغة العربية أعلنت لغة رسمية في مصر عام فقط 1862 لكن ربط مناهج التعليم في البلدين ساعد في المستقبل على توثيق الصلات الثقافية بينهما خاصة وان الطباعة قد ازدهرت في مصر لاحقا فتوفر الإنتاج المصري من الكتابات والكتب للمدارس والمكتبات في السودان.
في هذه الفترة أيضا بدأ الشعر المقفي ينافس الشعر العامي الذي كان منتشرا مثل شعر الحاردلو في بوادي البطانة:
الشم خوخت بردت ليإلى الحرة
والبراق برق من منا جاب القرة
شوف عينى الصقير بجناحو كفت الفرة
تلقاها أم خدود الليلة مرقت برة
وخوخت أي ضعفت ليس بمعنى أنها أصبحت مثل ثمرة الخوخ لأن الخوخ لا يعرف في السودان ولكن خوخة معناها في الفصيح الباب الصغير بين بابين ونسميه في السودان (النفاج) أو كوة صغيرة يدخل منها الضوء وتحرير المعنى أن الشمس صغرت وضعف حرها ربما بسبب الخريف وغزارة المطر. يقول القاص العالمي الطيب صالح أن شعر الحاردلو في مضامينه أشبه ما يكون بشعر ذي الرمة. ومن جميل المقفى في القرن التاسع عشر قصيدة الشاعر محمد عمر البنا في مدح الإمام المهدي:
الحرب صبر واللقاء ثبات والموت في شأن الإله حياة
قوم إذا حمى الوطيس رأيتهم شم الجبال وللضعيف حماة
ولما كانت هذه المحاضرة ليست في سرد تطور الشعر السوداني نكتفي بأن نحيل من أراد التوسع في ذلك إلى كتاب الدكتور عبده بدوى ” الشعر الحديث في السودان” وكتاب المرحوم السفير عبد الهادي الصديق ” أصول الشعر السوداني ” ونكتفي بالإشارة إلى أن مدارس الشعر الحديث والتقليدي في مصر قد كانت لها انعكاساتها على المدارس الشعرية في السودان. ويجدر بنا الإشارة هنا إلى عدد من شعراء وأدباء السودان الفحول الذين استطاعوا أن يزاحموا نظراءهم في الصالونات الأدبية في مصر نذكر منهم معاوية محمد نور الذي رثاه الأستاذ عباس محمود العقاد بقصيدة عند موته وكذلك الشعراء حمزة الملك طمبل ومحي الدين فارس ومحمد الفيتوري وتاج السر الحسن ومحمد سعيد العباسي.
إلى جانب ذلك فقد تأثر السودان بكافة المدارس الفكرية والسياسية التي نشأت في العصر الحديث فقد انتقلت حركة الأخوان المسلمين من مصر منذ أيام الشيخ حسن البنا إلى السودان على يد عدد من الطلاب السودانيين في مصر منهم الشيخ صادق عبد الله عبد الماجد المرشد العام الحالي للجماعة في السودان وكذلك الحركات الشيوعية منذ حركة (حدتو) وقد أفرد الأستاذ أحمد سليمان سفير السودان الأسبق لدى الولايات المتحدة والذي تلقى تعليمه الجامعي في مصر حيث كان منخرطا أيضا في الحركة الشيوعية هناك ضمن الطلاب السودانيين، كتابات هامة في هذا الشأن وكيف رعى هنري كورييل في مصر مجموعة الطلاب السودانيين الشيوعيين الأوائل وللدكتور محمد نورى الأمين أستاذ العلوم السياسية بحثا عن دور الحزب الشيوعي المصري في تكوين الحزب الشيوعي السوداني باللغة الإنجليزية. كذلك تلقى عدد من رموز الحركة الاتحادية العلم في مصر نذكر منهم الأستاذ أحمد خير المحامى وزير خارجية السودان الأسبق والدكتور أحمد السيد حمد أحد رموز الحزب الاتحادي الديموقراطي. كذلك كان للحركة الناصرية دور في الحركة الطلابية في السودان زاد من ذلك الأثر وجود البعثة التعليمية المصرية في السودان ووجود فرع لجامعة القاهرة في الخرطوم وكان لهذا الأثر صداه الثقافي في ميادين الشعر والغناء والثقافة بوجه عام وقد ذكر الرئيس جمال عبد الناصر في إحدى خطبه الأثر البالغ الذي تركه استقبال السودانيين الحافل له عقب هزيمة 1967 عندما جاء إلى الخرطوم وكيف أن ذلك قد أثار غضب الإعلام الغربي الذي قال ” الخرطوم تستقبل القائد المهزوم”. تأسست في السودان أيضا فروع لحزب البعث العربي الاشتراكي بشقيه السوري والعراقي وهى تشكل الآن روافد من الحركة اليسارية في السودان وفي فترات سابقة نشط رافد لحزب التحرير الإسلامي الذي أسسه النبهانى في فلسطين ومر زمان في حقبة الستينات من القرن الماضي كان يقال فيه إن القاهرة تكتب وبيروت تطبع والخرطوم تقرأ وقد شهدنا في صبانا الباكر كيف استقبلت الخرطوم ومدينة ودمدنى الشاعر الفذ نزار قباني استقبال الفاتحين. ولا ننسى في هذا السياق عددا من القيادات السياسية والفكرية التي تلقت تعليمها الجامعي في الجامعة الأمريكية في بيروت إبان تصاعد حركات التحرير والمقاومة ضد الاستعمار الأمر الذي أتاح لها الاحتكاك بالكثير من التيارات الفكرية والسياسية العربية نذكر من أولئك الزعيم الراحل إسماعيل الأزهري رئيس أول حكومة سودانية ونصر الحج على أول مدير لجامعة الخرطوم وعدد من أساتذة الجامعات كالدكتور مالك بدري والدكتور محمود عبدا لله برات والشاعر والأستاذ الجامعي السر دوليب.
ونود أن نشير في خواتيم هذه المحاضرة إلى أن قيام الدولة السنارية كنتيجة طبيعية للتغلغل العربي والإسلامي عبر قرون وما صاحبه من تمازج الدماء العربية والنوبية والزنجية والحامية قد وضع إطارا لتطور السودان لم يعد العرق عاملا أساسيا فيه بل أصبح الأنموذج السناري دالة على يسر التلاقح بين الثقافتين العربية والإفريقية بحيث لم يفضِ إلى شوفونية عنصرية عربية كانت أم زنجية إذ يعد من خطل القول الحديث عن نقاء عرقي في السودان أو في غيره. لكن غلب في ظن بعض المثقفين السودانيين في ستينيات القرن الماضي وبسبب تنامي المشاعر العربية في خضم الصراع العربي “الإسرائيلي” من جهة والمواجهات مع بريطانيا وفرنسا في قناة السويس وحرب التحرير الجزائرية أن صوت المكون العربي في الثقافة السودانية قد تنامي بما قد يخل بالمرجعية السنارية القائمة على فكرة توازن عربي إفريقي ذلك أن دولة سنار تأسست بقيام تحالف بين قبائل القواسمة العربية الجهنية بقيادة شيخ العبدلاب عبد الله جماع وبين زعيم قبائل الفونج عمارة دنقس وهو افريقى مسلم من مناطق جنوب النيل الأزرق. وهذا التحالف اعتمد اللغة العربية كلسان للثقافة السودانية دون كبير تعويل على عرق أو عنصر وهو تدبير غير مكتوب أسهم إلى حد كبير في صهر الأعراق والأجناس. قلنا إن عددا من المثقفين أحسوا في بدايات ستينيات القرن الماضي بما يشبه الإخلال بالتوازن الذي جاء به الأنموذج السنارى فأسسوا ما عرف بمدرسة الغابة والصحراء حيث ترمز الغابة للبعد الإفريقي والصحراء للبعد العربي ومن رموز تلك المدرسة الشاعر الراحل محمد عبد الحى والشاعر النور عثمان والسفير الشاعر محمد المكي إبراهيم الذي أرجو أن يكون ضمن حضور هذه المحاضرة ليلقى المزيد من الضوء على هذه المدرسة. ومما وجد حفاوة عند رواد هذه المدرسة أشعار الشاعر الكبير محمد المهدي مجذوب إبان فترة عمله في جنوب السودان من ذلك أبياته المشهورة:
وليتنى في الزنوج ولى رباب تميد به خطاي وتستقيم
وأجترع المريسة في الحواني وأهذر لا ألام ولا ألوم
وأصرع في الطريق وفي عيوني ضباب السكر والطرب الغشوم
طليق لا تقيدنى قريش بأحساب الكرام ولا تميم
وقد أفرد الدكتور عبد الله على إبراهيم فصلا جديرا بالقراءة في كتابه ” الثقافة والديمقراطية في السودان.” لهذه المدرسة عنوانه “تهافت الآفرو-عربية أو تحالف الهاربين.”
وعلى كل فإن العبرة من أنموذج سنار أنه قام وأقام دهرا ولا يزال على التراضي لا القهر وعلى التلاقح بين المكونات المختلفة للمجتمعات السودانية دون إقصاء وحري بتدابير المستقبل أن تسعى لإذابة الفوارق وتقوية الأواصر على النسق ذاته بحيث تتنافس الثقافات الفرعية تنافسا حبيا شريفا في إثراء الثقافة الوطنية الجامعة و في ذلك فليتنافس المتنافسون.
===============================================
ملاحظة: للأستاذ خضر هارون، كما جاء في محاضرته أعلاه، كتاب بعنوان “أشتات مجتمعات في الفصحى والعامية” يدرس فيه الأصول العربية والقبلية العريقة للهجات السودانية. والكتاب المذكور منشور على الإنترنت، ويوجد تعريف له على موقع مقامات. ومما جاء فيه:
يلاحظ هنا أن الفارسية التي تكتب بالحرف العربي مثلها مثل الأردية لم تفقد رغم اشتمالها على آلاف الكلمات العربية على خصائصها المميزة لها كإحدى اللغات الهندو-أوروبية وكذلك اللغات الحبشية كالتقرينقا والأمهرة والمهرة وسوقطرة فى اليمن رغم ما طرأ عليها من حروف وتراكيب من لغات أخرى ظلت ضمن منظومة اللغات السامية جنبا إلى جنب مع العبرية والعربية.
والعامية السودانية رغم ما حوت من ألفاظ نوبية ونوباوية وبجاوية لم تفقد خاصيتها كلهجة عربية مثل سائر لهجات العرب المعاصرة بدليل سهولة ويسر اندياح السودانيين في المجتمعات العربية. والعربية الفصحى نفسها قد عربت ما لا يحصى من الألفاظ الهندية والفارسية دون أن تصبح لغة هجينة وكلمة (مصحف) وهى من أهم الكلمات للوجدان المسلم العربي استعارتها العربية من اللغة الحبشية حيث تعنى فى الأمهرية ( كتاب) وكذلك كلمة (صلوات) الواردة في الذكر الحكيم ومعناها كنائس ” ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت بيع …” وأصلها من كلمة (صلوثا) السريانية وقد ذهب الزمخشرى إلى كونها عبرية .
ولابد من الإشارة هنا إلى أن اللهجات العربية الدارجة لم تنشأ بسبب ضعف الفصحى أو بدخول الأعاجم في الإسلام وانتشارهم ومخالطتهم للعرب في حواضر الدولة الإسلامية بل كانت هناك على الدوام لغة مخاطبة يتخفف الناس فيها من ضوابط النحو الثقيلة وهى لهجات تختلف من إقليم إلى إقليم وكانت على الجملة تختلف من لغة الكتابة في مادتها اللغوية وهذا ما ذهب إليه كثيرون نذكر منهم الدكتور إبراهيم السامرائي في سفره القيم “فقه اللغة المقارن”. وقد نبه الجاحظ قراء (البخلاء) إلى اشتماله على اللحن وغير المعرب من الألفاظ حيث أراد لما كتبه أن يكون قريبا من لغة المخاطبة المتحررة من قيود النحو والإعراب. قال:” وان وجدتم في هذا الكتاب لحنا أو كلاما غير معرب ولفظا معدولاً عن وجهته, فاعلموا أنا تركنا ذلك, لأن الإعراب يبغض هذا الباب ويخرجه من حده إلا أن أحكى من كلام متعاقلي البخلاء وأشحاء العلماء كسهل بن هارون أشباهه”.
تبقى الإشارة إلى أن هذا الكتاب ليس كتابا دراسيا كما أنه ليس معجما لألفاظ العامية السودانية وانتهز السانحة لأحيى الأستاذ الدكتور عون الشريف قاسم على الجهد الكبير الذي بذله في رد مفردات العامية السودانية إلى أصولها العربية وغير العربية وكتابه لا غنى عنه لمن أراد دراسة تلك العامية السودانية دراسة علمية مستفيضة.تبقى إشارة أخرى هامة هي أننا لم نعتمد في ترتيب الكلمات موضوع الدراسة والبحث فيه الترتيب القاموسي الذي يقوم على ترتيب حروف الهجاء العربية بل جاء الترتيب هكذا وفق حضور الكلمات في الذاكرة اتفاقا بغير تدبير.