المنلوج أو monologue ضرب من الفنون يقدم بموجبه ممثل على خشبة المسرح منفردا حديثا طويلا نثرا أو شعرا بغرض التسرية عن النظارة أو لكشف ما خفى من أدوار يقوم بها الممثلون الآخرون يستلزم فهم المسرحية كشف خفاياهم. وفى الكوميديا الحديثة تتميز برامج التسرية عن الناس فى الولايات المتحدة وخاصة برامج أواخر الليل بهذا الضرب من الفكاهة – وتجىء على هيئة لقاءات مع النجوم خفيفة الظل- حيث يبتدر مقدم البرنامج سهرته التلفزيونية بهذا المنلوج حيث يقدم خطبة نثرية تتغذى من أحداث حقيقية وقعت أثناء النهار لرئيس الدولة أو أحد وزرائه أو لواحد من نواب الشعب فى الجهاز التشريعى أو لأى من وجوه المجتمع ونجومه من أهل الفنون أو الرياضة أو غيرها يحورها ( الكومديان) الى ملهاة تنضح بالسخرية اللاذعة التى تثير الضحك. وقد اشتهرت أسماء لامعة فى هذا الضرب منها: جونى كارسون وخليفته جي لينو وديفيد ليترمان وبيل كوسبى وكريس روك وكونار وغيرهم. ويتحاشى السياسيون دون جدوى أن يقعوا فرائس سهلة لهذا الضرب من الاستهذاء الذى يلحق بهم من الضرر واشانة السمعة أكثر مما تفعل المقالات الرصينة أو الخطب السياسية الرنانة. وقد أدركنا على أيامنا طرفا من هذا الفن فى السودان فى المدارس زمان الجمعية الأدبية . ولعل الفنان الراحل ابن الجزيرة الخضراء “بلبل” كان ذا باع فى ذلك رحمه الله ولعل الشباب المبدعين فى فرقتى (تيراب) و(هيلاهوب) يحيون ذلك النوع من الفن بعد الموات.
ولأن المنلوج نوع من الحديث الى الذات , توسع الناس فى استخدامه فيقال للحديث أو الرسالة التى لا يحسن صاحبها فنون ايصالها للناس أو التأثير عليهم بأنها ” منلوج” كأنما يحدث صاحبها نفسه. وهذا ما نحن بصدده فى هذه المقالة تعليقا على الحملة النبيلة المقاصد الداعية لتغليب خيار الوحدة على الانفصال بواكير العام الميلادى المقبل 2011. فالرسالة هامة وجميل أن انخرطت فى خضم الدعوة اليها شخصيات وطنية مرموقة وأعلنت جامعة الخرطوم مؤخرا الانضمام الى قافلة الداعين اليها. ولا شك أن مخاطر الانفصال على الشمال والجنوب معا عظيمة فيها الشاخص الذى يرى بالعين المجردة والمستتر الذى يشبه الهزات الارتدادية التى تعقب كل زلزال. وهى كذلك على المنطقة بأسرها ويتعين على كل صاحب رأى التنبيه الى ذلك ابراء للذمة وترفعا عن مكاسب آنية أو مغانم زائلة يحصدها جراء الصمت. وتركيز الباحثين عبر برامج الاذاعة والتلفزيون على تذكير الناس بالمشتركات العديدة التى تربط السودانيين فى بقاع السودان المختلفة و التى هى أكثر من أن تحصى, أمر مطلوب حتى لو اختار الجنوب الانفصال لأن التذكير بتلك المشتركات قد يعصم ما تبقى من السودان من شرور التشظى والانقسام فى ما نستقبل بعد ذلك من أيام.
لكنى مع ذلك أرى بعض هذه الحملة يبدو وكأنه نوع من المنلوج ومخاطبة أهل الشمال بعضهم بعضا مع ان الهدف هو مخاطبة و اقناع المواطن الجنوبى الذى يملك وحده حق التصويت للادلاء بصوته لصالح الابقاء على الجنوب فى حضن السودان الوطن الواحد .لا يغير من هذا الوصف استضافة بعض الاخوة الجنوبيين الذين انصهروا فى بوتقة الشمال الثقافية وتزوجوا فيه وأنجبوا حتى أصبحوا جزء لا يتجزأ من مكوناته أو استضافة شماليين انصهروا فى بوتقة الجنوب. وأتسائل كم هى نسبة من يشاهدون هذه البرامج من الاخوة الجنوبيين فى الجنوب وفى دول الجوار وفى الشتات البعيد فى أطراف العالم فى استراليا وأمريكا ودول اكسندنيفيا؟ وهؤلاء صوتوا فى غالبيتهم للحركة الشعبية لتحرير السودان فى الانتخابات الأخيرة وكثير من قيادات الحركة تتحدث عن أن زمان الوحدة قد ولى الى غير رجعة كما أن منظمات شبابية فى مدينة جوبا تتحدث بصوت عال عن دعمها المستمر وفى التاسع من بداية كل شهر تبقى على الاستفتاء, لانفصال الجنوب مع تحركات لقوى فاعلة على مسرح السياسة الدولية فى هذا الاتجاه. اذن ما المغزى من ادارة هذه الحملة على النحو الجار الآن؟ولو أننا افترضنا أن معظم ابناء الجنوب فى الداخل والخارج يشاهدون ويتأثرون بما تبثه الوسائط الاعلامية السودانية الداعمة لخيار الوحدة فان تأثيرهذه الوسائط عليهم يظل محدودا للغاية وقدرتها على اقناعهم بضرورة التصويت لصالح الوحدة تظل ضئيلة للغاية أيضا ما لم تكن الحركة الشعبية مقتنعة ومنحازة فعلا لا قولا لخيار الوحدة لأنها موضع ثقتهم. ومهما صدقت النوايا فان أى جهد ينحصر فى الشمال وحده لا يعول على غالبية الجنوبيين الموجودة الآن فى الجنوب حسب الاحصاء السكانى الأخير الذى أجرى عام 2008 سيكون جهدا بلا طائل وتبديدا للطاقات بلا نتيجة ومصدرا للاحباط اذا وقع الانفصال بل وقد يثير الشكوك حول التزام الشمال بنتيجة الاستفتاء فوق أنه تهافت ليس له ما يبرره. لكن من مسؤولية الحكومة الاتحادية التأريخية التيقن من أن لا يحال بين المواطن الجنوبى وبين الادلاء بصوته بحرية تامة دون رغب ولا رهب وأن نتيجة الاستفتاء ان رجحت كفة الانفصال تعبر بصدق عن أشواق الجنوبيين ويمكن لها فى اطار الشراكة مع الحركة التى هى جزء من الحكومة الاتحادية الاتفاق على ضمان تلك الحرية وأن تسعى الحكومة بعد ذلك للاستعانة بالاتحاد الافريقى والجامعة العربية بل ومنظمة عدم الانحياز لاستحداث آليات تراقب حرية الحركة وحرية التعبير فى الجنوب لكافة القوى السياسية والاجتماعية للتيقن من أن المواطن الجنوبى يتلقى كافة الطروحات و لا يتعرض لضغوط تحمله قسرا على التصويت فى اتجاه بعينه.
لذلك يلزم وبالحاح أن تحول هذه الحملة المنلوج الى حوار Dialogue وحوار حقيقى بين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطنى يكشف مكنونات كل منهما و رؤاه بوضوح حول مستقبل السودان حتى يستبين الناس موقف كل منهما ومن هو الوفى لنصوص اتفاقية السلام الشامل باعطاء الأولوية لخيار الوحدة بل من من قيادات الحركة الوفى لمبادئ مؤسسها الدكتور جون قرنق الوحدوية ومن هو الذى يدفع البلاد الى التجزئة. ولتشارك قيادات الطرفين من السياسيين والمثقفين فى هذا الحوار عبر الندوات المفتوحة والمنقولة للناس فى الشمال والجنوب معا عبر أجهزة الاعلام . وليستحدث الشريكان آليات تتيح الحرية كاملة للمكونات الجنوبية الأخرى من أحزاب وقيادات أهلية فى الجنوب من حشد التأييد لرؤاها حول الوحدة والانفصال دون املاء من أحد. ذلك لأنه مثلما أن المؤتمر الوطنى لا يملك التقرير باسم الشمال وحده فان الحركة الشعبية لا تملك وحدها حق تقرير مصير الجنوب والسودان رغم فوزهما فى الانتخابات فالقضايا الوطنية الكبرى لا تحسم بالأغلبية الميكانيكية. ولا بد أن ينداح هذا الحوار المفتوح ليشمل كافة التنظيمات والكيانات السياسية فى الشمال أيضا بحيث لا يستثنى أحدا لأن أمر الوحدة والانفصال أمر وطنى من صميم مسؤوليات النخبة السياسية بأسرها فى السودان وليست مسؤولية شريكى نيفاشا وحدهما. وستتساءل الأجيال القادمة عن دور كل سياسى ومثقف ماذا قدم للابقاء على السودان موحدا. هل سما فوق مرارته الشخصية ولعق جراحاته وهرول فى تجرد ونكران ذات لانقاذ السودان أم وقف متفرجا شامتا ملقيا اللائمة على من فى السلطة وحده. ان أخطاء الحكم القائم وعثراته لن تعفى أيا منا عن مؤونة القيام بدوره الوطنى لأن أبناءنا وأحفادنا جميعا من يقف منا اليوم فى صف الحكومة ومن يقف معارضا لها , سيدفعون ثمن تصويت الجنوب فى يناير من العام المقبل على مستقبل السودان.
هذا من حيث التدابير الاجرائية الضامنة لشفافية عملية الاستفتاء. أما من حيث مضامين الحوار فرغم أن بروتوكولات ماشكوس ونيفاشا من بعد قد حسمت القضايا الجوهرية التى أدت للحرب, فما من بأس البتة فى احياء الحوار على قضايا تخص المستقبل وضمانات اضافية تطمئن المواطن الجنوبى على العيش فى وطن كبير بحقوق مواطن من الدرجة الأولى. وفى هذا الصدد نقول ان المشتركات بين الشمال والجنوب كافية لتأسيس دولة عصرية فاعلة وأن هذه المشتركات ليس بالضرورة أن تكون مشتركات ثقافية وعرقية لخلق التجانس فالمصالح الاقتصادية المتشابكة تعد من المشتركات فالدول الآن تنضم الى تجمعات اقتصادية وتجارية خارج جوارها الجغرافى والثقافى بما يعود بالنفع على شعوبها كما أن التجانس الثقافى والعرقى داخل الدولة القطرية آخذ فى التراجع كل يوم تشرق فيه الشمس بفعل اطراد ظاهرة العولمة. ومساع الكثير من الدول لتغيير قوانين الهجرة للحد من الهجرات اليها وتنامى مظاهر الكراهية العرقية والدينية جميعا تعد حيطانا هشة البناء سرعان ما ستتهاوى أمام( سونانمى) العولمة الذىسيخلق مجتمعات مختلطة فى كل مكان. لذلك ينبغى ألا يجهد المتحاورون أنفسهم فى البحث عن المشتركات الثقافية والعرقية كوصفة وحيدة لتحقيق الوحدة وليتسع لديهم مفهوم المشتركات ليسع المصالح المتحققة للطرفين فى بقاء السودان موحدا وفى الاتحاد الأوروبى دالة على ذلك وفى أشواق الأفارقة لتطوير الاتحاد الافريقي الى كيان اقتصادى وسياسى موحد عظة أبلغ.
والخلاصة أن أهم استحقاقات الاستفتاء على الاطلاق هو بسط الحرية كاملة للمواطن فى الجنوب ليقول كلمته بكل حرية ليقرر بالفعل مصيره وواجب القيادات التبصير بالمآلات جميعا ولكى لا تتحمل وزر النتائج وحدها ينبغى أن تكون الأحرص على اتاحة الفرص لكل راغب فى التعبير عن أشواقه حتى يتحمل جزءا من مسؤولية ما ستؤول اليه الأمور. وواجب الشريكين معا أن يقنعا المواطن فى الشمال والجنوب أنهما قد استنفدا الجهد المنصوص عليه فى الاتفاقية من أجل ترجيح خيار الوحدة.
ومع ذلك وتناغما معه يجب العكوف منذ الآن فى الاعداد لاحتمال الأنفصال تجنبا لاشتعال الحرائق بعده و الذى ان اختاره أهل الجنوب طمعا فى الاستقرار وتسريع وتيرة التنمية فليكن معلوما أن تلك الغايات لا سيبل الى تحقيقها ان بقيت مواطن التوتر فى جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق وأبيى فى انتظار صافرة البداية لاشتعال حرب جديدة تأكل الأخضر واليابس و تكرر ظواهر البؤس والنزوح وضياع أجيال من الناس لعقود جديدة أخرى وسيكون قيام دولة جديدة فى الجنوب لا يعنى أكثر من احياء للحرب القديمة الضروس التى قعدت بالشمال والجنوب معا. لا بد أن نجعل من الاستفتاء القادم كيفما كانت نتائجه آخر فصول الشقاء فى حياة السودانيين فى الشمال والجنوب وبداية لانطلاقة جديدة لحاقا بمن سبقونا من الأمم والشعوب.
( نقلا عن يومية” الرأى العام” السودانية)