وكدنا نحفظ عن ظهر قلب تلك القطعة فى كتاب المطالعة الأولية عن حكاية رجل بذل حبه كله للذهب ظناً منه كظن الكثرة من الناس فى كل زمان ومكان أن الذهب هو مفتاح السعادة فى الحياة. تحققت أمنيته فأصبح كل ما تمسه كفه يتحول الى ذهب. ولم تطل سعادته فسرعان ما تحولت وحيدته , فلذة كبده الى تمثال من المعدن النفيس فقال هزجاً والندم يسد على عينيه الأفق والبغضاء على الذهب تهز كيانه هزاً:
بنيتى تكلمى فقد أثرت ألمى وغدوت معدناً كالصنم!
فيا حسرتى ويا أسفى
أو هذا ما بقى فى الذاكرة بفعل السنين.
ولبلدنا السودان حكاية مع الذهب لا تريد أن تنتهى فاسمها القديم مشتق من الذهب فهو (نوبيا) اشتقاقاً من (نوب) ومعناها الذهب. لذلك يتسمى كثير من النوبيين فى الشمال بهذا الاسم الساحر (دهب). والإكتشافات المعاصرة للذهب فى كل مكان من أرض السودان دليل على أن الأقدمين لم يبعدوا النجعة عندما أطلقوا على بلادنا اسم (بلاد الذهب). وهذه التسمية تغرى الشباب اليوم لإرتقاء مدارج الثراء السريع بالزحف الى الصحارى والقفار بحثاً عنه مثلما أغرت ملوك الفرس لغزو النوبة إلا أن الصحراء تكفلت بالتصدى لهم فلم يعثر لهم على أثروهى التى أغرت حاكم مصر الألبانى الأصل محمد على باشا بغزونا عام 1820 بحثاً عن الذهب الا أنه فقد فى سبيل ذلك فلذة كبده ايضاً, اسماعيل على يد المك نمر فكان مصيره مماثلاً لمصيركريمة الساحر الذى ذكرنا آنفاً.
والذهب نفيس بلا جدال ولعله المعدن الوحيد الذى ظل متربعاً على عرش الإجلال منذ أن عرفه الناس فى بدْ الخليقة وهاهو يعود هذه الأيام فى أقوى صوره يواصل الصعود فى مدارج المجد يوماً بعد يوم. وأذكر أنه عندما تبارى أكثر من مرشح على تمثيل الإتحاديين فى البرلمان أواخر ستينيات القرن الماضى فى مدينة ود مدنى ووقع إختيار قيادة الحزب على واحد محسوب على الموسرين فى المدينة خاض الآخر غمار المعارك مغاضباً و منشداً:
إن الناس قد ذهبوا إلى من عنده الذهب
ومن لا يملك الذهب فعنه الناس قد ذهبوا
ولأن الذهب غال ونفيس كان التحقق من أصالته متفرداً فموازين إثبات ذلك عن سائر المعادن مختلفة جدا. فميزان الذهب هو الأدق فى ضبط الكم والكيف. لذلك كنوا عن كل قياس يرجون دقته بميزان الذهب حتى فى غير المعادن من شواغل الناس فى الحياة. وتكمن النجاحات فى كثير من الأشياء بمقدار ضبط المكونات بالدقة المتناهية التى تماثل موازين قياس الذهب . وتقوم الصناعات جميعاً على مثل هذا الضبط الدقيق للمكونات. والحياة الاجتماعية لا تخضع تماماً للاقيسة الدقيقة هذه لأن البشر ليسوا من المادة الصلبة الصماء وحدها . وقد فشلت محاولات بعض فلاسفة العلوم الاجتماعية المعاصرين فى إخضاع السلوك الاجتماعى لمواعين وأقيسة المادة الصلدة حتى تكون كلمة( علوم) مطابقة فى معناها لكلمة علوم الطبيعة الخاضعة للأقيسة والمعايير المادية. وعلى كثرة ما استحدثوا من الرسوم البيانية واستخدام علوم الاحصاء فإنهم لم يتمكنوا من سبر أغوار السلوك الانسانى الذى ينطوى على أبعاد تجل عن الحساب والقياس. لكن لا بأس بمحاكاة تلك الأقيسة ولو للوصول لنتائج تقريبية.
وفى هذا الصدد فقد استرعت انتباهى الضجة التى صاحبت تصريحات الرئيس الفرنسى ساركوزى وهو -وعلى غير ما جرت به العادة فى فرنسا العلمانية- يؤكد على مسيحية فرنسا. ولعل الذى أثار عليه اليسار والقوى الليبرالية الأخرى ليس تأكيد ما سعى الى تأكيده بل البوح بذلك وكأنهم كانوا يرجون منه التشرنق فى ضبابية الألفاظ والشعارات التى تزعم أن بلده تعد قلعة متعالية على الانتمآءات القديمة وأنها واحة للحداثة المطلقة . وكان سلفه جيسكار ديستان قد اعترف بعد أن ضيقوا عليه الخناق متسائلين عن انضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبى فأجاب: ” أن الاتحاد الأوروبى ناد مسيحى لا مكان لتركيا فيه”. وأكدت مستشارة ألمانيا قبل قليل ان على المسلمين فيها احترام ثقافتها المسيحية. وكان (بات بوكانن) أحد الناشطين ضمن اليمين التقليدى فى الولايات المتحدة قد وصف الثقافة السائدة هناك بانها جزء من الثقافة الأوروبية المسيحية.
والشاهد هنا أن قيم الحرية والديمقراطية وحكم القانون مكتسبات إنسانية تحققت بفعل الحراك والتضحيات الانسانية وهى قابلة بل لازمة التطبيق فى كل مكان فى العالم. لكن ينبغى التيقن بأنها تغرس غراساً فى مواعين الإرث الثقافى المتجذر فى كل مكان حرصاً على استدامتها فهى تتكىء على جملة الموروث الحضارى والثقافى للأمة دون تمييز أو افتئات على حقوق الكيانات والموروثات الصغيرة داخل الكيان الجامع لكل أمة حتى يقول الفرد منهم ” إنما تأسى على الحب النساء!”. المجتمعات الغربية تتمتع بقدر وافر من الحريات وحكم القانون ولا جدال فى ذلك البتة لكن ذلك لا يلغى موروثاتها الدينية الضاربة فى القدم. والنجاح الحق تعبر عنه هذه المزاوجة وقدرة الموروث على احتضان الجديد والتكيف معه. لقد أسال الباحثون فى الغرب الكثير من الحبر حول سرعة إنتشار الإسلام فى القارة الإفريقية وأرجعوا ذلك الى قدرة الدين الإسلامى على التكيف السريع مع السياق الثقافى فى إفريقيا. وقد عبر عن بعض ذلك القس جى. اسبنسر ترمينغهام فى كتابه عن “الاسلام فى السودان” بأن السودانيين قد قبلوا الاسلام بجماع قللوبهم لكنهم وبقدرتهم المتفردة على التمثل تحاشوا فلسفته اللاهوتية فتغنوا فيه ورقصوا فيه وبكوا وأدخلوا فيه عاداتهم وأعيادهم. يريد بذلك إنتشاره على نسق الطرق الصوفية . والفضل منسوب هنا الى تفرد السودانيين لكنه ينسحب بذات القدر على مرونة الاسلام وقابليته على التكيف.
ويبدو أن الغرب قد وصل الى معادلة تقبل تمازجاً يجمع بين الديمقراطية والاسلام عقب الثورات الشعبية الأخيرة فى المنطقة وفق ما أورده الكاتب (سكوت ويلسون) فى عدد الرابع من مارس الحالى 2011 فى يومية ( واشنطن بوست) منسوباً الى مسؤول كبير فى الآدارة الأمريكية فضل حجب هويته. قال ذلك المسؤول السامى” يجب ألا نخشى من الاسلام فى سياسات تلك البلدان. ان سلوك الأحزاب والحكومات هو ما سنعول عليه فى الحكم عليها وليس صلتها بالاسلام.”
ذلك يعنى أن اعتماد الديمقراطية والتداول السلمى على السلطة والابتعاد عن دعم الارهاب قد يشكل شروطاً لذلك القبول. ومبادىء الشورى والاجتهاد فى تأصيل مبادىء الحرية قد يشكل لبنات لذلك القبول. قال أحد العامة عندما حمل معاوية الناس قسراً على بيعة ابنه يزيد ليخلفه, بتلقائية فطرية تعاف التسلط معترضاً: ” تريدونها هِرقلية؟(نسبة الى هرقل ملك الروم) كلما مات هرقل قام هرقل؟!” فكأن الأصل الذى تأصل عنده أن يكون أمر الحكم شورى بين الناس.
والخلاصة أن موازين الذهب ربما أعانت وبدقة فى تحديد المكونات اللازمة من الحداثة وروح العصر وتلك المحددة لما يلزم من مكونات موروثاتنا الحضارية والثقافية لإقامة صروح النظم السياسية والاقتصادية التى لا تشكو لا غربة الزمان ولا غربه الوعاء الثقافى الحامل لمضامينها. ذلك يحقق التوازن اللازم للتماهى المحقق للرضاء والمحفز على المضى قدماً الى الأمام.