جان جاك روسو أشهر من نار على علم كما تقول العرب. ولد فى مدينة جنيف عام 1712 ومات فيها بعد عودته من باريس عام 1778 وهو أحد اقطاب الفلاسفة الذين أشعلت أفكارهم لهب الثورة الفرنسية التى غيرت مسار التأريخ وأحد أقوى المناصرين لقضية الديمقراطية فى ذلك الوقت فهو مؤلف ” العقد الاجتماعى” الذى تصور فيه العلاقة بين الحاكم والمحكوم على أنها علاقة تعاقدية بين طرفين.ذلك الِسفر القيم بالاضافة الى كتابه حول التعليم أو “اميل” قد جلبا سخط السلطات الفرنسية عليه وسخط معرضيه من الفلاسفة مما دفعه للهرب الى مدينته جنيف. ويعتبر كتابه “الإعترافات” أول كتاب فى السيرة الذاتية.
وقد استرعت إنتباهى بشكل خاص ترجمة الأستاذ عبد الله العروى- من المغرب- التى أودعها كتاباً من 133 صفحة بعنوان ” جان جاك روسو: دين الفطرة.” صدر عن المركز الثقافى العربى بالدار البيضاء للتو. والكتاب ترجمة من الفرنسية لنص جاء فى كتاب روسو “حول التعليم أو اميل” بعنوان ( عقيدة قس من جبال السافو) .وقد بسط فيه جان جاك روسو على لسان ذلك القس المتخيل, رؤاه حول الدين ودوره فى الحياة. وقبل أن نفصل فى ذلك نود الإشارة الى الفكرة المحورية فى فكر هذا الفيلسوف الضخم والتى تقول بإن الانسان خيّر بطبعه متناغم مع الطبيعة وأنه يفقد هذه الخيرية بواسطة ما يتلقاه من تعليم وتربية تقومان على تراكمات تاريخية معقدة فالانسان عنده كما يقول المترجم” سعيد بطبعه شقى بثقافته , نجاته فى نبذ الزخارف المكتسبة والعودة الى براءته الأولى.” ويتدرج فكر الرجل من نقد الثقافة السائدة فى كتابه (خطاب حول العلوم والفنون) مع المطالبة بهدمها ثم كتاب فى نقد السياسة هو (خطاب حول أصل التفاوت بين البشر) او قل اللامساواة. وهودعوة أيضاً لنبذ ذلك التفاوت ثم محاولة للبناء على تلك الأنقاض تمثلت فى كتابيه : (حول التعليم أو أميل) وهى محاولة لتأسيس ثقافة بسيطة متناغمة مع الطبيعة ثم عمله الكبير ( العقد الإجتماعى ) المؤسس للديمقراطية وفق العقد المبرم بين المجتمع والحاكم. والحديث عن الدين جاء فى الفصل الخامس من كتاب (أميل) وهو عبارة عن حوار بين قس وبين تلميذ اختار له اسم (أميل). وفى مرافعة القس التى ألقاها على سمع (أميل) التلميذ الذى لم يتجاوز الخامسة عشر يقول :
“يقال لنا إن الضمير وهم من الأوهام التى نتوارثها دون فحص. لكن تجربتى تثبت أن ضميرنا لا ينفك يطيع أوامر الطبيعة ويعاكس كل قوانين البشر. يلح المجتمع علي حظر هذا الفعل أو ذاك , لكن إن كان المحظور مما تبيحه حقاً الطبيعة, وأحرى إن كان مما توص به, فلا يوبخنا الضمير إلا توبيخاً خفيفاً.”
بعد ذلك صب القس جام غضبه على الفلاسفة وأتهمهم بالنرجسية. يقول إنه اتجه اليهم بحثاً عن حقيقة الكون وأنه راجع مؤلفاتهم فوجدهم جميعاً “معجبين بأنفسهم واثقين بنظرياتهم متشبثين بمزاعمهم حتى أولئك الذين يتظاهرون بالشك, عالمون بكل شىء عاجزون عن إثبات أى شىء, فيتندرون بعضهم من بعض. هذه النقطة الجامعة بينهم هى وحدها الصحيحة فى مقالاتهم.” لذلك نأى بعيداً عنهم يبحث عن الحقيقة: حقيقة الكون وأصل الحياة. يقول إنه لم تعد له فلسفة سوى حب الحقيقة فأختزل منهاجه فى قاعدة بسيطة سهلة أعفته كما يقول من كل جدال دقيق عقيم فأعاد النظر فى كل معارفه السابقة و خلص الى أن “ما أطمأن إليه قلبى من دون تردد اعتبرته حقيقة بديهية, وكل ما ترتب عن هذه الحقيقة حكمت بأنه صحيح مقرر . وغير ذلك وضعته بين منزلتين لا أقره ولا أنفيه, بل لا يعنينى توضيحه إن كان لا يؤدى إلى منفعة ثابتة.”
ولأن هذا المنهج المعرفى ينطلق من ذاتية مفرطة راح روسو يحاول اقناعنا بجدوى هذا المنهاج على النحو التالى:
” أنا كائن لدى حواس تؤثر فىّ , هذه أولى الحقائق التى يجب علىّ أن أقر بها. أعى نفسى (ترى) هل هو وعى منفصل أم متصل بالمحسوسات؟” يقر هنا بصعوبة الفصل بين الوعى المنفصل عن الذات وبين المتصل بالمحسوسات لأن الانسان معرض بإستمرار للمحسوسات الموجودة حوله فى ذات اللحظة وبين المحفوظة فى الذاكرة. ثم يصل الى نتيجة أن المحسوسات داخلية تشعره بأنه موجود لكن أسبابها خارجية تؤثر فيه رغماً عنه . وهكذا يصل إلى خلاصة: “إذن أنا موجود لكن غيرى موجود أيضاً, أعنى مضمون المحسوسات وحتى عندما تكون مجرد أفكار يبقى صحيحاً أنها ليست أفكارى أنا.وعليه فكل ما أشعر به خارجاً عن نفسى مؤثراً فيها , أسميه مادة. وكل مادة أراها مجسدة فى كائن قائم بذاته أسميه جسماً.” ويتدرج عبر هذا المنهج وصولاً الى الخالق الأعظم ويؤكد أنه قد صار مقتنعاً بوجود الكون اقتناعه بوجود ذاته يقول: ” بعد هذا أتأمل مضامين إحساسى فأرى أنى قادر على مقارنة بعضها ببعض. لكن ” الرؤية إحساس والمقارنة حكم. الإحساس والحكم شيئان مختلفان. عندما أحس تبدو لى الأشياء مفترقة معزولة بعضها عن بعض , كما توجد فى الطبيعة. عندما أقارن فكأنى أحرك الأشياء , أنقلها إن صح التعبير, أضع الشىء فوق الشىْ أقرر هل هما مختلفان أو متماثلان وبصورة أعم أحدد كل العلاقات التى تربط بينهما. قوة التمييز هذه الخاصة بالكائن الحى العاقل الفاعل تتلخص فى معنى للفظ هو أو هى.” لكنه يجد أن هذه القدرة لا تتوفر لدى الكائنات الأخرى.” ثم يخلص إلى أن الصفة الثابتة فى المادة هى السكون فهى لا تتحرك الا بمسبب خارجى. فالحركة فعل فلا بد لها من سبب , إذا ارتفع السبب حل السكون. “لذلك عندما أصادف جسماً متحركاً , أحكم على الفور بأنه إما أنه حى وإما أنه مدفوع بقوة خارجية عنه. عقلى يرفض رفضاً باتاً أن تكون المادة غير المنتظمة تتحرك من ذاتها أو تقوم باى فعل مهما يكن.” ويصل الى اليقين بالله تعالى هكذا:
” إن الكون المرئى كله مادة متناثرة جامدة لا يظهر على مجموعها تلك الوحدة, ذلك الانتظام ذلك الوعى المشترك الذى يربط بين أجزاء الجسم الحى. هذا الكون متحرك , حركاته متناسقة, متواترة خاضعة لقوانين قارة (أى ثابتة) فلا يملك إذن تلك الحرية ( العفوية) التى نشاهدها فى حركات الإنسان والحيوان بالتالى (فالكون) ليس حيواناً ضخماً يتحرك من ذاته فحركاته ناجمة إذن من عامل خارجى. لا أستطيع أن أراه لكنى مقتنع فى قرارة نفسى أنه موجود إلى حد أنى لا أكاد أرى الشمس تسير دون أن أتخيل قوة تدفعها أو الأرض تدور من دون أن أشعر أن يداً تدفعها.” ثم يقول إننا أهتدينا الى معرفة قوانين حركة الكون بالتأمل والاكتشاف ” لكن تلك القوانين تدلنا على النتائج لا على الأسباب”. ويقول إن مقالة ديكارت الأولى بالاتفاق والصدفة فى نشؤ الكون لم تصمد أمام العقل فافترض ديكارت حركة دورانية تمثل “دفعة أولى وقوة طاردة .” ويقول إن أكتشاف نيوتن لقانون الجاذبية وحده لا يفسر كثيرا حقيقة إنتظام حركة الكواكب فى الكون إذ أن ذلك القانون لو كان يعمل مستقلاً عن إرادة عاقلة مدبرة لتحول الكون بعد حين الى جرم جامد. ويقول فى تحد “ليطلعنا إذن نيوتن على اليد التى رمت الكواكب على رؤوس مدرارتها ؟” لا تخرج عنها أبداً إذن لفنى الكون بأسره. ويستطرد بمنطق قوى حول وجود الارادة العاقلة بالقول: ” كيف تؤثر الإرادة فى المادة؟ هذا سر لا أدركه لولا أنى أعرف بالتجربة أنه يحصل: أريد أن أعمل , أعمل. أريد أن أحرك جسمى,يتحرك أما أن يتحرك جسم جامد أو يحرك جسماً آخر فهذا أمر غير مفهوم البتة ولا شاهد عليه.”
,اختم المقالة بهذا الاقتباس:
” إن كانت حركة المادة تدل على وجود إرادة, فإن المادة المتحركة حسب قوانين ثابتة تدل على عقل. هذا هو الركن الثانى فى عقيدتى . الفعل , المقارنة, الإختيار هذا ما لايقوم به إلا كائن فاعل عاقل. ذلك الكائن موجود إذن. تسألنى أين ترى وجوده؟ أرى وجوده فى السماوت حين تجرى وفى الكوكب حين ينير كما أراه فى نفسى, بل فى الغنم التى ترعى وفى الطير وهو يحلق فى السماء وفى أوراق الشجر حين تتقاذفها الرياح.”
الدين فى فلسفة جان جاك روسو ..
0