قلت: لو اشتعل حريق فى عمارة سكنية ضخمة متعددة المساكن تقطنها عائلات من مشارب شتى لا يربط بينها من رباط سوى السكنى فى هذه العمارة الضخمة لسارعوا فى لهاث يستنجدون بمصلحة الدفاع المدنى لإطفاء الحريق حفاظاً على أرواحهم وممتلكاتهم ولما التفتوا والنار تستعر فى جزء من العمارة إلى البحث عن سبب الحريق أوعن المتسبب فيه لأنهم لو فعلوا لأضاعوا وقتاً ثميناً على أنفسهم تستثمره ألسنة اللهب فى مزيد من إلحاق الضرر بهم. ولو وقع ذات الحريق فى أحد( حيشاننا) الكبيرة فى أبى روف أو فى أحيائنا الفقيرة فى السجانة والديوم أو فى قرانا النائية حيث المساكن المصنوعة من حشائش النال لكان الفزع بين الناس أعظم حيث روابط القربى والدم تحتم جهداً أكبر منهم فى التغلب على النار. وهنا تتضافر غريزة حب البقاء التى تشاركنا فيها كل المخلوقات الحية مع نداء العقل الذى كرمنا الخالق به لدفع الأذى للحفاظ على الحياة والنوع ومستلزمات العيش الكريم لها.ولك أن تستدعى من ذاكرتك ما تحفظ من الأقوال المأثورة والأشعار والحكم المقدسة وسواها مما خبره الناس عن طريق التجربة والمران لتاييد ما ذهبنا إليه.
ولقد عكفت خلال الأشهر الماضيات على قراءة أعمدة صحفنا جميعاً بقطع النظر عن إنتماءات كتابها وعلى ما حوت صفحات الرأىفيها و غشيت المنتديات المختلفة أنصت لأحاديث الناس من كافة المستويات ولم أغفل أحاديث الساسة من حكام ومعارضين فوجدت إجماعاً قد انعقد بأن البلاد تمر بأزمة تتمثل فى تحديات إقتصادية بسبب خروج مداخيل النفط من الآبار التى آلت للجنوب بعد الأنفصال وتحديات أمنية تتتمثل فى الحرب التى تشنها الحركة الشعبية قطاع الشمال فى جبال النوبة وجنوب ولاية النيل الأزرق وتهديدات بحرب شاملة ينضم إليها مسلحو دارفور هذا بالإضافة إلى حرب باردة بين الشمال والجنوب يخشى أن تتحول الى حرب حقيقية ضروس. ومثل هذا الإجماع يستدعى كما الحريق الذى أشرنا إليه آنفاً سعياً من الجميع لتلافيه ومحاصرة بؤره قبل أن يستفحل فيأتى على وجود البلاد نفسها. وكما ذكرنا فى مقالة سابقة فإن مثل هذا الظرف يستدعى قدراً عالياً من التجرد والمسؤولية الوطنية وإطراح المرارات جانباً وتصويب الهدف بدقة للحفاظ على كيان الدولة ومؤسساتها والبحث الحثيث عن الوسائل الناجعة للخروج من الأزمة وبأعجل ما يمكن. إن الأخطار المحدقة بالبلاد لا تحتمل أوقاتاً إضافية للتلاوم وتحديد المتسبب فى الحريق. إن إرث البلاد من التجارب الفاشلة منذ الإستقلال هو الذى أفضى بنا الى ما نحن فيه من حال: البحث عن الحلول السهلة التى تطيل أمد الحكم دون الالتفات إلى عواقبها الكارثية على البلاد وانعدام الشفافية وغياب ديمقراطية حقيقية يحكمها القانون وحده وإنتهاء مصائر البلاد فى كل حقبة الى أفراد متنفذين تدفع فاتورة أخطائهم أجيال متعاقبة من الناس. ولو كان الأوان يتسع لتحديد مسؤولية ما نحن فيه لوجب أن نبدأ بذلك وذلك عين ما يحث بالفعل فى بلاد اشتد عودها وقويت مؤسساتها فهى عصية على الهزات. ولقد خبرنا ديقراطيات راسخة فى أوروبا تتعاقب فيها الحكومات كل أشهر معدودات مثل إيطاليا فى عقود السبعينات والثمانينات دون أن ينال ذلك من قوة الدولة وانتظام الحياة فى مؤسساتها. هذا فضلاً عن أن إعطاء الأولية بحثاً عن المتسببين عن ما تعانى منه البلاد من أخطار يسمم أجواء الحوار المنشود لتجاوز الأزمة ويجعل الأمر تنابزاً بين الحكومة والمعارضة يطيل أمد الأزمة وفى غضون ذلك تكسب الأزمة أراض جديدة وتتسع دائرة الحرائق بما يقوض القدرة على إطفائها. أحسب أن الأمر الملح الآن هو أن نجلس جميعا للإتفاق على طريقة مثلى تخرج البلاد من عنق الزجاجة وذلك يتطلب أن تعترف الحكومة بوجود أزمة وأن المساهمة فى تحديد أبعادها ومن بعد السعى لحلها هو مسؤولية كافة أبناء الوطن سواء كانوا معارضين أو موالين. والخير كل الخير أن يتحملوا مسؤولياتهم فى تجنيب البلاد مخاطر الضياع والحفاظ على مستقبل ذراريهم وأحفادهم من الأجيال القادمة . وعلى المعارضة أن تعى أن التاريخ شاهد يسجل فعل كل منا فى هذا الظرف الدقيق . عليها أن تطرح رؤى واقعية قابلة للتطبيق فى شأن الإصلاح السياسى والإقتصادى والأمنى فإنها إن فعلت ذلك بتجرد وخلوص نية تكون قد أعذرت وأوفت بحق الوطن عليها لا يضيرها بعد ذلك قبول الحكومة أو رفضها.وذلك ايضاً هو واجب المثقفين أفراداً وجماعات ممن لا يسعهم حزب أو تضمهم جماعة.
وعليه وفى خضم المذكرات التى تتطاير فى كل إتجاه أرى أن المذكرة الأهم هى التى يرفعها الشعب كله بلسان الحال للنخب الحاكمة والمعارضة من الزعامات والأفراد- وهى مرفوعة بالفعل يدل على رفعها مجمل الحال الذى نحن فيه اليوم- بأن هلموا معاً للبحث عن مخرج يحفظ الوطن بعيداً عن سفك الدماء ذلك لأن الإحتقان الحالى, شأنه شأن كل إنسداد سياسى, إن تطاول أمده سيفضى إلى حلول عنيفة وشأن الحلول العنيفة أن تجعل أوضاع البلاد إستثنائية يكون الحفاظ على الأمن فيها هو الأولية القصوى للحفاظ على الأرواح والممتلكات عبر عن ذلك واقع الحال أو تذرع به من آلت إليه الأمور لينفرد بالسلطة. وعليه تصبح مسؤولية المؤمنين بالديموقراطية الداعين لها وللحكم المدنى الذى يحرسه القانون أكبر فى هذا المنعطف الدقيق من تأريخ البلاد لأن الحلول العسكرية وإنتشار الجماعات المسلحة يجعل الإنتقال السلس بالبلاد عبر إتفاق الفرقاء إلى ديمقراطية حقيقية تقوم على التداول السلمى للسلطة أمراً بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً وتندرج فى خانة التناقض العقيم الدعوة إلى الديقراطية وتاييد العنف المسلح لرفع المظالم ومعالجة إختلالات التنمية فى ذات الوقت . إن مذكرة الشعب السودانى للفرقاء المعبر عنها بلسان الحال هى دعوة أولئك جميعاً من باب سداد الدين للوطن والحفاظ عليه لنا ولأحفادنا, هى محاصرة الجهويات والعرقيات والأيدولوجيات فى مسعى حثيث لإقامة حكم ديقراطى مدنى يقوم على المواطنة والتداول السلمى على السلطة و القسمة العادلة للسلطة والثروة بين المركز والأطراف. ويتطلب ذلك الرفض التام للمعالجات العنيفة المسلحة ودعوة الجميع إلى طاولات التفاوض. ماذا لو إبتدرت مراكز مستقلة أو جامعات مثل هذه الحوارات؟ وماذا لوسعت الصحف لعقد ندوات رصينة موضوعية لتحقيق هذا المسعى النبيل؟ وهذا مضمّن فى واجباتها المرصودة فى المذكرة الأهم المرفوعة من كل الناس بلسان الحال إن لم يكن بلسان المقال!
المذكرة الأهم!
0