صدر عن دار الساقى عام 1997 آتاب من 74 صفحة للاستاذ سامى زبيدة بعنوان ” انثروبولوجيات الاسلام: مناقشة ونقد لأفكار ارنست غلنر” ( وقد اخترت آتابة اسم الرجل بالقاف آما ينطق وآما أفعل فى آلمة آونقرس فتلك قاف الجاحظ فى آلمة “قال” آما تنطق فىالسودان والحجاز وصعيد مصر.) والكتاب على صغر حجمه بالغ الأهمية لما حوى من أفكار الأستاذ الجامعى البريطانى وعالم الاجتماع والأنثروبولوجيا المعروف ارنست قلنر المدرس فى جامعة آمبردج , ولما حوى أيضا من استدراآات الأستاذ سامى زبيدة على تلك الأفكار. ويمتدح المؤلف المام الأستاذ قلنربالمجتمعات الاسلامية واصفا اياه بأنه ” فيلسوف ومنظر اجتماعى وأنثروبولوجى معروف له الفضل فى اجراء دراسات ميدانية فى المغرب. ويكتب عن المجتمعات .( الاسلامية على خلفية واسعة من المراجع الفلسفية والنظرية والعبر-تأريخية ” (ص 5).
والفكرة المحورية التى يستند عليها طرح الدآتور قلنر تقوم على ديالكتيك ابن خلدون فى الصراع بين المدينة والقبيلة . “فالسلالة الحاآمة فى المدينة ذات أصل قبلى ولكنها تمدنت وتحضرت. والقوى القبلية خارج المدينة قوى مسلحة ومقاتلة وهى لاتخضع لسلطة السلالة الحاآمة الا بقدر ما تكون هذه الأخيرة قوية بما فيه الكفاية لاخماد القبائل أو ثرية بما فيه الكفاية لشرائها. ” ويرى وفقا لفلسفة ابن خلدون أن سلطان الدولة على القبيلة يكون اسميا فى معظم الأحيان وأن أسباب انهيار السلالة الحاآمة يكمن فى طبيعة التمدن حيث يتسع تمددها ( أى أفراد السلالة الحاآمة ) فى المدينة لضروب شتى من النشاط الاقتصادى ودخول أفراد عشيرتها فى تحالفات سرعان ما تتناقض بتناقض المصالح . يقول:
” وتنشأ لدى فروع قرابتهم مصالح فئوية ومزاحمة على الثروة والسلطة تقوض تضامنهم وتؤدى آلفة حاشيتهم المتسعة وانفاقهم الترفى الى تشديد عبء الضرائب على آاهل سكان المدن واستيائهم المتزايد ويشجع ضعف الحكام المتنامى سلالات قبلية طامعة لديها شهوة فى المدينة على تجريد .( حملات عسكرية تطيح الحكام فى النهاية وتحل محلهم لتكر الدورة من جديد.” ( ص 10 وترد معظم أفكار ارنست قلنر التى جعلها الأستاذ سامى زبيدة مادة لكتابه فى آتاب للاول صدر عام Muslim Society ” 1983 بعنوان ” المجتمع المسلم وبدرجة أقل فى آتاب له بعنوان
” Postmodernism, Reason and Religion ما بعد الحداثة ,العقل والدين ” صدر عام 1992 وضمن تحالفات الحكام والقبيلة هناك العلماء الذين بحكم انتمائهم الى المدينة يندرجون فى سياق الزمرة المحسوبة على الحكام وأنهم يمثلون الغطاء الشرعى للحكم لعلمهم بالشريعة وتعاليم الدين رغم آونهم يمثلون فى ذات الوقت جماعة ضغط قوية على الحكام بالطعن أو التشكيك فى مطابقة القرارات والقوانين للشرع. ويرى قلنر أنهم يمثلون الدين فى أصوله الشرعية المعروفة وبالتالى فهم يجعلون من الدين فى المدينة عامل مساعد للحداثة والتطور بينما نجد فى المقابل أن الدين الذى يسود لدى القبيلة دين تغلب عليه الصوفية والخرافة والسحر ويمثل العامل المناؤى للحداثة والتقدم. ويذهب قلنر أبعد من ذلك الى القول بأن اختفاء القبيلة آمناؤى للمدينة فى العصر الحاضر قد أدى لانتصار العامل المساعد لدخول المجتمعات الاسلامية المعاصرة الى عالم الحداثة وأن الدين فى المدينة المبرأ من السحر والخرافة فى المجتمعات الاسلامية شبيه بالبروتستانية فى المجتمعات الغربية التى أدت الى انتصار الحداثة والتصنيع هناك. ويحلو للغربيين دوما القول ان المذهب البروتستانتى ساهم فى النهضة المعاصرة وأدى الى تطور الاقتصاد الرأسمالى والى طفرة نهضوية حيث ساد مقارنة بحال الأقطار الغربية التى يسود فيها المذهب الكاثوليكى حيث ظلت دوما دون تلك صناعة ورخاء ربما باستثناء فرنسا. (فكأن الاسلام السنى السائد فى المدينة يماثل المذهب البروتستانتى بينما يماثل الدين الشعبى الصوفى السائد فى القرية والقبيلة المذهب الكاثوليكى.) وبهذا الفهم فان قلنر لا يرى فى جماعات الاسلام السياسى خطرا على المدنية المعاصرة بل على العكس من ذلك يراها مفتاحا للحداثة والتقدم فى المجتمعات الاسلامية . يقول : ” ففى الاسلام يكون الدين المدينى القائم هو النصى ( القائم على النص) , الطهرانى (من التطهر الروحانى ربما) الذى يرفض السحر والمراسم, ووساطة القديس الشخصية, والجماعات القبلية المحيطة ( بالمدن) هى التى تمارس هذه العناصر الأخيرة ( أى السحر والمراسم). آما أن النمط الأوروبى ينمى العلمنة النهائية التى تقترن بعمليات التصنيع والحداثة فيما تكون الحالة الاسلامية نقيضها : لا تقاوم العلمنة فحسب , بل تسعى الى الحداثة من خلال الدين.” صفحة 13 . و الأهلة هنا من عندنا. ويقول أيضا فى آتابه ” ما بعد الحداثة , العقل (22 ) :” ان الاسلام بخلاف الأديان العالمية الأخرى, أثبت مقاومته للعلمانية -5 , والدين” (قلنر 1992. ثم يمضى ليبين سبب ذلك فالأسس الاجتماعية لثقافة القبائل (الثقافة الدنيا) تقوضت مع تمرآز سلطة الدولة والتمدن وعمليات الحداثة المقترنة بهما.ويتماهى المتمدنون حديثا, البرجوازية الجديدة, مع (الاسلام الأعلى) للعلماء والسنة. وهذا دليل حراك اجتماعى الى أعلى ودليل ثقافة وعلم. ويجادل قلنر ان الاسلام قام بدور شبيه الى حد بعيد بدور القومية فى بقاع أخرى فقد وفر مرآزا رمزيا لهوية الذات القومية بتجاوز هويات وممارسات الثقافات القبلية والمحلية والريفية البائدة آما أنه وفر الأيدولوجيا والقيادة للنضال ضد الاستعمار.”ويستطرد قلنر فيما يرويه عنه سامى زبيدة فى صفحة 52 بأن الاسلام فى اطار المقارنة مع مناطق حضارية أخرى قد حل معضلة المأزق الأنموذجى الذى يواجه القوميون ازاء تفوق الغرب : هو ما اذا آان ينبغى أن يتخلوا عن تقاليدهم القومية ومحاآاة
النماذج الغربية من أجل التقدم على صعيدى القوة والثروة. والتخلى عن تقاليدهم موجع ومهين. ويشير الى روسيا آمثال بمناظرة القرن التاسع عشر بين أنصار الغربنة وأنصار العرق السلافى. أما
القوميون المسلمون فبمنأى عن هذا المأزق لأنهم يستطيعون أن ينفضوا بسعادة ترآة تخلفهم بمماهاتها مع الاسلام الشعبى/ العامى, والاصرار على اسلام الرسول الأصلى النقى.” أى بانتمائهم
الى الدين المدينى لا دين القرية الشعبى العامى المشوب بالأساطير والمعوق للحداثة. ورغم أن سامى زبيدة يمتدح هذا التحليل باعتبار ان له فضيلة ليبرالية ” هى مكافحة التصورات المعادية (أى الغربية الأخرى ) وذات التمحور الاثنى عن الاسلام بوصفه ظلامية قروسطية .” الا أنه يرى فيه استمرارا لنظرة الاستشراق التى تنطلق دائما من أن عالم الاسلام عالم مختلف عن العالم الغربى تحكمه ظروف تأريخية لا تتغير. وهذا الاستدراك يستبطن رؤية من الأستاذ سامى زبيدة ترى أن المجتمعات الانسانية تتطور وفق سنن اجتماعية واحدة تلعب الخصائص الثقافية والجغرافية دورا محدودا فى تعديلها لا يصعب التعرف عليه. هذا رغم أنه أثبت أن قلنر وباتريشا آرون يحيدان عن خط الاستشراق التقليدى ويريان أن المجتمع الاسلامى يتميز بدولة ضعيفة مهددة من قبل القبائل المحيطة ومكبلة بالمضمار الذى يحدده العلماء فى المدينة بينما يتميز ذات المجتمع الاسلامى بثقافة بالغة القوة والتأثير وهذا يناقض مواقف الاستشراق التقليدية التى ترى فىالمجتمعات الاسلامية مجتمعات مقهورة لا حول لها ولا قوة بسلطة ديكتاتورية متسلطة تحول دون تطورها.
أولى استدراآات سامى زبيدة على ارنست قلنر تنصب بصورة أساسية على اعتماد قلنر على الدياليكتيك الخلدونى الذى يجعل القبيلة نقيضة الحكم فى المدينة على اعتبار أن توصيف ابن خلدون توصيف متأثر بالزمان والمكان فالرجل عاش عصر انحطاط وصراعات بين السلالات المتصارعة على الحكم فى مكان بعينه هو منطقة الشمال الافريقى والمغرب العربى وهو نفسه آان طرفا فى تلك الصراعات تدفعه مطامح شخصية ورغبة فى المناصب والسلطة. لذلك فان تعميم أحكامه على مجمل التأريخ الاسلامى وجعلها عمدة لتفسير ماض ومستقبل المسلمين يعد تعميما مخلا ومبتسرا رغم أنه قد يشد القارىء الغربى بتبسيط ما هو معقد و ” يتيح للقارىء أن يسيطر على الموضوع سيطرة مفهومية واضحة.” ( ص 5). أى بتحكم شكلى باغفال العوامل الأخرى بغية الوصول الى نتيجة معينة.
هذا فضلا عن آون التوصيف الخلدونى القائم على جدلية صراع المدينة والقبيلة يعجز عن تفسير فترة طويلة من عمر المجتمع الاسلامى هى قرابة خمسمائة عام منذ العام 1500 وحتى العقد الثانى من القرن العشرين هى عمر الخلافة العثمانية التى اختفى فيها الصراع التقليدى بين المدينة والقبيلة حيث تخلص العثمانيون من خطر القبائل والعلماء معا بمجندين من أبناء المسيحيين فيما يعرف بنظام الدفشرمة فى البداية ثم نظام الانكشارية من أبناء المسلمين للحفاظ على السلطة وانتهت جدلية الصراع بين المدينة والقبيلة التى فسر بها قلنر جل التاريخ الاسلامى باعتبارها سمة ملازمة لم تنفك عنها المجتمعات الاسلامية الا حديثا باختفاء القبيلة.
ثانى أهم استدراآات سامى زبيدة على قلنر هو أن النموذج الخلدونى لاينطبق على المجتمعات الشيعية فقلنر يرى أن خطباء الثوار من القبائل يكونون من مناصرى السنة الذين يبررون الخروج على الحاآم بانتهاآاته للشرع فى قواعده النصية. يقول سامى زبيدة أن خطباء المذهب الاسماعيلى الذين انتصروا للدولة الفاطمية لم يكونوا من أهل السنة بطبيعة الحال آما أن قواد الثورة فى ايران لم يكونوا آذلك. وأن مثال نهوض الشيخ محمدبن عبدالوهاب الحنبلى نصيرا للدولة السعودية لا يعمم فثورة المهدى فى السودان آانت ثورة قادها شيخ صوفى. يشير أيضا الى أن المقابلة والتباين بين العلماء والصوفية فى آتاب قلنر ليس دقيقا فقلنر يرى أن العلماء الرقباء للحكم فى المدينة يقابلهم المتصوفة وأهل الشعوذات الذين يناصرون المعارضين فى القبائل المحيطة والمتربصة بالمدن ويدلل
بالشواهد على تداخل آبير بين المجموعتين مستشهدا بأسماء علماء آبار من أهل الشرع آانوا فى ذات الوقت من أهل التصوف.
وخلاصة استدراآات سامى زبيدة على قلنر أن ” المجتمع الاسلامى” فى الحقيقة مجتمعات زاخرة بالتنوع الذى يستدعى مزيدا من الجهد فىسبر أغوارها وأن منهج ارنست قلنر رغم تفرده وتحرره من علل الاستشراق المتحاملة ورغم اقراره بأن رسوخ القيم الدينية فى مجتمعات المسلمين المعاصرة لايحول بينها وبين الحداثة والتقدم بل قد يكون هو سبيلها اليه, الا أنه لم يسلم من علة الاصرار على تفرد الغرب وقدرته وحده على الابداع ( فى مقابل حضارات الصين والهند والاسلام) ومثل هذا الزعم فى حد ذاته يكفى للايحاء بوجود علل فى تلك المجتمعات تقعد بها عن انتاج الحضارة مما يفتح المجال للخوض فيما هية تلك العلل هل هى عرقية أم ثقافية أم غير ذلك عوضا عن الاقرار بأن الحضارة الغربية المعاصرة ليست نتيجة تفوق عرقى أو ثقافى وانما هى الحلقة
المعاصرة فى سلسلة التجارب الانسانية التى أسهمت فيها حضارات الصين والهند وفارس وبلاد الرافدين وحوض النيل والاسلام.
ولعلنا نعود فى مقتبل الأيام لاستعراض رؤى ارنست قلنر بشىء من التفصيل ان شاء الله.
استدراكات سامى زبيدة على ارنست قلنر بشأن انثروبولوجيات الاسلام
0