كتبت هذه المقالة قبل أعوام خلت والناس يعانون الواناً من الإحباط جراء حادثات مؤسفةوقعت يومئذ هزت إن لم تكن قد بددت الثقة فى سلام موعود ياتى بالطمأنينة وينهى مسلسلات العنف ويفتح نافذة لمستقبل أفضل . وقد رميت بكتابة المقالة وقتذاك إلى بعث الأمل فى النفوس مستنهضاً الهمم فى الصمود والمقاومة وعدم الإستسلام لليأس مستشهداً بشعوب مرت بحقب من صنوف القنوط وفقدان الأمل شفيت منها لاحقاً وانطلقت فى مضمار التقدم والسلام والرفاه. واليوم أرى فى عيون الناس ذات الحزن القديم وذات الإحباط وأكثر: مخاوف من غد مجهول تتسارع خطاه قرباًوتلوح فى الآفاق شاراته البئيسة, فرأيت التذكير بمحتوي ما جاء فى تلكم المقالة بأن اليأس يعنى الإنتحار وأنه ما من سبيل لإستدامة الحياة وصناعة المستقبل إلا عبر التشبث بالأمل والسعى إلى تحقيق الغايات بالمقاومة والتغلب على الصعاب:
” ترتعد فرائص المدينة من وطأة الألم.و ان الألم ليملأ الشوارع والأزقة , انه يتكدس فى غرف المعيشة أيضا.و ان الناس يعانون من الجوع والموت والوحدة وعدم المساواة. و المؤسسات الحضرية يهتز بنيانها من القواعد و نسبة الجريمة فى الشارع العام قد بلغت حدا خطيرا رغم جهود الشرطة فى السيطرة عليها. ان الجامعات تغلق أبوابها بسبب الاضرابات والعنف رغم الاصلاحات التى تطول أوضاعها. و الطلاب والأساتذة على السواء غدوا يهجرون الجامعات فى المدن الكبرى بسبب الاحباط والخوف. وهناك الأحياء الأكثر فقرا(القيتو) تموج بالعنف والحرائق بينما تتدفق الى داخلها أموال طائلة. و برامج الرعاية الاجتماعية تتعرض للهجوم من قبل أولئك الذين يفترض أنها أنشئت لمساعدتهم.
ان احساسنا بأننا نشكل نسيجا اجتماعيا واحدا قد تبدد. ان هذه الصرخة الحرى تسمع من كل ركن فى بلادنا لتحكى واقعنا على حقيقته وهو موت الوحدة الثقافية التى تربطنا كمجتمع واحد والتى كنا نشعر بها ونحسها.”
” ان الأقليات تشير بأصبع الاتهام الى أن التفرقة قد غدت جزءا لا يتجزأ من نسيج حياتنا و انها تطالب بمزيد من الأنصبة فى الثروات وبفرص متساوية حقيقة لا ادعاء بل يذهب البعض منهم الى المطالبة باقامة كيان خاص لهم منفصل يقوم على أسس ثقافية مختلفة. وفى المقابل فان سكان الضاحيات (الراقية) وآخرين من الطبقة الوسطى قد أعلنوا ولاءهم للقيم التقليدية ونادوابمزيد من سلطة القانون والنظام للحفاظ على الطمأنينة التى كانت سائدة بالأمس.”
هذه ليست افتتاحية لأحدى صحف الخرطوم اليومية بعد الأحداث المؤسفة التى نتجت عن احتكاكات بين الشرطة وعناصر منسوبة للحركة الشعبية خلال النصف الثان لشهر نوفمبر 2006, كما يتبادر لذهن القارىء للوهلة الأولى, لكنها فى حقيقة الأمر ترجمة لنص من كتاب أمريكى صدر عام 1970
يصف حالة الحواضر الكبرى فى الولايات المتحدة فى أعقاب ثورة الشباب فى ستينيات القرن الماضى على جملة موروثات الكبار من التفرقة العرقية والتفاوت الطبقى والحرب الجهنمية فى فيتنام.وقد حذفنا من النص عمدا كلمة (أمريكية) حتى نسترع انتباه القارىء للظروف المتشابهة التى تعيشها العاصمة الخرطوم هذه الأيام وتلك التى عاشتها كبريات المدن الأمريكية قبل نحو أربعين عاما خلت فى منعطف هام من المنعطفات التأريخية للأمة الأمريكية. ويعالج الكتاب اشكالية ثقافة فرعية ضمن منظومة الثقافات الفرعية هناك وهى ثقافة مدمنى الخمر الذين فقدوا الأسرة والمأوى هائمين على وجوههم حيثما اتفق هربا من الشرطة والقانون وقد اطلق عليهم الكاتب الأنثربولوجى جيمس سبرادلى مصطلح ” بدو البندر” فى كتاب يحمل عنوان أوغل فى الجدة والطرافة : ” أنت مدين لنفسك بمخمور”
You Owe Yourself A Drunkأو “أنت مدين لنفسك بمدمن شراب” وليس مجرد مخمور لأن أى انسان قد يصبح مخمورا لمرة واحدة أو لمرات والكتاب يتحدث تحديدا عن المدمنين الذين طلقوا كل شىء , الأهل والأسر والأصدقاء من أجل قنينة الشراب.وتبين للكاتب من خلال تقنيات علم “أنثربولوجيا الحضر” أن جملة القوانين والنظم الشرطية الموضوعة للتعامل مع هذه الفئة من الناس تكرس استمرارية هذه الفئة وليس تجفيف منابع الظروف التى تؤدى لظهورها لأن القوانين تعول فقط على حبس المخالفين للنظام بالسكر العام والتسكع واتخاذ الحدائق والميادين العامة أماكن للسكن. ولأن الذين يتعرضون للحبس هم المعدمون الذين لا يملكون مبلغ عشرين دولارا ككفالة مالية لتفادى الحبس والمجىء فقط للمحاكمة فان مدد حبسهم تطول فتتوطد الصلات بينهم فيكونون ثقافة فرعية. وأول ما يفعله الخارج من السجن هو البحث عن مدمن مثله يحس معه بالانتماء فى غياب الأهل والأصدقاء الذين تركوه بسبب الادمان فلم يعد عضوا فى مجتمع الأسوياء. ومن هنا جاء اسم الكتاب : ” أنت مدين لنفسك بمدمن شراب” !! ويقترح الكتاب طرقا يراها مثلى للتعامل مع هذه الفئة من الناس.
وعلى كل دعونا من الكتاب الأمريكى وقضية مدمنى الشراب مع الشرطة والقانون هناك فتلكم ليست الغاية من كتابة هذه المقالة وانما ساقنا الى ذلك سوقا مقدمته التى حملت تشابها بين مشاعر الناس فى كبريات مدن الولايات المتحدة آنذاك وبين مشاعر الاحباط واليأس التى أصابت الناس فى العاصمة الخرطوم بعد تواتر وتكرار أعمال العنف فيها الشهر المنصرم.
ونحسب أن اتفاقية السلام الشامل المبرمة بين الشمال والجنوب والتى رمت لوقف الحرب الأهلية والسعى للحفاظ على وحدة شطرى القطر استنادا الى مبدا قسمة السلطة والثروة وفقا لنسبة السكان, تعد أهم تطور فى تاريخنا بعد الاستقلال حيث أنها المرة الأولى التى يصل حد التجريب فيها حد قبول أن يتحول السودان من دولة موحدة الى دولتين. وقد أصبحت الاتفاقية أنموذجا لمعالجة مشكلات الشرق والغرب ولعلها تصبح أيضا أنموذجا لحل مشكلات مماثلة تعانى منها افريقيا وبقاع أخرى فى منظومة الدول النامية.
ان هذا التطور يشبه الزلزال الذى عادة ما تعقبه ارتدادات هنا وهناك . وفى مثل هذه الزلازل الآدمية تنبه الارتدادات الى مواطن الزلل المحتمل بغية أن ينتبه الناس الى معالجتها والعمل على تفادى استفحال الخلل عندها حتى لا يأتى بنتائج كارثية تأتى على الأخضر واليابس. وهى بهذه الصفة (الارتدادات) ذات فوائد جمة ولا ريب فهى بمثابة المصابيح الصغيرة الحمراء فى الماكينات والآليات تنبه الفنيين والذين يعهد اليهم تشغيلها الى المخاطر المحتملة كنقص الزيوت وتآكل أسلاك التوصيل الدقيقة أو زيادة الحرارة فوق المعدلات المطلوبة وما الى ذلك من المحاذير. والانفلاتات الأمنية ليست شأنا صغيرا ولا عارضا رغم كونها مما لايستبعد حدوثه بعد تطور هام ومفصلى كالتوصل لمثل هذا الاتفاق التأريخى وتواتر حدوثها لن تغنى فيه عبارات التهدئة والتهوين فالقبول بحق تقرير المصير لجنوب السودان قد تضمن ما يشبه الاجماع بين القوى السياسية المختلفة بأن الانفصال يعد فى نهاية المطاف أفضل من استمرار الحرب وازهاق الأرواح فى أتونها. لكننا نعود مجددا لحال المدن الأمريكية الكبرى والموصوف آنفا ابان ثورة الشباب الأمريكى فى ستينيات القرن المنصرم. نشير ابتداء الى أن تلك الثورة تعد من المحطات الهامة والايجابية فى التاريخ الأمريكى رغم ما صاحبها من افرازات سالبة تمثلت فى تجاوز المحظور فى العلاقات الجنسية الى الاباحية والتهتك فيما عرف بالثورة الجنسية وظهور جماعات الهيبز و مثيلاتها. كل ذلك كان بمثابة غضبة مضرية على موروثات الكبار جميعا ودون استثناءوذاك دوما شأن الثورات فهى تندفع مثل السيول تجرف كل ما يعترض طريقها الا ما كان أصله ثابتا وفرعه فى السماء كمحورية الأسرة فى الحياة الانسانية كلازمة لاستمرار النوع الانسانى. لكن الثورة انتصرت على الميز العنصرى فأقر الكونقرس قانون الحقوق المدنية وأنهى الرئيس نيكسون الحرب على فيتنام. وشهدت ذات الحقبة , حقبة الستينات اغتيالات لرموز فى التأريخ الأمريكى الحديث : الرئيس جون كنيدى وشقيقه بوب كنيدى وداعية الحقوق المدنية الدكتور مارتن لوثر كنج والقيادى الفذ مالكولم اكس. والخلاصة أن أمريكا تجاوزت تلك الهزة والحياة فيها أفضل حالا عما كانت عليه بالنسبة للأقليات وأصحاب الشكايات وللمجتمع الأمريكى برمته.
والمغزى من ذكر ما تقدم أن روح التشاؤم التى أعقبت تفلتات نوفمبر الأمنية يلزم تجاوزها وبالسرعة المطلوبة الى ساحات أرحب للتفاؤل والأمل مصحوبة بعزم أرسخ لانفاذ الاتفاق ولجعله قنطرة عبور يتجاوز بها السودان حقب الشقاق والتفرقة والتفاوت فى الحظوظ والأنصبة الى ساحات الوحدة والتنمية والتداول السلمى على السلطة.لذلك فأنت عزيزى القارىء مدين لنفسك بفسحة أمل تبدد ظلمات اليأس والتشاؤم والخوف من المستقبل فالمستقبل ينبغى أن نصنعه أنت وأنا بالعزيمة والتصميم على قواعد متينة من السلام والعدل والحب والرغبة فى الحياة.