وراء فاس خلق كثير

(كتبت المقالة بعد زيارة لمدينة فاس القديمة بالمملكة المغربية في تسعينيات القرن العشرين)

يقول أهلنا في السودان كناية عن البعد السحيق، (فاس الما وراها ناس) فلعلهم حسبوها في غابر الزمان منقطع التراب وأقصي مبلغ السفن رغم أنها لا تقع علي ماء. وهذه الكناية تذكر بكنايات أخري من ذات القبيل فقد قال البروفسور عبد الله الطيب عن “برك الغماد” التي وردت في خطبة الصحابي الجليل المقداد بن عمرو حينما قال مؤازراً الرسول (ص) عن قومه الأنصار في غزوة بدر ، ” والله لو خضت بنا البحر إلي برك الغماد لخضناه معك!”، إن برك الغماد تلك لم تكن موضعاً بعينه رغم أن شراح ابن إسحاق أشاروا إلي كونها موضعاً باليمن، وإنما هي كناية من الكنايات الدالة علي البعد الشديد . قال هي أشبه بقولنا في العامية ” سقط لقط!” وتحضرني في هذا السياق عبارة ، ” واق الواق!” وهي فيما أظن من ذات المشكاة رغم أن بعض قدامي الجغرافيين العرب ظنوها موضعاً بزنجبار. (حدثني من لا أتهم أن الدكتور موسس مشار الذي أصبح لاحقاً نائباً لرئيس جمهورية السودان أكد له مستغرباً أن واق الواق تلك ليست بالبعد الذي تتصورونه، أضاف الدكتور الخلوق: واق الواق التي تعنون هي بلدتنا! ولعلها في الإستوائية. وشبيه ذلك بقولنا لمن شط به النوي أو لمن دعونا عليه بشتات الشمل : ذهب به إلي التونج! والتونج موضع بجنوب السودان!

ومدينة فاس القديمة في المملكة المغربية مدينة فرطها قطار الزمان عند محطة العلامة المؤرخ عبدالرحمن بن خلدون فطفقت تعدو خلفه إلي أن وافته في القرن العشرين فتوسلت إليه أن تكون في بعض ركابه وربما أذعن القطار بعد لجاج وخصومة ، تركها تتسلق مؤخرة عرباته فرضيت بقسمتها فكان حظها من عجائب القرن العشرين بعض مصابيح وثريات كهربائية انتشرت في دورها وأزقتها الضيقة إلي جانب حنفيات حديثة وأجهزة مذياع وتلفاز لكن المدينة بقيت في مجمل حالها مدينة من مدائن القرون الوسطي يفوح من أرجائها عبق الزمن الأزهر في تأريخ العرب والمسلمين.

وصلنا إليها ذات صباح ند من صباحات ربيع عام ١٩٩٤ ووقفنا عند بابها فتدافع نحونا صبية يعرضون علينا خدماتهم بمرافقتنا إلي داخلها يعرفوننا بمعالمها لقاء بعض الأجر. وتصنّع رفيقنا الحزم راداً هذه الجموع علي أعقابها علي اعتبار أننا في رفقة تعرف المدينة جيداً ولا حاجة لنا لمرافق. ومع ذلك ألح علينا فتي فارع الطول في أدب جم أن نقبل عرضه بإرشادنا لقاء أجر زهيد سيما وأنه كما قال أوتدياetudiant

أي طالب علم وكل ما يحصل عليه من دراهم يعد خيراً وبركة. قبل الإخوة الذين كانوا في معيتي بالعرض علي مضض بعد أن حذروه من النكوص عن وعده بالمطالبة بالكثير عند نهاية الجولة فوعد وعداً لم يف به كما توقعوا حيث ألحف في طلب الكثير عندها!

دخلنا إلي المدينة القديمة وسرنا في أذقتها المتعرجة فراعنا أن هذه الأبنية القديمة جداً مأهولة بالسكان وهي متماسكة كأنما تتحدي الزمان والعمران الحديث الذي مررنا به في فاس الجديدة. أحسست بعد برهة وكأن عجلة الزمن قد دارت بنا إلي الوراء خمسة أو سبعة قرون كاملة فقد اختفت السيارات تماما ولم نعد نسمع لها أزيزاً ولا لأبواقها طنيناً فقد حلت مكانها بغال ضخام لم آر مثلها قط تجوب الأزقة الضيقة التي لا تتسع للسيارات في همة ونشاط وعلي ظهورها البضائع من شتي الأصناف. ضحك مرشدنا الشاب الذي قال إن اسمه “توفيق؛ وهو يشير إليها ،” هذه طاكسيات فاس!” وأهل المغرب العربي قاطبة يحيلون التاء في تاكسي، أي سيارة أجرة إلي طاء وكذلك يفعلون بتاء موريتانيا فيقولون ” موريطانيا”.ثم مررنا بسوق في قلب المدينة يباع فيه القديد والقديد عندهم لحم يحفظ طرياً في سائل لعله نوع من الزيوت لأشهر عديدة دون أن يفسد. والقديد عندنا وفي معاجم العربية ما جفف من اللحم. روي أصحاب السير أن اعرابيا دخل علي النبي صلي الله عليه وسلم فارتعدت فرائصه من مهابته فقال له النبي(ص) ” هون عليك إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة!” ورأينا حذاقاً يصنعون أوان من النحاس والفضة بديعة رائعة وهي صناعات متوارثة في المغرب لقرون. ثم رأينا باعة الخضر والفاكهة يفترشون الأرض. وهناك محلات وراقين يجنح بك الخيال فتبحث بينهم عن شيخ الوراقين أبي عثمان الجاحظ رحمه الله. ثم لا تلبث أن تنبعث النغمات العذبة من أوتار الموسيقي المصاحبة للموشحات الأندلسية يشدو بها أميرها ” محمد باجذوب” بصوت شجي من مذياع كبير هناك:

جاء البشير مبشرا بقدومه فملئت من قول البشير سرورا

فكأنني يعقوب من فرح به عاد من شم القميص بصيرا

ثم تنوح آلة القانون كالباكية حتي لكأن زرياب يقفز من بين أوتارها التي أحسن صنعها يوم أن حمل عصا الترحال مدبرا الظهر لبغداد التي أحي لياليها بالطرب مع أستاذه الموصلي مقبلا علي الأرض البكر في قرطبة احدي عواصم الدنيا ذائعة الصيت يومئذ:

ليلي………ليلي…….يا عين……… يا ليل……….

وتتسابق أصوات الجوق الرخيمة في تناغم عجيب:

بشري لنا ……… بشري لنا…….الشمل مجموع ……… والسعد أغدقا……

هنا يجن جنونك وتوقن يقينا لا يطرقه الشك ولا يتطرق إليه أنك في بلاط بني الأحمر في غرناطة أو في رصافة عبدالرحمن بين معاوية بن هشام(الداخل) في ضاحية قرطبة….فلا تعجب عندئذ كيف أضاعوا ذلك الملك العريض…..ولم يتخذوا التوسط في الأمور سبيلا…فتباكوا كالنساء ملكاً لم يحافظوا عليه كالرجال كما قالت تلك الشيخة الحصيفة رحمها الله….. وهل تدع الموشحات عقلاً للسياسة والكياسة والفطنة؟! اللهم لا!

تذكر ذلك كله وأنت في فاس التي احتضنت كثيراً من تراث الأندلس في العلوم والآداب فتأسي لما كان من شأن الأندلس ويبكيك ما أبكي شاعر العرب نزار قباني:

 

ومشيت مثل الطفل خلف دليلتي وورائي التأريخ كوم….. رماد

الزخرفات …. أكاد أسمع نبضها والزركشات علي السقوف تنادي

قالت هنا “الحمراء زهو جدودنا فأقرأ علي جدرانه أمجادي

أمجادها؟ ومسحت جرحا نازفاً ومسحت جرحاً ثانياً بفؤادي.

يا ليت وارثتي الجميلة.. أدركت أن الذين عنتهم…. أجدادي

عانقت فيها عندما ودعتها رجلاً يسمي طارق بن زياد

قال الشيخ الجليل المغربي سعيد الكملي أنه زار تلكم الآثار في الأندلس في رهط من شباب المغرب فسألهم سياح من الفرنجة عن المكتوب في الزركشات والزخارف التي تزين القصور والمساجد هناك عندما علموا أنهم يتكلمون العربية وربما فيهم من الأسبان والبرتغال كثير. قال، فأجهش الشباب بالبكاء! أي حزناً علي مجد لآبائهم ابتنوه ثم فرطوا فيه فأضاعوه.

ودارت أنفسنا سكري من هول الدهشة والغرابة. تري من نحن وفي أي زمان نكون…..؟ أحقاً روي النعمان عن ماء السماء؟ كيف يروي مالك عن أنس؟!!

وفن الموشحات فن صامد في المغرب والجزائر وفي سوريا ولبنان… وديع الصافي وفيروز وصباح فخري وفي الجزائر كان مصطفي العقاد قد بلغ مبلغ الأسطورة قبل عقود خلت. ومن أجمل ما كان يحيط بالدعوات الرئاسية في الجزائر، ذلك البلد الذي أحببنا، وكنا قيها من المدعوين ضمن السلك الدبلوماسي الفرق الموسيقية التي كانت كالخلفية لتلك الدعوات يشنف الآذان فيها جوق الموسيقي الأندلسية. للأسف ذلك ما تبقي من ذلك المجد التليد الذي أفل. عبرت عن أعجابي عن تلك الموشحات لأحد المسؤولين فترنم لدهشتي بصوت رخيم:

وقت الليل يطيح …. وين يروحوا … وين يروحوا….

زمان ورب الكعبة!

وأحسب أن محاولة الفنان الكبير عبد الكريم الكابلي في تلحين رائعة التراث العربي المنسوبة لمعاوية الثاني أو يزيد بن معاوية ” وأمطرت لؤلؤا” كانت من قبيل ألحان الموشحات وأنها قد صادفت نجاحاً كبيراً. ليته قد واصل ذلك المسعي من الغناء الجماعي وعندي أن أصل الغناء في السودان جماعي لولا أن تفندون!

أشد ما يسترعي انتباهك في فاس القديمة النظافة المتناهية رغم اكتظاظها بالسياح من كل الأجناس. يبادلك أهلها الابتسام وهم يزاولون أعمالهم وقد لاحظنا أن النظافة سمة لمقاه ومطاعم المغرب علي طول الطريق البري بين الرباط وفاس. وفي فاس رأينا الصبية والنساء يحملون (صوان) متوسطة من عجائن الخبز إلي المخابز المجاورة ثم يعودون بها خبزا طازجاً سألنا عن ذلك فقيل لنا هذه عادة قديمة في سائر أنحاء المغرب. كنا نفعل مثل ذلك في أعياد الفطر فنحمل الصواني إلي المخابز ( كنا نقول للمخبز الطابونة) لخبز الكعك والبسكويت والغريبة قبل أن تغزوا المخابز الكهربائية الصغيرة البيوت.

طلبنا بعد ذلك من مرشدنا ، توفيق، أخذنا إلي مزارات فاس الأخرى فأخذنا إلي مسجد السيد أحمد التيجاني مؤسس الطريقة التيجانية. وبعد أداء الصلاة اتجهنا لمقام في وسط المسجد عرفنا أنه الضريح الذي يضم قبر الشيخ. وهنا تقدم منا أحد خدام الضريح لما علم أننا من السودان وفتح لنا باب الضريح فإذا هو شبيه بسائر الأضرحة في العالم الإسلامي يتمسح به أصحاب الحاجات ونسوة يطلبن الولد. والسيد أحمد التيجاني من مواليد قرية عين ماضي جنوب وهران في الجزائر ولا زالت عشيرته هناك. وكان قد ارتحل عن بلده الجزائر إثر خلاف مع حاكم منطقة وهران التركي في ذلك الزمان، ويقال إن أتباع الطريقة التيجانية يقاربون الخمسمائة مليون نفس أي قرابة نصف تعداد المسلمين علي امتداد المعمورة. اتجهنا بعد ذلك إلي مسجد الإدريسي وهو مسجد متوسط المساحة يضم ضريح الشيخ الإدريسي مؤسس الطريقة الإدريسية. ثم انطلقنا نسابق الزمن إلي جامع القرويين الذي يعتبر أول جامعة في العالم سبق جامعة بولونيا في إيطاليا( وفي تلك زخارف ورسومات هي الأجمل في العالم).أسست تلكم الجامعة شقيقتان من القيروان درّس فيه ابن خلدون وهو مسجد عظيم المساحة كان منارة من منارات العلم في زمانه وزمان المسلمين الزاهر. وانطلقنا إلي رواق الطلاب الذي يجاوره فوجدناه مغلقاً حيث صادف مجيؤنا وقت الغداء وأهل المغرب العربي يقيلون. ولعل التعب قد نال من مرافقنا توفيق فالتمس الحيل لإقناعنا بأن المكتبة العظيمة التي كان يرتادها ابن خلدون مغلقة أيضاً لكننا جادلناه ملحين عليه أن يأخذنا إليها فتدخل رجل كان يسترق السمع معنفاً صاحبنا علي كذبه: ” المكتبة ديما مفتوحة”. وتوقفت عند “ديما” فأنا حفي بالكلمات المشتركة في عاميتنا وعاميات العرب وموضع دراسة عندي أودعت بعضها كتابنا ” أشتات في العامية السودانية مجتمعات في الفصحي!” وتعلم احدي كريمتي بحفاوتي تلك فجاءتني متهللة يوما إذ سمعت من زميلة لها من المغرب تشكو أن صغيرها لا يأكل حتي ” نحنثوه” ونحنس عندنا بالسين ومن ذلك التحانيس! كذلك سمعت هناك كلمة “شمش” للشمس.

وديما من الدوام والاستمرار بلا انقطاع. وأزعم أن (ديما) من لطائف اللغة مستمدة من ” الديمة” من الديمة الممطرة من باب الفأل الحسن باستمرار الخير فالديمة لا ينقطع غيثها. وكلمة شمش غريبة في تلك الأنحاء كغربتي فيها فهم يقولون “سمش” بالسين ويقولون لشجرة “سجرة” . وهذا مبحث ليس موضعه.

كان التعب قد بلغ بنا مبلغاً عظيما فأسرعنا خارجين واستغرق ذلك وقتاً طويلاً ونحن نلتمس طريقنا إلي خارج المدينة. وعندما تم لنا ذلك ألفيتنا كمن أفاق من حلم طويل استغرق زهاء أربع ساعات….. نعم خرجنا إلي القرن العشرين بصخبه وضجيج سياراته…. كنا كأصحاب الكهف وجدوا أنفسهم في عالم غير الذي ألفوه. المفارقة أن القرن العشرين نفسه كان يلملم أطرافه مزمعاً رحيل الأبد بعد حين.

إن لمدينة فاس مذاق خاص لا تجده إلا فيها فهي قطعة من المكان والتأريخ معاً تشدك إليها شداً فتصبح حبيبة إلي نفسك….. ولا أزال أحار في مصدر ذلك الأنس الذي هبط علي نفسي في تلك البقعة التي تفصلها عن بلادنا بحساب الجغرافيا آلاف الفراسخ والأميال ….. تري هل هو قدرتها الفائقة علي البقاء في أكناف القرن العشرين بوسائل وطرائق موغلة في القدم دون أن يصيب أهلها إحساس بالتمزق والضياع بين عالمين؟ أم لأن فاس تمثل الشفرة المزيلة للتناقض بين الطارف والتليد؟ ربما وربما لأنها قطعة من حضارتنا العربية الإسلامية أو ربما لهوي عندي يحرص علي وشائج القربي بين القديم النافع والجديد المفيد فتحتفظ بنفسك في سربك وثقافتك وتعيش عصرك….. ولأنها قطعة لا تؤرخ لأصحاب السطوة والسلطان وحدهم فهي ليست كقصور الحمراء في الأندلس تحكي قصص أباطرتنا وكبرائنا ولكنها قطعة حية من حياة عامة الناس تراها بالعين وتحسها بالحواس تجد فيها الطهاة والحدادين وأهل الصناعات والباعة المتجولين يزاولون هذه المهن عبر القرون.

وتكشف لك هندسة المعمار في المدينة القديمة المغزى العملي من وراء ذلك النسق. والذي يري فاس القديمة يستطيع أن يتخيل ما كانت عليه حواضر المسلمين في الأزمنة المنقضية من عمر الزمن فيتذوق أكثر كتابات الجاحظ وأقاصيصه الطريفة عن بغداد والبصرة ومرو وخراسان.

ولسنا بحاجة في خاتمة هذه السطور أن نذكر أهلنا في السودان ونحن في عصر الأقمار الصناعية والقرية الكونية الصغيرة ، أن وراء فاس خلق كثير وأن ظنهم بفاس هو ظن السابقين ومبلغ علمهم فقد جاء في السير أن عقبة بن نافع الفهري التابعي فاتح تلك الأنحاء، أنه اقتحم بحر الظلمات ( الأطلسي) حتي غاصت في مياهه قوائم فرسه وقال قولته المشهورة، ” لو أعلم أن وراء هذا البحر خلقاً لخضته إليهم في سبيل الله!” ولئن خفي علي أهلنا أن وراء فاس عبر البحار والمحيطات عوالم تضج بالخلق فليعلموا أن فاس لم تزل من أوعية التأريخ الحافلة بالعجائب والأسرار وحيا الله المغرب التي تربطنا بها وبشعبها المضياف أواصر لا تنقطع!

(نشر في حينه ثم ضاع في الأسافير فأحييناه هنا وأجريت عليه إضافات طفيفة.)

 

 

 

تعليقات الفيسبوك