أبيات الشعر المحرضة على السفر التى ينسبها البعض إلى الخليفة الراشد على بن ابى طالب كرم الله وجهه , تجرى على كل لسان:
تغرب عن الأوطان فى طلب العلى وسافر ففى الأسفار خمس فوائد
فرج هم واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجد
فإن قيل فى الاسفار ذل ومحنة وقطع الفيافى وارتكاب الشدائد
فموت الفتى خير له من قيامه بدار هوان بين واش وحاسد
وهى كما ترون تحصى فوائد السفر فى الترويح الذى تجلبه السياحة برؤية غرائب بالنسبة للمسافر فى المآكل والمشارب واللباس واللسان بينما هى من معتاد ما يمارسه الناس فى تلك الأمكنة والأوطان . وربما يصيب المسافر سعة وبحبوحة فى العيش ورغداً فضلاً عن إكتساب المعارف والمهارات بما يهون رهق السفر ومشقة الفيافى التى قطع. ويكون قد نجا من ذل البقاء وهوان الحياة بين قوم لا يعرفون قدره ولا يحترمون حتى محض إنسانيته. وجاء فى التنزيل ” ومن يهاجر فى سبيل الله يجد فى الأرض مراغماً كثيراً وسعة” ( الآية 100النساء). قال أهل العلم أى يرغم أنف من اطروه للهجرة بوجدان عيش أهنأ ورفاه إبتغاه وسعة! ولعله إن هاجر فقط ليحفظ كرامته المقدسة المنصوص عليها فى التنزيل فى قوله تعالى “ولقد كرمنا بنى آدم…. (الإسراء 70″ يكون قد هاجر فى سبيل الله , إن شاء الله.
قال أبو الطيب:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون همُ
والكلام عن السفر والأسفار على إطلاق يطول وليس هذا غرض هذه المساحة وإنما نصوب الرمى فيها للتعريف بكرام برزوا فى مجتمعاتهم مروا على السودان أو بعض السودان أو ربطت بينهم وبين السودانيين وشائج صحبة ومحبة حببت إليهم السودان دون أن يروه, قبل عقود خلت ولم تزل الذكرى الحبيبة حية متقدة فى وجدانهم. ومن الدروس المستفادة من ذلك أن نحرص على خصال الترحاب بمن وفدوا علينا إختيارا أو قسرا وإطراراً حيث لا ينسى الكريم الإحسان قصر الزمان أم طال كما هو حال أولئك النفر.
من أولئك المرحوم الأستاذ محمد يزيد رئيس الإرشيف الوطنى الجزائرى الأسبق فى الجزائر الشقيقة
وقد كان عضواً فاعلاً فى حزب الشعب ثم التحق بالثورة مجاهداً فى حرب التحرير التى انطلقت عام 1954. ذكر لى أنه كان صديقاً ومقرباً من وفد السودان الذى شارك فى مؤتمر باندونق بأندونيسيا عام 1955 حيث أنه جاء ممثلاً للجزائر فى المؤتمر فى معية المرحوم حسين آيت أحمد وأنه الذى اقترح على الزعيم الأزهرى الذى رفض أن يجلس خلف الوفد المصرى رغم إلحاح جمال عبد الناصر باعتبار أن السودان لا يزال جزءا من مصر, أن يتخذ من منديله الأبيض علماً للسودان الذى لم يكن قد نال استقلاله بعد. وفى الهند ذكر لى بعض من بقى على قيد الحياة من رفاق رئيس الوزراء جواهر لال نهرو أن نهرو هو الذى أخرج منديله الأبيض وكتب عليه السودان وقال للمؤتمرين هذا علم السودان وهى مقولة توارث ترديدها قدامى الدبلوماسيين الهنود. وكان نهرو قد منح السودان 12 بعثة دراسية فى جامعة (على غار) أو (عليكرا) استفاد منها لفيف شغلوا بعد ذلك مواقع مرموقة فى الدولة مثل الدكتور شريف التهامى وزير الطاقة فى عهد النميرى والأستاذ عثمان الريح المدير الأسبق لمصنع سكر كنانة. واختلاف الروايات حول قصة العلم الأبيض بحاجة إلى تمحيص.
وفى واشنطن كنت أخصص فى إفطارت رمضان العامة يوماً للأشقاء العرب من غير الدبلوماسيين من وجهاء العرب فى العاصمة الأمريكية ومن أولئك الراحل الأستاذ إبراهيم بن على الوزير وقد أفردنا له مقالة وعن ما فعله الزعيم الأزهرى من تكريمه وإنقاذ حياته من قتل كان يلاحقه . ومنهم الأستاذ صبحى غندور مدير ومؤسس مركز الحوار العربى فى واشنطن وفضلاء من رجال الأعمال وأهل الفن منهم نجل الممثلة السورية القديرة منى واصف والراحل السفير كلوفيس مقصود العروبى المعروف الذى فارق الفانية قبل أسابيع قليلة رحمه الله. والدكتور كلوفيس مقصود لبنانى متزوج من سيدة عراقية درس فى بريطانيا وكان رئيساً لإتحاد الطلاب العرب هناك. وكان إتحاد الطلاب العرب قد أصدر بياناً شجب فيه إعدام الأستاذ سيد قطب عام 1966. وقد جمعت الصداقة بين كلوفيس مقصود ومحمد حسنين هيكل الذى مكّنه من لقاء عبد الناصر الذى حياه مغاضباً : ” انت رئيس إتحاد العرب واسمك كلوفيس؟” قال رددت عليه ضاحكاً ” ما الاسم الذى تقترحه لى يا فخامة الرئيس؟” فأجابه ضاحكاً مقترحاً اسماً أنسيته للأسف.وسالته عنه بعد أعوام فنسيه هو كذلك. كلوفيس مقصود هو أول سفير للجامعة العربية فى الهند خلفته السودانية الأستاذة حاجة كاشف كما هو مثبت على جدارمكتب الجامعة العربية هناك. وبرز كلوفيس بروزا كبيراً عندما عمل سفيراً لها فى واشنطن ونيويرك معاً إبان عقد الثمانينيات الذى تميز بأحداث جسام وقعت فى الشرق الأوسط ( الحرب الأهلية فى لبنان, الإجتياح الإسرائيلى, صبرا وشتيلا…الخ) وله طرائف وحكايات لا يتسع لها المجال . منها أنه قص على هيكل حديثاً قويا لأحد نواب المؤتمر فى البرلمان الهندى فى مناصرة القضية العربية فروى هيكل ذلك الحديث وكأنه سمعه هو من الرجل كفاحاً. قال فاتصلت به حيث كنت أعلم أن الرجل لم تطأ قدماه الهند حتى ذلك الوقت , قائلاً: “إيه دا يا محمد؟” قال فاكتفى بالضحك!
عمل بعد التقاعد أستاذا للعلاقات الدولية فى الجامعة الأمريكية فى واشنطن( أماريكان يونيفرستى) واستضافنى أكثر من مرة لشرح أوضاع السودان يومئذ لطلابه فى تلك الجامعة. من أولئك أيضاً الدكتور إدموند غريب أستاذ العلوم السياسية والمعلق السياسى المعروف وعدد من الأطباء والمحامين و الإعلاميين وقتها فى قناة الجزيرة منهم حافظ المرازى ومحمد العلمى وطلال الحاج وغيرهم ممن لا تحضرنى أسماءهم .وسعدت فى كل عام بلقاء الدكتور الأشهر فى مجال أمراض الربو والحساية حاصد الجوائز ومعالج الرؤساء وأسرهم الدكتور طلال نصولى وهو فى الأصل من لبنان الشقيق. وكان قبل مجيئ للسفارة بأعوام قد تولى علاج نجلى الأكبر عاصم من ربو حاد ظننا أن لا برأ منه. وكانت المفاجأة السارة أن للرجل علاقة ومعرفة بالسودان فقد عمل والده السفير منير النصولى سفيراً لبلده لدى السودان عام1972 وكان الدكتور طلال يدرس وقتها فى بريطانيا لكنه يزور والده فى الخرطوم.وقد زودنى بالجزء الخاص من كتاب والده الفترة القصيرة التى قضاها فى السودان سأشير إلى مقتطفات منه بأدناه: وصل السفير منير النصولى فى عهد الرئيس سليمان فرنجية فى لبنان وعهد الرئيس جعفر نميرى وكان وزير الخارجية وقتها الدكتور منصور خالد وكان ينوب عنه فى غيابه السفير فخر الدين محمد. وكانت تشوب علاقات البلدين الشوائب إذ استضاف لبنان مؤتمراً للشيوعيين حضره عدد من أعضاء الحزب الشيوعى السودانى فأغضب ذلك حكومة السودان التى كانت قد اجهضت للتو إنقلاب العقيد هاشم العطا. ولعلكم تذكرون كتاب فؤاد مطر “الحزب الشيوعى السودانى نحروه أم انتحر؟” وكنا وقتها ننتظر بفارق الصبر أسبوعية ” الحوادث” التى كان يرأس تحريرها المرحوم سليم اللوزى . أبلغ وزير الخارجية السفير بأن تقديم أوراق اعتماده للرئيس سيتأخر بسبب مشغوليات الرئيس ففسر السفير ذلك بحال العلاقات المتوترة بين البلدين لكن الوزير الذى حظى بتقريظ كبير من السفير حيث أثنى عليه الثناء الحسن فى كتابه, قد تمكن من تسريع الإجراءات ومكّن السفيرمن تقديم أوراق إعتماده فى وقت قياسي. وصف السفير نصولى بدقة متناهية مراسم تقديم أوراق الإعتماد وأعجب بها أيما إعجاب وهى فى الحقيقة متميزة .أذكر أن سفير كندا المقيم فى إثيوبيا كان قد ذكر لى أن لا نظير لها فى المنطقة. وقد ألقى السفير كلمة ضافية أمام الرئيس نميرى ثم جلس إليه بعد ذلك وكانت البلدان العربية لا زالت على مقاطعتها للولايات المتحدة فى سياق لاءات الخرطوم الثلاث فاستشاره نميرى الذى كان حائرا بين المشاركة فى مؤتمر عربى فى بنغازى يروم الضغط على واشنطن ويعارض تطبيع العلاقات معها, لا أدرى أو أنه كان فى سياق شعارات قذافى لوحدة بين ليبيا ومصر والسودان و كانت إتفاقية أديس أباب قد أوقفت الحرب فى الجنوب وتعهدت الولايات المتحدة بدفع 18 مليون دولار لتوطين الجنوبيين العائدين. وكان نميرى يخشى تاثير التعاطى مع إجتماعات بنغازى على وحدة السودان وحرصه على وصول المساعدة الأمريكية الداعمة لإعادة التوطين. قال:
” انفردت وإياه ومعالى وزير الخارجية لنتبادل الحديث فإذا به يشكو من سياسة عربية قد تربك السودان وتؤدى إلى ضياع جنوبه وأظهر لى حيرته ما بين الإلتحاق بمؤتمر بنغازى والإهتمام كلياً بمشكلة جنوب السودان قائلاً : “إن لم ألتحق بالمؤتمر قد يعتبرونى منحرفاً.” وسألنى عن رأى فى الموقف هذا. أجبت بصراحة ” أن صاحب الدار هو أدرى بالذى فيها ورغم أننى مقتنع بالسعى لوحدة الصف العربى, وهذا فى دمى, أرى أن سيادة الرئيس عليه الأخذ بمصلحة السودان أولاً ومن ثم الإلتحاق بالركب. ارتاحت نفسية الرئيس لرأى الذى وجد صدى عميقا فى داخله وهو صاحب الرأى الثاقب والإرادة الحديدية وكان يعمل بإيمان ألا تقع الكارثة فينشطر السودان إلى قطرين وقد تكللت مساعيه بالنجاح. لكن هذه السياسة التى انتهجها الرئيس جعفر نميرى وتصريحه إمكانية إعادة العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة الأمريكية, أثارت حفيظة إتحاد الدول العربية واعتبرت ذلك إنحرافا فأخذت الصحافة المصرية تنتقد هذا التصرف بشدة.” (مذكرات سفير: بين الدبلوماسية والواقع ص587-588).
سارع السفير بكتابة برقية لبلده مثلما يفعل السفراء مغتبطاً بإستشارة رئيس البلد له فى أمر هام من أمور السياسة. وفى اليابان ووفقاً للتقاليد الإمبراطورية يخصص يوم آخر للقاء مجاملة مع الإمبراطور سوى يوم التقديم . ويسترعى الإنتباه أن الحديث المباح مع الإمبراطور يلزم ألا يتطرق مطلقاً للأمور السياسية من قريب أو بعيد فالإمبراطور هناك هو رمز سيادة الدولة ولاشأن له بالسياسة. كنا خمسة سفراء تمت دعوتنا لحديث المجاملة مع جلالة الإمبراطورهيروهيتو وكان يلينى حسب الأسبقية سفير بريطانيا ولما جاء دوره للحديث مع الإمبراطور قال لمدير المراسم أنا أجيد اليابانية هل لى باستخدامها فى مخاطبة الإمبراطور؟ رد عليه مدير المراسم بحزم : كلا يجب مخاطبة الإمبراطور بالإنقليزية! والإمبراطور رجل فى غاية اللطف والتواضع.
اذكر وقتها وعندما تم الإتفاق بين ليبيا ومصر على إقامة إتحاد بينهما اعتذر السودان عن الإنضمام إليه, قمنا بتهنئة طالب مصرى نعرفه كان شديد الحماسة لإتحاد الدول الثلاث رد علينا بغضب وسخرية معاً- بسبب رفض السودان الإنضمام إليه – ” عقبالكو مع إفريقيا الوسطى!!”
وفى واشنطن أيضاً وصلتنى رسالة من رجل كريم فى شرق ولاية تكساس بخط اليد يقول فيها إنه لا يصدق ما ينقله الإعلام عن تفرقة دينية وعرقية هناك فى السودان لأنه قطع المسافة من مصوع إلى الأبيض بسيارة بُعيد إستقلال السودان بقليل وكان ينوى إقامة مدبغة للجلود فى السودان . قال لى” تلك السهوب ذكرتنى ببلدى تكساس ووجدت بلداً آمناً مطمئناً . وفى الأبيض وفى ناد يختلف إليه كبار الموظفين ألفيت شماليين وجنوبيين, مسيحيين ومسلمين فى غاية الإنسجام والحميمية. قل لى بربك ما الذى حدث؟ ”
ثم كُلفت بعد ذلك بمهمة فى مدينة هيوستن كبرى مدن تكساس فاتصلت بالرجل على الهاتف علنا نلتقى هناك فاعتذر بلطف بتقدم السن وأنه لم يعد يقوى على السفر لكنه أرسل إلىّ شخصين جاءا إلى الفندق للتحية نيابة عن الرجل و عرضا المساعدة وتطوع أحدهما بالقول إنه بإمكانه المساعدة فى تمكيننا من توضيح الحقائق والتصدى للحملات عبر الكتابة فى صحيفة ” هيوستن كرونيكال” التى كانت الصحيفة الأولى فى المدينة والولاية . واصطحبنى الرجل إلى المطار مودعاً.
الشخصية الفذة الأخرى, الطبيب الإنسان زيد خليل وهو أمريكى من أصل عراقى, وجدران عيادته مطرزة بشهادات تشهد بإنسانيته فى معاملة مرضاه إذ يمكث معك الوقت الطويل حتى ُينادى عليه بأن مرضى آخرين فى الإنتظار. رحب بنا بحفاوة صادقة وذكر لى أن أباه عمل موظفاً فى السفارة العراقية فى الخرطوم ربما فى ستينيات القرن المنصرم متحدثاً عن جمال الخرطوم ونظافتها وطيبة أهلها يومئذ.
نأمل أن تعيد الخرطوم بعض ألقها القديم الذى أدركنا طرفاً وافراً منه ويقينى أن طيبة أهلها وحفاوتهم بالضيوف باقية بحول الله بقاء الدهر.
هؤلاء الأفذاذ مروا من هنا!
0