“نحن” والدكاترة زكى مبارك

(نشرت هذه المقالة فى صحيفة( الأنباء) السودانية العدد 91 بتاريخ 25 أغسطس 1997 فى عمود كلمات حرة فى الصفحة الأخيرة.)
وسبب نشرها اليوم ( ديسمبر ٢٢٠) هو أن الأستاذ عبد المنعم الشاذلي، الذي يعمل محاضرا ومترجما قانونيا في جامعة الخرطوم والذي ترجم أطروحة البروفسور عبدالله الطيب لنيل درجة الدكتوراه من الإنقليزية للعربية في كتاب عنوانه، (أبو العلاء شاعراً، نظرة جمالية) ، قد أرسل إليّ مقالة بعنوان (أدب السيرة الذاتية عند العرب) نشرتها له مجلة ثقافية إلكترونية عربية جاء اسمه فيها مسبوقاً بحرف الدال أي الدكتور فاعتذر لي بأنه عندما أرسلها لم يسبق اسمه بدال ولا كاف (بل اسمي حافي حالق) كما قال لكنه أكد لاحقاً أن مراسل تلك المجلة هو الذي أضاف الدال من نفسه . وكان قد سبق لي أن كتبت مقالة كاملة تجدونها في الغراء سودانايل، عن تدشين الكتاب الذي صدر مترجماً يحمل محتوي تلك الرسالة لقراء العربية للمرة الأولي والذي كان ترجمة متقنة بشهادة فطاحل من أهل اللغات شاركوا في عرضه في قاعة الشارقة بالجامعة التي امتلأت تماماً بالحضور في مارس من عام ألفين وثمانية عشر لميلاد السيد المسيح عليه السلام . وقد سرني أن قد تم تسجيله وايداعه مكتبة الدومينكان للدراسات الشرقية بالقاهرة ولعل المنتهي يصل به إلي مكتبة الكونقرس في الولايات المتحدة الأمريكية والتي قيل إنها الأضخم والأنفس في العالم بأسره. وقد ذكرتني قصة الدال التي تسبق الأسماء، حكايتي عندما عدت من أمريكا ووجدت الدالات تتري وتتسابق خلف اسمي مع كافة الدعوات الرسمية والمناسبات الاجتماعية تزعم، دون علمي، أني أحمل الدرجة العلمية ( دكتور) ! فكتبت المقالة أدناه نافيا أن أكون وقتها قد نلت تلك الدرجة العلمية . قلت للأستاذ عبد المنعم : لا عليك فالمجلات والصحف أحيانا في بلاد العرب وربما في غيرها تفعل ذلك بغية الانتشار فتدخل الحرج دون أن تدري علي الكاتب . ومقالة الأستاذ عبد المنعم وترجمته لأطروحة العلامة التي نال بها الدرجة العلمية المتوخاة ، تدل علي أنه عالم نحرير وبالتقدير جدير لمدي يفوق الدال وشبيهاتها من درجات يراد بها التعبير عن ذلك ولعل ذلك ما حمل مراسل المجلة الثقافية المحترمة لضمه لزمرة من نالوا الدرجة العلمية الرفيعة. ومثل ذلك تفعله دور النشر أحياناً لأغراض تجارية فقد كتبت في رمضانيات العام الهجري السابق ١٤٤١بعض استعراض لكتاب العقاد “عبقرية عثمان ” فنبهني الأستاذ محمد عثمان أبو زيد وهو عالم محقق إلي كون الكتاب ليس ضمن عبقريات العقاد فقد صدر حين صدر بعنوان ” ذو النورين عثمان بن عفان” ولم أكن قد اطلعت عليه أيام الصبا ضمن ما قرأت من العبقريات رغم أن الذاكرة تحمل الاسم الأصلي للكتاب، لكن الطبعة التي استقيت منها المعلومات ،كانت تحمل هذا العنوان “عبقرية عثمان ” فأرسلت إليه صورة الغلاف تلك وكانت سببا لأنس جميل مع الرجل حول حيل وأحابيل الوراقين . وكنت ولم أزل أعجب من صفات تطلق علي كبار من المتصوفة والعلماء مثل الحبر الفهامة والعالم العلامة فريد وقته ووحيد زمانه! لما فيها من اغتيال مبكر لصفة الزهد المفضية لنكران الذات والحث عليها الذي ينبغي أن يكون هو الغاية من نشر أعمالهم علي الناس أو للسعي في لطف لإشاعة فضيلة تواضع العلماء في سياق نشر علمهم، فالعالم الحق شديد التواضع لأنه كلما أصاب قدراً من المعارف أحس بالحاجة للمزيد و أيقن أن فوق كل ذي علم عليم. والله يقول “فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقي” (النجم ٣٢)، ولعل أكثر عناوين تلك المؤلفات من مبالغات المريدين والتلاميذ يحملهم عليها شدة حبهم وتوقيرهم لمشايخهم، عفا الله عنهم :
المقالة القديمة:
تكتسب الكلمات فى اللغة الواحدة معان جديدة مغايرة أحياناً لمدلولاتها بفعل عوامل عديدة وربما بسبب أحداث تأريخية أو بفعل الجغرافيا كأن تنقطع الصلة بين الأقاليم التى تسود فيها تلك اللغة بمرور الزمن لوعورة التضاريس أو لاتساع المساحات المائية الفاصلة بين تلك الأقاليم. وليس هذا مقام التفصيل فى ذلك. الذى يهمنا هنا أن ذلك يقع فى سائر اللغات وفى سائر الأمكنة أيضاً. معلوم وجود هذه الظاهرة فى اللغة الإنقليزية . فالإنقليزية الأمريكية تتميز بميزات معروفة عن أمها البريطانية والبون أوسع بين الأخيرة وبين تلك السائدة فى استراليا والحال كذلك فى الهند.
كذلك نجد كلمة مثل “نحن” استخدمها ربنا عز وجل فى مقام الكبرياء والعظمة المطلقة وذلك مقامها الذى يناسب مدلولها فى اللغة العربية. وقد استخدمها الملك فاروق بذاته فى عبارته المشهورة ” نحن فاروق ملك مصر والسودان”. ذات الكلمة “نحن” قد تستخدم عندنا فى السودان تواضعاً، للمفارقة، وتحاشياً من استخدام لفظة “أنا” قرينة الأنانية والتى يسوقها البعض عند الضرورة القصوى بعبارة إضافية تخفف من وقعها وتبعد النجعة بينها وبين الكِبر , هى “أعوذ بالله من كلمة أنا.” يريد المتحدث التجمل وألا ينسب الفضل لنفسه أو يظهر بمظهرالمتنفج الممتلئ بنفسه. هذا بالطبع إذا أتى الكلام فى سياق الحمد والمكرمات. ولعل إسقاطات التصوف على الثقافة السودانية قد فعلت فعلها فى هذه الكلمة فصرفتها شيئاً ما عن مدلولات الفخامة والضخامة والعظمة إلى نقيضها.
وفى ضرام الصراع الذى احتدم فى مصربين أهل الفكر والرأى والأدب منذ مطالع هذا القرن. وهو نتيجة لهضم الثقافة المصرية لأثر الفكر والثقافة الغربية التى انفتحت عليها مصر منذ غزوة نابليون- حاول بعض رموز المدارس الأدبية أن يؤكدوا لخصومهم أنهم من أهل الكفاية والدراية فيما يخوضون فيه فعبر الدكتور زكى مبارك والذى قيل إنه حاز ثلاثاً من شهادات الدكتوراة بدراما لم يسبقه عليها أحد إذ كان يعرف بنفسه بأنه “الدكاترة زكى مبارك”!. وذكر لنا فى زمان مضى الأستاذ الجليل الشاعر عثمان الصادق المغوارى الذى كان من رواد صالون العقاد أيام الطلب فى مصر أن الأستاذ العقاد أغضب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عندما أستلم منه جائزة الدولة التقديرية فى الفنون والآداب بقوله: “هذه جائزة من رئيس جمهورية السياسة إلى رئيس جمهورية الأدب.” فكأنه صنو الرئيس فى المنزلة والمقام!
ولما كان الشئ بالشئ يذكر فلا بأس أن نذكر هذه الطرفة عن استخدامنا لكلمة نحن تحاشياً للمباشرة وتلطفاً, فقد ذكر لى صديق أن قريباً له جاء فى إجازته السنوية من إحدى دول الخليج يبحث عن إمرأة يتزوجها فلم يجد بغيته ففاتح قريبة له لم تكن ضمن المرشحات ،لأنها متبناة أبويه وتعيش معهم في الدار، بما أصابه من إحباط فقالت له ” ليه البنات كتار..(النساء كثير)..” قال لها (زى منو…(مثل من) فأجابت بعفوية ودون روية “ناس أنا ونحن وكلنا!” وهكذا لم تخرج نفسها قيد أنملة عن العبارة الطويلة التى لم تعن بها أحداً سواها! (وقد كانت هي سعيدة الحظ بالزوج المغترب!)
وأنا أنتهز هذه السانحة مستأذناً فى إقحام شخصى الضعيف فى هذا الموضوع العويص فقد تلقيت دعوات كريمة لمناسبات عامة وخاصة لاحظت أن اسمى فيها جاء مسبوقاً فيها بحرف د. أى الدكتور وأود عبر هذه النافذة الحرة أن أشكر أولئك النفر الكريم على حسن الظن وأبادر رفعاً للالتباس وحرصاً على حقوق الأساتذة الأجلاء الذين كدوا وجدوا وتغربوا وأبلوا البلاء الحسن تحصيلاً للمعارف حتى ظفروا بتلك الإجازة العلمية السنية عن جدارة واقتدار بأن كاتب هذه السطور ليس دكتوراً. وذلك حتى إشعار آخر.
“الأنباء العدد ٩١ في ٢٥ أغسطس ١٩٩٧

تعليقات الفيسبوك