موضع العربة والحصان والديمقراطية فى السودان!

العلاقة بين العربة والحصان علاقة جار ومجرور فالحصان هو الذى يجر العربة فيدفعها الى السير فى الطرقات. وقد كانت هكذا مركبات الأثرياء والعظماء والملوك والأباطرة فى أوروبا قبل إختراع المحركات التى تعمل بالبخار أو مشتقات الزيت أو الكهرباء. وبقيت الآن العربة التى يجرها الحصان شيئاً من أشياء الحنين الى الماضى البعيد (إنتيكا) لتتيح لعشاق الماضى التشبه بأولئك الأكاسرة والجبابرة” الألى كنزوا الكنوز فما بقين ولا بقوا” فيصعد أحدهم على هذه المركبات السياحية فى أوروبا وأمريكا لساعة من الزمن بأجر يتجاوز ما يربو على المائة من الدولارات حتى يخال نفسه لويس الرابع عشر أو ربما نابليون نفسه! ولم لا فالتشبه بالرجال فلاح! ولمكانة هذه المركبات فى زمانها عند الناس لا زال الناس فى زماننا هذا الحاضر يشبهون إعوجاج الأمور ومخالفتها للمعقول بوضع العربة أمام الحصان لا خلفه كما تقتضى طبائع الأشياء .هذا رغم أن جل سكان المعمورة اليوم لم يروا مثل تلك المركبات التى كانت فارهة فى زمانها إلا على الصور الثابتة أو المتحركة.
ويروق لنا فى هذه المساحة أن نحذو حذو الناس فى استخدام موضع العربة من الحصان فى التدليل على إعوجاج حواراتنا حول الديمقراطية فى السودان وأن تلك الحوارت تسارع فى عجلة لهفى لوضع العربة أمام الحصان لا خلفه, رغم أن أباطرتنا منذ العهد المروى لم يذوقوا طعم الفخامة المصاحبة لركوب تلك المركبات التى تجرها الخيول محدثة تلك الجلبة وهى تضرب على الطرق المرصوفة بالطوب والحجارة! وفى تايلاند ظهرت(ركشات) فاخرات مذوقة ومزدانة لتكملة رفاهيات السياح لا كالملِوثات التى ابتليت بها شوارعنا المعبدة وغير المعبدة. وإن قُدر للعولمة أن تعمم هذه الركشات الفاخرات على أماكن السياحة فى العالم الفسيح فلن يفهم أحد مثال العربة والحصان وقد يتفتق الذهن البشرى عن شىء جديد لا نعلم ماذا سيكون.
والعبارة أن الفرقاء فى السودان قد اتفقوا جميعاً على السعى لإقامة ديمقراطية حقيقية بمكوناتها جميعاً: تدوال سلمى على السلطة وحريات عامة وخاصة ومؤسسات تعمل بشفافية تحت الرقابة الشعبية عبر المؤسسات المنتخبة ومساواة مطلقة بين مكونات المجتمع معيار الحقوق والواجبات فيها على المواطنة وحدها. هذا تطور حسن وإجماع نادر يعد خطوة ضرورية للمضى قدماً الى الأمام. والخطوة التالية لهذا الاجماع ينبغى أن تكون إدارة الحوار حول الأوعية والهياكل التى تحقق ذلك الهدف وتضمن حماية التجربة الديمقراطية التى تستشرفها البلاد. والنماذج المعروفة للديمقراطية فى العالم حتى الآن هى نظم رئاسية على غرار النظام الجمهورى الأمريكى أو نظم رئاسية برلمانية مختلطة كالنظام الفرنسى أو نظام ويستمنستر البرلمانى فى بريطانيا وعدد من مستعمراتها السابقة. الحوار المعمق المطلوب هنا هو تحليل جوانب القصور فى تجاربنا مع بعض هذه النظم منذ الاستقلال وحتى الآن والبحث عن دور للولايات والأقاليم يمكنها من المساهمة فى إدارة البلاد على مستوى المركز. فى النظام الهندى مثلاً توجد أحزاب ولائية قوية تدخل فى تحالفات مع الأحزاب الحاكمة فى المركز وفق تقارب طروحات هذه بتلك وتنال بذلك من الأنصبة حسب أوزانها بالطبع.
هذا النوع من الحوار ينبغى أن يكون تقنياً بعيداً عن صراع الأيدولوجيات فصراع الأيدولوجيات والرؤى مكانه برامج الأحزاب السياسية وهى برامج يحكم عليها الشعب عبر الاقتراع الحر بالرفض أو القبول وينعقد الجدل حولها فى لجان وضع الدستور الدائم للبلاد أو تحت قبة البرلمان.
لكن الملاحظ أن أحاديث الأيدولوجيات والرؤى تسبق الآن هذا الحوار التقنى اللازم لإبتدار تجربة جديدة تستفيد من أخطاء الماضى لتضع البلاد على سكة الاستقرار والتنمية. وهذه الأحاديث المترعة بالايدولجيات والسابقة لأوانها تشابه تماماً وضع العربة أمام الحصان لا خلفه كما ينبغى. والمخيف حقاً فى أحاديث الرؤى و الأيدولجيات هذه السابقة لأوانها , ما يكتنفها من عنف لفظى يتفنن فى استخدام المخاشنات المنفرة من الألفاظ والتعابير البعيدة عن صنع مناخ موات تزدهر فيه الديمقراطية المرجوة ينذر ببقاء الإقصاء والفرز بأسماء وأشكال أخرى . وبسرد عاجل لتأريخ الحكم الوطنى فى بلادنا , يقف المراقب على محطات تزخر بالدروس والعبر فى عواقب ومآلآت العنف اللفظى على البلاد والعباد:
فتلفظ طالب معهد المعلمين العالى بما أساء لعقائد الناس عام 1965 أدى لحل الحزب الشيوعى السودانى بينما أفضى حل ذلك الحزب الى قيام نظام مايو عام 1969 ووأد التجربة الديمقراطية الثانية. وفى ثمانينات القرن الماضى أدت بنود المانفيستو الأول للحركة الشعبية المشحونة بالوعيد لغالب أهل السودان ونعتهم ب “أشباه العرب” سعياً لتجريدهم من السلطة فى المركز وبقوة السلاح وبدعم خارجى, الى إستقطاب حاد فى الساحة السياسية أدى فى خاتمة المطاف لقيام الإنقاذ فى 1989. وتجدد الحديث الآن عن حشد الهامش ومناطق المشورة الشعبية مع الإستعانة بقوى أجنية لإعادة هيكلة المركز, حديث خطير يجانبه التوفيق ويؤدى الى ردود أفعال ليست فى مصلحة التهيئة لمناخ ديمقراطى سليم فضلاً عن كونه دعوة سافرة أيضاً لإعادة البلاد الى الحلقة المفرغة: حلقة إدارة الصراع بالأفعال وردود الأفعال. ذلك لأن مثل ذلك التحرك يعد إستباقاً لنتائج المسار الديمقراطى الذى يحدد عبره الشعب خياراته وكفراً به و بآلياته ومسعى لفرض رؤى محددة بغير العملية الديمقراطية وبضغوط من خارج الحدود. إن مجرد تقسيم سكان البلاد جغرافياً وعرقياً يعد وضعاً لمكونات المجتمع فى حلبة المواجهة والتعارض والصراع بما يجعل كل طرف متربصاً بالآخر متشككاً فى نواياه يتحين الفرص للإنقضاض عليه. وتترتب على ذلك سلبيات خطيرة تبطىء بوتيرة الإنصهار العرقى والثقافى بين مكونات المجتمع بل وتفسح المجال لمزيد من التطرف والتطرف المضاد وإعتماد العنف المسلح وسيلة لحسم الخلافات. ومن الواضح أن هذه ليست وصفة لإقامة حكم ديموقراطى تحسم فيه خيارات الناس سلمياً عبر صناديق الإقتراع.إن معالجة اختلالات التنمية عبر المشاركة فى الثروة والسلطة تظل من القضايا التى يجب إنعقاد الاجماع بين الفرقاء على معالجتها كثوابت وطنية بحيث يغلق الباب نهائياً لحمل السلاح تذرعاً بالسعى لمعالجتها ولا بأس بإتخاذ تدابير إنتقال لذلك لا تؤسس لمحاصصات دائمة تبطىء بإنصهار أبناء الوطن جميعاً فى بوتقة ثقافة جامعة.
كذلك تجدر الإشارة الى أن الهامش لم يعد هامشاً جغرافياً فحراك محمود عبر العقود الماضيات قد غيّر تماما النسيج الديموقرافى لكثير من أصقاع السودان بما غيّب كثيرا من غلبة أعراق بعينها كانت تُعرف بها تلك الأصقاع وجعل كل جزء من أجزاء السودان وسطاً تعيش فيه كافة الأعراق المكونة لسكانه. إزاء هذا الوضع فإن إثارة النعرات ولو جاءت مغلفة ومستترة فى ثياب الجغرافيا أو التاريخ تجعل من أى انفلات كارثة حقيقية على البلاد ووحدتها الوطنية. والمسؤولية الوطنية الملقاة على كاهل الجميع هى ضبط الخطاب السياسى والثقافى بما يقرب مكونات مجتمعنا المتعددة سعياً وراء ترسيخ المشتركات وخلق وجدان وطنى جامع يكون الناس فيه سواسية كأسنان المشط.

تعليقات الفيسبوك