(المناخ السائد في غرب أوروبا وأمريكا الشمالية يمتاز بالغابات النفضية أي التي تنفض أوراقها في أواخر أكتوبر فتتلون الأوراق بألوان زاهية أخاذة قبل التساقط. كان ذلك ما أوحي بهذه الخاطرة):
جال طيف في بلاد الفرنجة في الأمكنة التي كانت منذ حين تزدان بالخضرة البهية والخريف يحتضر، فرأي عجباً أخذ بألبابه جميعاً فطفق من فرط الدهشة والإعجاب بمنظر الأوراق وقد خلعت رداء الخضرة و تزينت بألوان ليس بينها و بين الخضرة من سبب لكنها زاهية أيضاً تتقلب بين الأحمر القاني والأصفر الفاقع وسيل الألوان التي بينهما وألوان لا تراها إلا في لوحات فنانيهم يودعونها القراطيس والمنسوجات يجترون بها الحنين ويذرفون عبرها الدمع السخين علي ماض ولي بلا رجعة ولربوع ذاقوا فيها طعم المرح البريء والبال الخلي قبل أن ترغمهم صروف الأيام والسنين بتركها قسرا بحثا عن الرزق أو طلباً للعلم في بقاع أخري ، فاصطحبوها في وجدناهم وحملوها في مشاعرهم الخفية وتغنوا بها وموسقوا ما وقر في أحاسيسهم من حفيف أشجارها وصرير رياحها وخرير مياها وشقشقة عصافيرها وزمجرة رعودها، مقطوعات بعضها حزين يبكي وبعضها جزل يفرح ثم بالغوا في الحفاوة بها فأودعوها آلاتهم الموسيقية كي تبقي أبد الدهر تواسي المحزونين وتضاعف سعادة المحظوظين الذين يرفلون في النعم لا يحيق بها مصير ذكريات لم تنحت في الصخر ولم تودع في القراطيس بل خطت علي عجل علي سفح كثبان الرمل فضاعت مع أول عصفة للرياح فبكي عليها عاشق مثل قيس بن الملوح الذي اقترن اسمه باسم عشيقته وبنت عمه ليلي العامرية فعرفه الناس بها فنادوه بمجنون ليلي، الذي أودع ذكرياته العذبة نقاء الرمل فسفته عاتيات الرياح فبكي الرقيق شعرا باكيا شاكياً بلسان أحمد شوقي :
وخططنا في نقي الرمل فلم تحفظ الريح ولا الرمل وعي!
لم تزل ليلي بعيني طفلة لم تزد عن أمس إلا أصبعا
ما لأحجارك صما؟ كلما هاج بي الشوق أبت أن تسمعا
كلما جئتك راجعت الصبا فأبت أيامه أن ترجعا
وقال قيس نفسه مخاطباً جبل التوباد:
وأجهشتُ للتوباد حين رأيته وكبر للرحمن حين رآني
فقلت له أين الذين عهدتهم حواليك في خصب وطيب زمان
فقال مضوا واستودعوني بلادهم ومن ذا الذي يبقي مع الحدثان
وإني لأبكي اليوم من حذري غداً فراقك والحيان مؤتلفان
أولئك الفرنجة أحفاد يافث بن نوح لا زالوا يحسنون التوثيق للأحاسيس، الجميل منها والذي قَبٌح للعبرة ومحاذرة التكرار. صوروا ذلك كما قلنا علي الورق أو القماش لوحات فخيمات باهيات. أدهش ذلك كله الطيف فانتصب قائما كما يفعل الشعراء فصاح: يا الله! تعالوا وتأملوا كيف تجدد الطبيعة ثيابها. هذه الأشجار الضخمة ترمي بأوراقها الذابلة رمي الأسمال المهترئة التي لا نفع فيها علي الأرض ومع ذلك تغدق عليها هذه الألوان الأخاذة كالمعتذرة عن رميها، الجابرة لخواطرها في لطف من كان رقيق الحاشية من الناس يحفظ عرفاناً. والعرفان لهذه الأشجار هو اعتراف بسابقة الصنيع الحسن الذي كان يوم أن جادت عليها تلك الأوراق بما استطاعت، فتزينت بزينة خضراء ندية، فلا أقل من أن تحسن وداعها يوم فراقها الأبدي وهي تتهيأ لرحيلها الأخير بينما تستشرف هي، ذات الأشجار، مسيرة تتجدد كل عام كلما ارتحل الشتاء وانقطع عن الأرض الصقيع. والصقيع الذي يجفف هذه الأشجار ويحيل سوقها إلى عيدان سوداء، خالية من كل زينة ليس فيها ما يسر الناظرين، يكلل في بقاع أخري الجبال السوداء بالبياض فتزهو فيتغنى بجمالها الشعراء. ألم يقل القائل وقد رآها فوق السحاب تكسو جبال الألب:
شاهقات الجبال في الأفق سكري صاعدات مع الشعاع شعاعا
كلل الثلج هامها فتراءت كشيوخ خاضوا الزمان صراعا
وبلغت به النشوة كل مبلغ، فطلب ما لا يكون أبداً، أمنية الخلود تلك التي ورثناها عن أبينا آدم عليه السلام:
ليت شيبي كشيبها موسمي يرفع الصيف عن صباه القناعا
ويشيع الربيع فيه جمالا عبقريا منسقاً ممراعا
وانزلق وعي الوعي إلي أعماق الطيف السحيقة متأملاً بدائع هذا الصنيع فتمتم كالهامس:
سل هزار الحقل من أنبته ورداً وزهرا
وسل الوردة من أودعها طيباً ونشرا
لم ترق هذه البهجة التي ألمت بالطيف للقرين المصاحب للطيف وهو يتأمل منتشياً أوراق الخريف الزاهية الألوان وهي تتساقط علي الأرض فتكنس أو تصبح هشيما تذروه الرياح، فصاح القرين مزمجراً: فيم حبورك وأنت تشهد مصارع الجمال وبكاء الأشجار وقد تعرت من كسوتها والبرد القارس يزحف عليها وهي تتجرد من خضرتها وبهائها الذي طالما جذب إليها قلوب العاشقين والمتفائلين المحبين للحياة يرون في نضارتها وخضرتها عنفوان الحياة وسرمدية الأمل وراحة البال ومديد الفال؟ فتلهم بذلك أخيلة الشعراء فيجمّلون الحياة ببديع الغناء وروائع الألحان فيتجدد أمل القانطين والمكتئبين فيتعشقون الحياة من جديد وينصرفون راشدين؟! ألم تكن مأوي للفراشات ومصدر طعام لأسراب النحل ومقاما للطيور الجميلة المقيمة والمهاجرة والغزلان والسناجيب ولفيف لا يحصي من الأحياء؟ وحصاد ذلك كله جماليات في الكتابة والرسم والموسيقي غذاء للروح وإلهاما يشعل في موات الأجسام خفة وهمة ونشاطا وإقبالا علي الحياة. ألا تأسي علي ذلك وعلي أولئك بل تبتهج! ماذا دهاك والناس يلجؤون إليك يبتغون عندك المواساة كلما حزبهم أمر أو حط بهم كرب؟ نعم لطالما استودعوك أشواقهم يناجونك يلتمسون العون في الوصال بمن جفوهم من المحبين وأنت هنا تشدو جزلاً بذهاب ما ظل يجلب لهم الفرح ويجسد لهم جمال الحياة والأحياء؟ ألم تطرب لقول عاشق في جبروت الملك يسلب جبروته سلطان العشق فيستغيث بك قائلاً:
قالت لطيف خيال زارني ومضي بالله صفه فلا تنقص ولا تزد
أو تلك التي ارتاحت على أجنحتك تروم البحث عن شقها الضائع:
جاني طيفو طايف لحاظو كالقذائف
وأنا من عيونو خايف.. من عيونو خايف!
أو ذاك المعاتب وقد تجاهلته حين قال:
حتي الطيف رحل خلاني ما طيّب لي خاطر!
قال الطيف بعد أن سكت هنيهة كمن يستجمع قواه للرد علي هذا الاتهام الخطير، بل ماذا دهاك أنت أيها القرين؟ إنما اغتباطي بتجدد أسباب الحياة لا بذبولها وذهاب ريحها فظاهرة البيات الشتوي ظاهرة تجدد فيها الحياة مسارها السرمد فتخلد الأشجار والنبات إلي الراحة وتسترجع ما كان من عمرها الذي ذهب كما يفعل عقلاء البشر في كل حين يسترجعون ما فات من حيواتهم يصححون فيها الأخطاء ويجبرون ما طرأ من كسر في جدارها ومن خواطر من أساءوا إليهم من الخلق حتي ينطلقوا خفافاً لا تبطئ بخطاهم خطايا وأحمال فليس أمضّ علي قلب الكريم الطاهر من الرين وقالة السؤ وظلم الآخرين .لولا هذا البيات الشتوي الذي يودع الكون كل عام بهذا الوداع المفرح المطرز بهذه الأوراق الجميلة التي لا تبعث علي الحزن بل تهيأ الناس لما يأتي من جمال لما كان الربيع والخضرة والنرجس والشقائق والسندس وسائر الورود والأزاهير. تأمل كيف احتفي الناس بالربيع الذي يعقب هذا البيات:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا من الحسن حتي كاد أن يتكلما
وقد نبه النيروز في غسق الدجي أوائل ورد كن بالأمس نوما
يفتقها ورد الندي فكأنه يبث حديثاً كان أمس مكتما
وتأمل كيف رد ذلك كله لهذا البيات الشتوي الذي تنعي عليّ الحفاوة به:
ومن شجر رد الربيع لباسه عليه كما نشرت وشياً منمنما
أحل فأبدي للعيون بشاشة وكان قذي للعين إذ كان محرما.
وقال شوقي:
آذار أقبل قم بنا يا صاح حي الربيع حديقة الأرواح
واجمع ندامي الظرف تحت لوائه وانشر بساحته بساط الرياح
صفو أتيح فخذ لنفسك قسطها فالصفو ليس علي المدي بمتاح
وقالت حمدة الأندلسية تصف فعل الربيع بواحة مرت بها:
وقانا لفحة الرمضاء واد سقاه مضاعف الغيث العميم
نظرنا دوحه فحنا علينا. حنو المرضعات علي الفطيم
وأرشفنا علي ظمأ زلالا ألذ من المدامة للنديم
يراعي الشمس أني واجهتنا فيحجبها ويسمح للنسيم
وربما كانت حفاوة بن المعتز بقدوم الربيع بعد البيات هي التي جاءتنا بأبياته الجميلة:
سقي المطيرة ذات الظل والشجر ودير عبدون هطال من المطر
هذي بعض ثمرات الربيع من الشعر والغناء والجمال والفأل الحسن فما الذي يسوؤك من ذلك كله أيها القرين؟ لم يستسلم القرين بل تمادي في الخصومة واللجاج والتشاؤم قائلا: كيف تضمن لنا عودة الربيع؟ كيف إذا حل السونامي في كل مكان وماتت الحياة في الكون؟ رد الطيف أما سمعت قول الشابي:
سوف يأتي ربيع إن تقضي ربيع
قال القرين: تمنيات شاعر لا يملك من الأمر شيئا.
قال الطيف: إنما تقتات البشرية على الأمل وعلى السنن الكونية التي خطها خالق الكون، وإذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فليغرسها. ولم يلبث الطيف وقرينه أن كفا عن الحديث المباح وغابا في خضم الزحام يكبران من شأن العيش في الكون الفسيح بين الأحياء.
قلت ألا يجمل بنا معشر البشر أن نصنع لأنفسنا نوعاً من البيات الشتوي، ضرباً من الجرد السنوي، نستعرض خلاله في كل مرة ما اجترحت جوارحنا من الأفعال والأقوال وما ترتب على ذلك من الأضرار ثم نلتمس من السبل الجدير بجبر الضرر بغية التحلل من أثقال الضمير المنهك المثقل وتجديدا لمسار الحياة واسهاما في غراس الخير والجمال؟!