من جميل العرفان!

نعم..! من جميل العرفان لأهل المواهب والإبداع الحفل البهيج الذى أقامه النجمان الساطعان الدكتور والتشكيلى العالمى راشد دياب والإعلامى المعروف ورئيس نادى الطنبور الأستاذ فتح العليم الطاهر لقمتين سامقتين من أهل الفنون هما الفنان المبدع الأستاذ عبد الرحمن بلاص والشاعر المجيد محمد جيب الله ودكدكى. والحق أن الفنان الدكتور راشد دياب قد ظل ولبعض الوقت يقوم بهذا الصنيع الحميد بتكريم أهل المواهب فى كل فن فى مركزه العامر بضاحية الجريف , شرق الخرطوم. كان ذلك فى يناير المنصرم حيث أكتظت الدار العامرة على سعتها بالرواد من مختلف قطاعات المجتمع تسابقوا جميعاً ليعبروا بحضورهم عن تقديرهم لعطاء الرجلين الثمين فى إثراء وجداننا عبر عقود طويلة من الزمن.
عرفنا الأستاذ عبد الرحمن بلاص لأول العهد ونحن صبية فى حى السجانة من خلال مجلة “هنا أم درمان” أم المجلات السودانية وكانت تصدر عن الاذاعة السودانية أو ربما عن وزارة الإستعلامات والعمل على غرار “هنا لندن” التى كانت تصدرها هيئة الإذاعة البريطانية آنئذ, حيث كان عبد الرحمن بلاص كاتباً من كتابها . ثم استمعنا إليه نجماً مغنياً فى برنامج “ربوع السودان” يصدح بغناء شجىء بصوت رجولى قوى له بحات مليئة بالشجن. والمتأمل فى غنائه يجد دون كبير عناء قصداً فى إختيار كلمات ذات مضامين إجتماعية الناس بحاجة إليها. كان يناصر الفتيات صغيرات السن فى ألا يقعن فرائس سهلة لنذوات شيوخ جفت المياه فى عروقهم ولم تزل جيوبهم عامرة بالريالات والفلوس:
يمة قوليلو أبيت أبيت
قولى ليهو الشيك والحرير
والنخيل والطين الكتير ما ب يحولو قلب الكبير
قولي ليهو وكلميهم وبحديث أنا صاريحو
راسو شايب وعمرو ستين ودابى جاهلى انا يا منصفين
السعادة أجيبا من وين والله ما ب شوفوهو بالعين
آ.. يمة قوليلو أبيت أبيت
وهناك الأغنية التى كانت على كل لسان:
تكبر يا عشانا ولينا تسلم وتقيف فوق حقك الصح مو ململم
بلال يا بلال يا أبذوق عشا أمو
تأمل قوله على لسان الأم “تقيف فوق حقك الصح مو ململم”
ومعروف ما احتوت عليه الأغنية من مكارم الأخلاق فى صلة الرحم وإغاثة الملهوف والحكمة فى طلب التعلم:
يواصل أهلو والناقص يتمو ويبكر بى وليدو وأنا أشيل أشمو
وكانت تعجبنى كلماته الموغلة فى المحلية الخالية من الصنعة , أجد فيه رائحة جداتنا وعماتنا:
تميرة المشرق العند الزلومة
البقوقى دباسا بالجهتين يحوما
البشرك دودا حامى الناس العوما
دحين آ ناس أسامحا واللا لوما
وفيها أيضاً :
تميرة المشرق العلولو سامو
القبل ما ينجض السبابا حامو
و “السام” فى لهجة الرباطاب معناها الحوش. والمعنى أن تلك الحسناء المشبهة برطب “المشرق” فى حلاوة مذاقها وصفاء لونها ونضارته , مصونة داخل أسوار عالية ليس إلى الوصول إليها من سبيل . وأن السماسرة يحومون حول الأسوار العالية قبل نضجها بغية الحصول عليها والمزايدة على ثمنها لمن يقدر على الظفر بها. ولما كان “السام” من كلام الرباطاب ربما كانت الأغنية فى الأصل من أغانى التراث المشترك فى المنطقتين فالفرق ين الثقافتين الفرعيتين جد ضئيل ومحدود. والذى يزور “كجى” فى بداية جزيرة “مقرات” ربما ظن نفسه فى القرير أو نورى. ولا يمنع كون القصيدة من التراث حيث لا يعرف لها قائل, من وجود شاعر أضاف إليها إضافات فعرف بها حالها حال ” القمر بوبا” و “القوز علينا ظلم” وجل أغنيات التراث.
صدح فى تلك الليلة, ليلة تكريمه موضوع هذه السطور, بصوت قوى ندى:
الزلال الله فوقا دى بت الشمال الله فوقا
ولعل بلاص سبق أقرانه من عمالقة فنانى المنطقة إلى الإذاعة –فيما أذكر إلا أن تفندون- وتبعه بعد ذلك كبار هم إدريس إبراهيم والنعام آدم وعثمان اليمنى وإسحاق كرم الله ثم تلتهم ثلة من المبدعين المعروفين: صديق احمد ومحمد كرم الله ومحمد جبارة.
أما الشاعر محمد جيب الله ود كدكى فهو ظاهرة متفردة لم أجد له نظيراً فى شعراء العامية فى طول بلادنا وعرضها فهو صاحب أسلوب خاص فى الشعر جعل من شعره خزانة عتيقة حوت ك “السحارة” مقتنيات ثمينة قديمة من تراث الشايقية لولاه لضاعت مع الزمن فهو ثروة وحجة فى حياة الشايقية لفظاً حفظ فيه كلامهم وعباراتهم المادحة والقادحة , ومضاميناً تلمس عاداتهم فى الأفراح والأحزان . وددت لو جلس إليه بعض الشباب من الدراسين فدونوا من أحاديثه أنماطاً من العيش كانت سائدة بدا يطويها الزمان طياً. شاهدته مرة على التلفزيون يسمى كل قطعة فى آلة الساقية التى غدت اليوم اثراً بعد عين.
ولقد وجدت التفرد فى شعره فى كونه ليس “كوميديا” محضة أو ملهاة أو تراجيديا وقد يحمل كل ذلك فى طياته لكنه شعر شامل يحمل مضامين متعددة تشمل كل ضروب الحياة لكنه فى ذات الوقت يختلف عن ما درج الناس على وصفه بالشعر. وقد بدا لى كأنه أشبه بما سماه الدكتور طه حسين ” أبيجراما” قال إنه ضرب من الشعر شاع لدى الثقافتين اليونانية ثم اللاتينية ثم انتقل الى العرب فى العصر العباسى الثانى وجاراه من الشعراء بشار بن برد وحماد الراوية ومطيع. وقد وصفه فى مقدمة كتابه “جنة الشوك” هكذا: بانه ضرب من الشعر القصير ” الذى كانت تصور فيه عاطفة من عواطف الحب أو نزعة من نزعات المدح أو نزغة من نزغات الهجاء”. وكتاب “جنة الشوك” نفسه ليس سوى محاولة لإحياء ذلك الفن فى الثقافة العربية.
يصف ودكدكى فى قصيدة ” مركب على الله” التى يصور فيها عقوق الأبناء قطار كريمة:
مى ملانا لا عينو ديما
إن جا التمر تلقاه للوكاى زرد
والمنقة وقتين تستوى……
وتصل حد القهقة من الضحك وهو يصف لك الصوت الذى يحدثه عدو ذلك القطار عند محطات بائسات كالدغفلى :
الدغفلى قلبى إنقطع … بم .. بم ..بم..
ولقد مات قطار كريمة وبعد حين يطوى الموت بقية الأجيال التى تمتعت أو اكتوت –كيفما شئت- بركوب ذلك القطار ويبقى وصف ود كدكى صدى يصور للأجيال اللاحقة أن قطاراً بذلك الوصف قد كان!
ويقول فى ذات القصيدة وبإيقاع مؤثر لكلمات من الأب المكافح لولد قاس كبده مؤونة السفر إليه بذلك القطار إلى الخرطوم بحثاً عنه:
أمك ذاتا كانت جاى لاكين بيتنا ما بتفات واخيانك صغيرين!
هذه مضامين إجتماعية محرضة على كريم الأخلاق من بر الوالدين وحب المساكين.
ونتمنى على مركز الدكتور دياب مواصلة هذه السنة الحميدة وتكريم المبدعين فى كل فن من شتى بقاع الوطن. وتعجبنى كثيراً إيقاعات نصائح سيدة كردفانية لبنتها تحضها على المحافظة على زواجها أثارت لغطاً لبعض الوقت ترددها إذاعة البيت السودانى:
يا بنيتى حسابو…
هذا تراث جميل يصان ليشكل مخزوناً تنهل منه الأجيال اللاحقة أفضل ما فى ثقافتنا من خير وتسامح.

تعليقات الفيسبوك