وفق ما جاء في كتاب “النيل الأزرق” فإن الوصول إلي منبع النيل الأزرق في الهضبة الحبشية قد تأكد عبر الاسكتلندي جيمس بروس في القرن الثامن عشر كما سيرد بتفاصيله لاحقاً بينما بقيت منابع النيل الأبيض من المجاهيل التي أحاطت بها التخرصات والأساطير. وكان المؤرخ الإغريقي هيرودت قد حاول الوصول إليها لكنه عاد أدراجه بعد وصوله إلي الشلال الأول عند أسوان يائسا من صعوبة تحقيق ذلك لكنه صرح بتصريح اتضح أنه كان الأقرب للحقيقة بأن النيل ينبع من (نوافير) في مرتفعات في قلب القارة. ذلك كان في العام ٤٦٠ قبل الميلاد. وظل ذلك اللغز شاخصاً حتي عام ١٨٥٦ ولم تتمكن محاولات الاستكشاف تجاوز مدينة جوبا عند خط العرض ٥ شمالا بسبب كثافة الغابات والجنادل علي مجري النهر بالإضافة لحشائش البردي التي تعيق الملاحة وشدة الحر وتفشي الملاريا بالإضافة لشراسة القبائل في ذلك الإقليم الرافضة لتغلغل الغرباء في ديارها. لذلك واستناداً لكتابات قديمة لتاجر يوناني يدعي دايوجنس عاش في القرن الميلادي الأول زعم أنه نزل من باخرة جاءت من الهند في الساحل الشرقي لإفريقيا في منطقة تسمي رابطة (تقع في كينيا)وتوغل إلي الداخل لمدة خمسة وعشرين يوماً حتي وصل قريبا من بحيرتين عظيمتين تطل عليهما جبال يكسو قممها الجليد و يتحدر منها نهر النيل الأبيض. استناداً علي ذلك جاءت فكرة الوصول إلي منابع النيل مرة أخري اختراقاً من زنجبار غرباً حتي وسط القارة. وهكذا حل بزنجبار أثنان من المستكشفين هما ريتشارد فرانسيس بورتون وجون هانينق سبيك عام ١٨٥٦.
أعطي المؤلف في كتاب “النيل الأزرق”، لمحة عن حملة إسماعيل باشا علي السودان مشيرا إلي أن إسماعيل هو أصغر أبناء محمد علي وأنه كان في الخامسة والعشرين من عمره ورغم أنه وُصِف بأنه شاب مجامل ومتحضر إلي أن سلوكه في قيادة الحملة وفي تعامله مع القوة التي كان يقودها جعله أبعد ما يكون عن ذلك الوصف وأنه في الحقيقة كان أقرب شبهاً بقائد التتار المتوحش( جنكيزخان) تدل علي ذلك الرسائل العديدة التي كان يتلقاها من والده الباشا ينصحه فيها بالرفق بالسودانيين بما يدل علي معرفة لصيقة به تدل علي قسوته وغلظة طباعه .وعلل ذلك بأن إسماعيل كان عالي الصوت سريع النطق بطريقة يصعب معها فهم ما يريد ولعله كان يداري ذلك العيب بقسوة مبالغ فيها. فقد كان سريع الغضب والانفعال يقضي أوقاته في لعب الشطرنج مع مهرج اصطحبه معه فإن تغلب المهرج عليه منحه قطعاً ذهبية من النقود وإن كانت الغلبة له ضربه عشرين سوطاً! أما القوة التي يقودها فلم تجاوز أربع آلاف جندي. قال المؤلف في وصف جنود الحملة بأن المرء يتردد المرء في وصفهم بالجنود. فنصفهم من الألبان والأتراك ونحو ألف من البدو و الغالبية العظمي لأولئك الجنود يمكن وصفهم بالمرتزقة وأنهم قد انخرطوا في هذه الحملة بغرض الحصول علي الغنائم بالنهب عند هزائم العدو والظفر ب ( خمسين قرشاً مقابل كل أذن آدمية يقطعونها من رؤوس المنهزمين كوعد محمد علي باشا لهم)!!ص ١٩٣
وكان في معية الحملة ثلاثة أوربيين هم البريطاني واديغتون، المؤرخ الديني الذي أصبح مديراً لجامعة درام والأمريكي جورج إنقلش الذي تخرج في هارفارد وبدأ حياته قسيساً ثم الفرنسي فريدريك غيليو . وكان بينهم ما صنع الحداد من البغضاء والكراهية. ولولاهم لما عرف الناس شيئاً عن هذه الحملة فقد وثقوها في كتابات ومذكرات وكان الفرنسي أكثرهم تأثيرا بكتابه (الرحلة إلي مروي ” أي البجراوية”). الذي جذب انتباه أوروبا لاستكشاف السودان ومنابع النيل.
وجاء في كتاب “النيل الأبيض” أنه تصادف مع مهرجان الاحتفال بافتتاح قناة السويس في ١٧ نوفمبر عام ١٨٦٩ الذي قاطعته بريطانيا ، وجود أمير وأميرة ويلز في زيارة لمصر ( أصبح بعد ذلك الملك إدوارد السابع والملكة الكساندرا) جاء في معيتهما صمويل بيكر وهو إنقليزي ميسور الحال كترجمان إلي العربية فكلفه الخديوي إسماعيل بقيادة بعثة لاكتشاف منابع النيل الأبيض لمعرفته بالمنطقة حيث سبقت له زيارات إلي افريقيا بغرض صيد الحيوانات الكبيرة، زار خلالها الخرطوم قادماً من اثيوبيا في مسعي لاكتشاف النيل الأزرق ساقه إلي نهر عطبره ومن هناك اتجه إلي الخرطوم في معية زوجته المجرية فلورانسا والتي وصلها عام ١٨٦٢ وكتب عن الخرطوم وصفاً مقززاً، قال هي:
” أكثر الأماكن تعاسة، وهي بقعة قذرة تفتقر إلي الصحة لدرجة يصعب تصورها و تمتد بعيدا عن النيل صحراء كئيبة. ويسكن المدينة نحو ثلاثين ألف شخص يعيشون في أكواخ من الطوب المحروق في حيز مكتظ وكثيراً ما تغمر مياه الفيضان هذه الأكواخ . وترقد الحيوانات النافقة متحللة في شوارع غير معبدة .والإمداد الوحيد لمياه الشرب سائل طيني ترفعه من النيل في جرار من الطين المحروق، سواق تديرها ثيران بدورات مكتملة في ذات المكان……. ولا يمكن إنجاز عمل في المدينة دون دفع رشاوي…….أما موسي باشا (الحاكم العام) فيمثل أسوأ فشل الشرقيين كما أنه إنسان بقسوة حيوان مفترس!”. عدل المؤلف هذه الصورة تماماً عندما زار الخرطوم هو عام ١٩٦٠ حيث خلع عليها أوصافاً حسنة في خاتمة الكتاب.
وفي فبراير ١٩٧٠ وصل صمويل بيكر وبعثته شبه العسكرية إلي الخرطوم ليتجه مباشرة إلي غندكورو في الاستوائية التي اتخذها قاعدة ينطلق منها جنوباً إلي منابع النيل . وهكذا تأسس أول مركز اداري في هذه المنطقة تابعاً للحكومة المصرية في القاهرة، يسمي المديرية الاستوائية. وللحقيقة فقد أبرز الرجل براعة في إدارة هذه المنطقة وأقام فيها بنايات ومصالح وطرق وانطلق منها بصعوبة بالغة وتصميم نادر ليصل إلي بحيرة البرت كأول أوروبي يصل إلي هناك . ويبدو أن في الرجل روح دعابة. قال إن شيخاً ليس من كبار شيوخ منطقة باقندا يدعي (كمورو) كان شخصية عيابة ذات نظرة سوداوية للحياة متشائمة يري أن غالبية الناس مفسدون وظلمة. فإذا كانوا أقوياء أخذوا حق الضعفاء . خيار الناس عنده هم جميع الضعفاء و سبب ذلك أنهم لا يقدرون علي الظلم!!” كأنه يقول والظلم من شيم النفوس وإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم!. قال سألني مستنكراً مرة: ” هب أنك وصلت إلي البحيرة العظيمة ماذا ستفعل بها؟ ما جدوي ذلك؟ وهب أنك قد وجدت أن النهر العظيم ينبع من هناك ،ماذا بعد؟! ”
وقد تمكن صمويل بيكر من الوصول إلي بحيرة البرت كأول أوروبي ينجز ذلك. وتمكن جون اسبيك كأول أوروبي يصل لبحيرة فيكتوريا. وهكذا تحقق الحلم بمعرفة ينابيع النيل الأبيض.
ومن مقتبسات المؤلف عن غردون في حق المسلمين: ” إن العرب تجار الرقيق ليسوا بالسوء الذي ينعتون به بل هناك حتي فضائل في الإسلام. بالنسبة لي، إن المحمديين يعبدون الله كما أفعل أنا وستقبل عبادتهم إن تمت بإخلاص تماماً كأي مسيحي.” وأيضاً ” إنني أحب المحمدي ، إنه لا يخجل من عقيدته ،إن حياته تتسم بالنقاء.” النيل الأبيض” ص٢٠٩
ونوجز قصة اكتشاف بحيرة تانا كمنبع للنيل الأزرق وفق ما جاء في “النيل الأزرق” في أن الاسكتلندي جيمس بروس (١٧٣٠-١٧٩٤) قد وصل إلي هناك عبر البحر الأحمر منطلقاً من القاهرة إلي جدة وبمساعدة قنصل بريطانيا فيها سافر إلي مصوع ثم اخترق البر عبر السهول صعوداً إلي الهضبة الإثيوبية حيث وصل إلي غندار في الحبشة في فبراير عام ١٨٧٠ ومنها وصل إلي بحيرة تانا التي كان يظنها المنبع الأوحد لنهر النيل وعاد أدراجه عن طريق السودان ماراً بعاصمته يومئذ مدينة سنار. وكان قد زعم أنه أول أوروبي يصل إلي بحيرة تانا واتضح أن ذلك زعماً ليس بمزعم إذ الصحيح أن القس البرتغالي الأب، بدرو بيز وصلها قبله في ١٦١٨.
و لا غرابة في وصفه للأهلين والذي لا يستحق أن ننفق فيه كثير وقت، فقد تضمنت أوصافه لهم أسوأ الأوصاف يغذيها ذات الصلف الاستعماري الذي لا يري في حياة الأهلين خيراً قط ولا يرد اختلافهم عن مجتمعات أوروبا إلي سياقاتهم الثقافية. قال إنهم أناس بدلاً من أن يجعلوا حلق الزينة في آذانهم فإنهم يجعلونه في شفاههم و مسوحهم الديني المقدس من دم الأبقار عوضاً عن دهن الدب و بدلاً من التمتع بأكل اللحم مطهياً طازجاً ساخنا، فإنهم يلعقون بألسنتهم الدم من لحم حيوان لايزال حياً! وتهكم حتي علي كنائسهم بقوله : إن الرسومات علي حائط الكنيسة للمقدسات جعلت من السيد المسيح وحوارييه من الإثيوبيين من ذوي البشرة البيضاء في حضور قديسات نصف عاريات جميعهن بيضاوات بينما الصورة المرسومة الوحيدة التي تحمل اللون الأسود كانت هي التي ترمز للشيطان!
( للمرحوم مالكولم إكس عبارات طريفة ساخرة عن التماثيل البيضاء في الكنيسة ورمزيتها العنصرية).
ونقف قليلا عند محطة الحبشة هذه في علاقاتها الداخلية والإقليمية فقد وصل إلي عرشها الإمبراطور ثيودور في العام ١٨٥٣ وأعلن نفسه: ثيودور الثالث إمبراطور إثيوبيا بعد أن قضي علي كل خصومه . وهو مسيحي أرثوذكسي من قومية الأمهره نسب أصله إلي الملك سليمان. ونلاحظ هنا في اطار العلاقات بين مكونات إثيوبيا الداخلية أن التنافس بين قومية التقراي و قومية الأمهره علي حكم إثيوبيا كان قائماً منذ ذلك الوقت كما سنري فيما قدمته قومية التقراي من عون للجيش البريطاني الذي جاء لتحرير الرهائن الأوربيين . وصف الكاتب الإمبراطور ثيودور لشراسته وعنفه بأنه ككلب عقور أُطلق من اساره وأنه تجسيد أسود( لإيفان الرهيب) الذي أسس العائلة القيصرية في روسيا( في القرن السادس عشر.) فكرت بريطانيا في عقد معاهدة معه وأرسلت إليه وولتر بلاودن. و قتل ذلك الرجل ورفيقه أثناء تجوال لهما في البلاد فقام الامبراطور بقتل ألفي شخص من رجال المنطقة التي قتل فيها القنصل وصاحبه . وبعد ذلك أرسلت بريطانيا كابتن شارلس كاميرون ليحل مكانه برسالة صداقة للإمبراطور عام ١٨٦٢ فرح الإمبراطور برغبة بريطانيا في التعامل معه فأرسل رسالة إلي ملكة بريطانيا قال فيها أنه علم أنها مسيحية مستعدة لحماية ومساعدة كل المسيحيين وأنه كإمبراطور مسيحي مهدد من الأتراك في السودان والذين يمنعونه من تبادل الرسائل والسفراء مع بريطانيا وأنه بحاجة إلي عونها . ولم ينس ذكر المجزرة التي ألحقها بمواطنيه انتقاما لقتل رسولها وصاحبه كقربان للصداقة. تجاهلت بريطانيا الرد علي تلك الرسالة لمدة عامين ، فغضب الامبراطور لذلك التجاهل. وحدث تطور هام ضاعف من غضبه وزاد من شكوكه وتوجسه وهو وأنه بسبب الحرب الأهلية في الولايات المتحدة الأمريكية وتوقف زراعة القطن في جنوبها فقد تضاعفت أسعاره أربع مرات في السوق العالمي وبالتالي زادت قيمة صناعة النسيج فطلبت بريطانيا من القنصل كاميرون التوجه إلي كسلا في السودان لبحث إمكانية زراعة القطن هناك ومناقشة قضايا من بينها تجارة الرقيق. علم الإمبراطور ثيودور بذلك فاستشاط غضباً .كيف تتآمر بريطانيا مع عدوه الأول في المنطقة، السودان البلد المسلم وحكامه الأتراك يعدون العدة لغزو إثيوبيا ؟ فلما عاد كاميرون وضع الأغلال في يديه ورجليه ورماه في السجن هو وكل الأوربيين في مملكته. لم يجدِ نفعاً بالطبع الرد علي تلك الرسالة الذي جاء متأخراً يلتمس فك الرهائن فاضطرت بريطانيا لترسل جيشاً من الهند بقيادة ( الجنرال نايبار) الذي أرسي سفنه في جيبوتي وجاء بأفيال من الهند لحمل المؤن وبني خطاً حديديا في اتجاه المرتفعات وتمكن من الوصول إلي مقدالا حيث الإمبراطور ثيودور بعون ومساعدة متمردي قومية التقراي، فأطلق ثيودور ا الرهائن فأخذهم الجيش البريطاني إلي خارج البلاد ثم عاد من حيث أتي بما بقي من الأحياء من الأفيال والجنود وفكك خطوط السكة حديد وعاد بها إلي بومباي. هكذا دون أن يترك وراءه حامية أو نقطة ودون أن يحفل بمن سيخلف ثيودور الذي انتحر. ذلك أشبه بموقف الخليفة عبد الله بعد أن قتل جيشه يوهانس إمبراطور الحبشة واجتياح عاصمته إذ تركها وعاد إلي السودان!
يقول الكتاب في الختام” إن هزائم الخيالة الثلاث أمام السلاح الناري قد حطمت عزلة وادي النيل من بحيرة تانا وحتي البحر(الأبيض المتوسط).و إن أياً من تلك المعارك ، سواء معركة الهرم (جيش نابليون) ضد المماليك أو معركة قبائل الشايقية في كورتي أو معركة البريطانيين في مقادلا بإثيوبيا لم تستغرق أكثر من ساعة أو ساعتين ولم يشارك فيها سوي بضعة آلاف.” ومع ذلك فقد طوت صفحة العصور القديمة في تلك البلاد و إلي الأبد وفتحت عوالمها لتصبح جزءاً من العالم المعاصر.”
لقد اشتمل الكتاب علي معلومات هامة عن كيفية صعود نابليون بونابارت إلي عرش فرنسا رغم أنه ليس من عائلات باريس المرموقة بل جاء من جزيرة كورسيكا في الجنوب بلكنة ريفية يميزها أهل باريس وينظرون إلي الناطقين بها من عل. ولما حقق نابليون الانتصارات في إيطاليا كان يعلم أن الطريق إلي القمة لا يزال طويلاً فلم تصرف الابتهاجات بها نظره عن مراميه البعيدة. قالت له سكرتيرته عن أنه قد اكتسب شعبية كبيرة بانتصاراته تلك في إيطاليا. قال لها ساخرا ” لا تعجبي من اصطفاف هؤلاء المعجبين بي، غداً سيصطفون مبتهجين إذا أُخذت إلي منصة الإعدام!”
وبعد… فمن أشد عيوب الكتاب علي ما فيه من حقائق عن قسوة ولا إنسانية تجارة الرقيق وانها بالفعل سبة أبدية في جبين الإنسانية جمعاء ، تكراره الدائم في الكتابين للقول إن العرب المسلمين في القاهرة وزنجبار ظل مصدر رزقهم الأول هو تجارة الرقيق! وهو قول متحامل ومبالغ فيه كما لو أن غرض ذلك هو التغافل عن دور الغرب (المتحضر) فيها وفي أبشع صور الاسترقاق عبر الأطلنطي لقرابة ثلاثة قرون جعلت نصف سكان البرازيل اليوم من أصول إفريقية ونسبة مقدرة من سكان أمريكا الوسطي منهم بالإضافة إلي نحو ١٣٪ من سكان الولايات المتحدة . بالطبع هذا لا يبرر مشاركة العرب في تلك التجارة اللعينة ، ولا يعفيهم من تبعاتها الأخلاقية وأي تبريرات لتكرار الأخطاء والرذائل علي طريقة هذه بتلك فاسدة منطقياً ومبتذلة إنسانياً ، وكما قال البرفسور علي المزروعي في سياق المقارنة بين جرائر العرب والأوروبيين في شأن الرق والاسترقاق : أين ذهبت تلك الألوف التي اتهم العرب باسترقاقها ؟ففي بلاد العرب اليوم قلة لا تكاد تذكر من بقايا أولئك وفي فارس التاريخية كذلك ؟ أين هم عند المقارنة بمن أخذوا عنوة إلي العالم الجديد وأثروا أوروبا والأميركتين عبر صناعات السكر والقطن والقماش؟ صحيح أن ألان مورهيد أشار أحيانا إشارات محتشمة لمثالب غربية هنا وهناك وذكر أن نبي الإسلام جعل عتق الرقاب فضيلة. لكني لا حظت أيضا كثافة الاستخدام المستمر لرجال الإدارة البريطانية وللمؤلف لكلمة (العرب) في وصف السودانيين الشماليين والتي تلحق بها عبارة تجار الرقيق كما لوكان كل السكان تجار رقيق! ولعله استخدام مقصود يثير كوامن ما خلفته الحروب الصليبية من ضغائن لدي الأوربيين فاتخذوها مطية يسوغون بها كثيرا من الظلم الذي وقع علينا حتي وقت قريب. وقد تم تبرير كثير من التدخل في القارة بحجة منع تجارة الرقيق كما أن كل التمجيد الذي حظي به شارلس غردون كان باعتبار الرجل ليس مستعمراً بل محرراً للرقيق بينما ألغت بريطانيا تجارة الرق رسميا في العام ١٨٠٨
وبعد… ففي قراءة الكتابين متعة لا توصف فالكتابة أتت مزيجاً من حقائق التاريخ مطرزة بالخيال الخصيب ومصاغة بكتابة أدبية رصينة تحاكي كتابة أدب الروايات والرحلات و تكثر من وصف الطبيعة ومن غرائب عادات الأهلين تبتغي الإثارة والتشويق. قال متعجباً عندما تحدث بإعجاب عن حضارة النوبة إن هذه البقاع التي تبدو جرداء اليوم خالية من السكان قد غزاها الفرس والرومان واليونان والمصريون والنوبيون أنفسهم بحثاً عن العبيد والذهب والعاج. لقد كانوا جميعاً يعبدون الشمس وهي عدوهم بدلاً من عبادة النيل الذي يشكل أملهم الوحيد في البقاء على قيد الحياة!
——————–
( للمزيد فقد دلنا أفاضل علي ترجمة حسنة لكتاب( النيل الأزرق) قام بها الدكتور إبراهيم عباس أبو الريش، من نشر دار المعارف المصرية عام ١٩٦٢).