قال: كانوا ثلاثة كنت رابعهم. جلسوا قبلى بعام لدخول المدارس الثانوية ولم يحالفهم الحظ فسجلوا للإمتحان من منازلهم فى العام الذى كنت أجلس فيه أنا لذات الغاية: دخول المدارس الثانوية الحكومية: طاهر من حجر العسل وتاج السر من أبو هشيم وحيدر من الكاملين وكان يسكن مع ماجد الذى هو من مدينة ود مدنى بجذور تمتد إلى الكاملين من جهة أمه. وفى عرف مدينة الشيخ مدنى السنى لا قيمة لهذه الجهات التى أتوا منها فالذى يرتضى (ودمدنى) داراً له تصبح داره كأنه قد قدم مع العارف بالله من المغرب القصى قبل قرون خلت وكأنه من بعض رهطه من عشيرة المدنيين آل قاضى العدالة ود دشين الذى تصدى ببسالة لوجيه الركابية محمد ود عبد الصادق الهميم جد الصادقاب و (راجل المفازة) فى (البطانة ) .ومن المدنيين الشيخ المربى الأستاذ الجيلى ورهط كريم من آل دشين يملأوون السهل والجبل ويزينون مجالات الحياة كافة. وماجد كان يدرس فى الثانوية المصرية وكان يتباهى بأنهم هناك يدرسون الفرنسية, فالصابون يسمى (سافو) والكراسة تسمى (كايى) وربما نطق العبارة كاملة (هذه كراسة أو دفتر) بالفرنسية (ستون كاييى) وربما أطرى نفسه بنفسه بالفرنسية قائلاً أيضاً (تغبيان) يعنى (ممتاز!) بالراء الفقيرة إلى الموسيقى والتى تنطق ربما دلالاً كالغين! وقيل لنا لاحقاً أن رئيس السنغال الأسبق الضليع فى الفرنسية ليوبولد سنغور وكان عضواً فى الأكاديمية الفرانكفونية ولعله أصبح رئيساً لها بعد ذلك أو أن خلفه عبدو ديوف هو الذى حظى برئاستها, فكأنه عندنا معاشر الناطقين بالضاد فى مصاف الأخفش والمبرد والكسائي والأصمعى دراية بالفرنسية ,وتلك الأكاديمية إنما هى مؤسسة تعنى بحراسة اللغة الفرنسية من تغول الإنقليزية التى تتمدد على حساب سائر اللغات بالمخترعات الأمريكية فى كل حين بل وتفرض تلك المؤسسة العقوبات على الفرنسيين الذين يقحمون – فى غيرما ضرورة- مفردات الإنقليزية فيما يكتبون أو ينطقون . كان سينغور يعد ذلك ميوعة باريسية لا معنى لها فالراء هى الراء مثل الواو (الضكر)لا تصلح جرسها المساحيق وأنهم فى جنوب فرنسا جهات (مرسيليا) التى يقال إنها عربية الأصل ومعناها (مرسى) ينطقونها راءً حافة (تضرس). ويعلق البروفسور على مزروعى (كينى الأصل) على الحظوة التى نالها سينغور الإفريقى لدى الفرنسيين بأن إتقان الفرنسية والتخلق بأخلاق الفرنسيين كان كافياً للإندماج فى فرنسا لا يحول بين من توافرت له أسباب ذلك حائل من عرق أو دين على نقيض الأنجلو ساكسون الذين لا سبيل إلى الإنصهار فى بوتقتهم إن كنت من عرق أولون لا يتميز ببياض لا شية فيه. قال ذلك وكأنه يأسى على فرنسا وقد خاطبه النادل فى إحدى مقاهى مدينة النور الشهيرة بوقاحة مستفسرأ عن طلباته من المشاريب: “ماذا تريد يا ولد أو إن شئت (يا صبى)؟ “وهو يومئذ قد تجاوز الخمسين ! وكلمة ولد أو صبى مشحونة بأحمال ثقيلة من العرقية البغيضة . كان ذلك فى مسلسله التلفزيونى الأشهر فى عشرية الثمانينات من القرن الذى ذهب.وأغلب الظن أن عبارة ماجد ” هذه كراسة” بالفرنسية كانت مبلغ معرفة ماجد من الفرنسية فقد كان فى الصف الثانى من الثانوية. لم يكن أحد يحفل به فقد كانت فيه بساطة وتلقائيه تضاهى العبط رغم أنه كان ودوداً حاد الذكاء كريماً إذا جئنا للسهر للإستذكار عندهم فى البيت سارع إلى جلب الفول والرغيف وبالغ فى الإلحاح علينا فى الأكل ثم سارع ليأتينا بالشاى ثم تطل أمه الحنون بإبتسامة صادقة وهى تدعو لنا (الله يوفقكم يا أولادى) ثم تأمر ماجداً بحزم بمغادرة المكان لنتفرغ نحن للمذاكرة.
كانوا (الثلاثة) يدرسون نهاراًعلى يد أستاذ قدير سبق أن تلقوا عليه العلم فى المدرسة الوسطى يلتقيهم يومياً فى ناد لعمال الرى فى حى 114 ثم يلتقون ليلاً عند ماجد وكنت أشاركهم تلك المذاكرة عندما يتعذر علىّ الذهاب للمذاكرة فى المدرسة التى كانت إجبارية على أيامنا أو أمسية الجمعة حيث الليلة الوحيدة التى لا مذاكرة فيها بالمدرسة فنهارها الخميس وهو يوم ذاك “عيد المطاميس” لما يستباح فيه ليلاً من ألوان اللهو البرئ وغير البرئ فى تلك الأيام. وكانت الحصيلة من تلك المذاكرة جد قليلة فقد كان حيدر عياباً لا يعجبه العجب إذا أطربت أحدهم عبارة أدبية أو بيتاً من الشعر من القصائد المقررة وعبر عن ذلك الطرب قائلاً مثلاً (يا سلام) قضينا ساعة من زمان فى لجاج عقيم يبتدره حيدر قائلاً :(يعنى شنو؟) تبخيساً للطرب كأنه يعد التعبير عن الإعجاب ضرباً من التعالم الفج. والعبارة تماثل قولك كأنك تغتاب أحدهم بلغة أهل الشام (شايف حالو) وبلغة شبابنا اليوم (فاكيها فى روحو) وربما (عامل فيها أبو عرام!).وتلك وسيلة تصح لضرب من الرجال (رجل لا يدرى ولايدرى أنه لايدرى) لكنها تصبح آلة قمع حادة وقاتلة لبراعم من الإبداع تطل براسها فينهال عليها صنف من الناس قتلاً بلا رحمة يحسبون كل مبدع جديد يكون بالضرورة خصماً من إبداعهم وإنتقاصاً من صيتهم وما علموا أن حواء ولود إلى قيام الساعة وأن سوح الإبداع تمتد فى الآفاق طولاً وعرضاً بلا سقوف وفيها متسع لكل صاحب موهبة وفن. ولكثرة ما كان حيدر يفعل ذلك أطلقوا عليه سراً اسم (أخونا يعنى شنو) : (يعنى شنو قال.. يعنى شنو عيان.. ) وهكذا. ولم يكن للمسكين من حظ يذكر فى مادة من المواد وكان تائهاً ينفق الوقت فيما لايفيد. وكان الطاهر القادم من حجر العسل مولعاً بالشعر فشقيقه تخرج فى دار العلوم فى مصر. وكان حسن الصوت إذا دندن لنفسه بغناء شجى:
لحن الحياة منك ما تقول نسينا الماضى
وصرنا ناسينك …..محبوبى الجميل
وكانت قصيدة المتنبئ فى عتاب سيف الدولة مقررة واجبة الحفظ على الجالسين لإمتحان الشهادة الصغرى ولم تكن مقررة بالكامل بل اختاروا منها أبيات تبدأ ب:
يا أعدل الناس إلا فى معاملتى فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
دلنا الطاهر على مطلعها الذى يقول:
واحر قلباه ممن قلبه شبم ومن بحالى وجسمى عنده سقم
ما لى أكتم حباً قد برى جسدى وتدعى حب سيف الدولة الأمم
وانتشى الطاهر حقيقة وهو يشرح الأبيات.ودارت عبارة الإستحسان المحببة لدى عرب السودان (يا… سلام..) فأخرج (يعنى شنو) من قمقمها وكاد يحدث عراك بالأيدى منعه صوت السيدة الحنون من وراء الشباك ( يا أولادى إن شاء الله خير..) عدنا إلى سابق حالنا نتصنع السكون بالنظر إلى السطور المشرعة أمام كل واحد منا. وكان الليل قد أوغل التسفار وبدأت سيمفونية التثاؤب فقررنا التوقف والعودة إلى دورنا. خرجت أنا والطاهر وتاج السر عند الثانية صباحاً متجهين إلى حيث نقيم بنصف عيون يقظة. فراعنى ما رأيت ونحن نترنح من هول النعاس, مخلوقاً عجيباً يسير مثلنا منتصباً على قدمين لكن براس كبش وفم حلوف بأذنى حمار ناصع البياض يكسو جسده فرو كفرو الثعالب . راعنى ذلك كثيراً رغم أن إيمانى بالغيبيات وقتئذ لم يكن يتعدى الست الواردة فى حديث ابن الخطاب وكنت صاحب لجاجة فى نفى رؤية شياطين الجن بأنهم يروننا ولا نراهم وفق منطوق الآية القرانية وبلغت بى الجرأة أن قطعت عقبة كأداء تمتد لثلاثة كيلومترات من بيتنا فى قريتنا البعيدة ليلاً فى الصحراء وهى تضم مقابر معروفة تعرضت لتوبيخ قاس بديلاً عن الترحاب الحار من أقربائى فى القرية التى كانت مقصدى وعابوا علىّ ما راؤوه طيشاً وتهوراً من حدِث فى نحو الرابعة عشر من العمر. قلت لهم ساخراً لم أصادف غولاً ولا عنقاء. قالوا وقاك الله شر الثعابين والضباع! وفشا فى أهلنا يومئذ حديث عن (السحاحير) ومفردها (سحّار) وهى مخلوقات خرافية تخرج من النيل لتصطاد الناس طعاماً وكانوا يمقتون جرأتى فى السخرية منهذا الإعتقاد وربما أقسموا أنهم رأوا (السحاحير) رأى العين. ومع تلك التجربة البطولية فى إجتياز الصحراء ليلاً وحيدا ًإنتابنى خوف شديد وانا أنظر إلى المخلوق العجيب الذى أمامى. سألت صاحبى فأكداء فى دهشة أن ليس ثمة شئ أمامنا وسألانى مازحين إن كنت أعانى أحياناً من (حمار النوم) أى المشى بلا وعى أثناء النوم فأجبت بالنفى وفركت عينى فتغير المشهد كله ووجدتنى فى ورطة عظيمة معلقاً على فرع من شجرة الحراز فى قريتنا البعيدة ومياه فيضان النيل قد غمرت جذع الشجرة الضخمة وصوت الأمواج الغاضبة تصفع الشاطئ كل حين بل تهدمه هدماً فتتهاوى كتل التربة الضخمة فى أعماقه فيبدو وكأن النيل يقتات عليها. أما الفرع المتشبث به أنا فكان قد إنكسر وبدأ يحدث صوتاً ينم عن دنو أجلى وأنا أرى جمهرة من التماسيح مختلفة الأحجام تنتظرنى ممنية النفس بإفطار هش طازج.كنا نتسلق هذه الأشجار فى صبانا الباكر نلتمس جنى ثمارها المعروفة بالخروم أو الخريم كما يسمونه فى مناطق أخرى وهى علف يستهوى البهائم فى لون البرتقال وسمك البسكويت ,فيه نشا وقليل من السكر إذا اكتمل نضجاً ولك أن تنال منه وهو بعد طرياً لم ينل منه اليباس فهو عندئذٍ يكون بطعم فاكهة الموز لم تكتمل نضجاً . قال أهل التفاسير إن هذه الثمرة الحلوة (الموز) التى اختص الله بها مواطن بؤساء العالم الفقير قبل ان تسطو عليها الشركات متعدية الجنسيات ,هى بعض فاكهة الجنة وهى الطلح المنضود الوارد فى التنزيل. وكان الغصن المكسور الذى يتدلى بى مع كل (طقطقة) يحدثها يفجر ينابيعاً جديدة من الخوف والذعر فى نفسى فيزداد صراخى. وكانت أقرب الدور إلى النيل دكان عبد الستار فدب فى نفسى بصيص من الأمل فى إمكانية أن يسمع إستغاثتى فيهب وبنوه لنجدتى لكنى تذكرت أنه ثقيل السمع بطئ الحركة وأنه كسائر أهل القرية ينام بعد صلاة العشاء الآخرة مباشرة دون تاخير. قلت ربما سمع إستغاثتى من عليه نوبة( العشاوى- أى نوبة بعد الِعشاء) فى إدارة الساقية (الناعورة) لكن السواقى بعيدة من هنا كما أن أنين النواعير الكثيرة لا يترك مجالاً لصوت مستغيث أن يغشى الآذان . ثم ودع الغصن الكسير جذع الشجرة وألفيت أرجلى تلامس الماء فصرخت كأقوى ما أستطيع وجسمى النحيل الضئيل يغوص فى الماء واسمع جلبة التماسيح تتقاتل علىً. وفجأة وجدت اليد الحانية لأمى ترفع عن وجهى الغطاء: ” يابا قول بسم الله.. الليلى يا سيدى الحسن … الشمش جات فوقك . قوم اشرب الشاى وألحق الوليدات جيب اللحم!”
معنى أن تصبح إفطاراً على مائدة التماسيح!
0