تجمع الدراسات التاريخية والأنثروبولوجية معا على قدم تاريخ الجزء الشمالى من السودان الممتد من الحدود المصرية الحالية وحتى حدود مملكة علوة جنوب الخرطوم. وقد ذهب الدكتور على محمد عثمان رئيس قسم الآثار بجامعة الخرطوم عبر برنامج بثته قناة السودان الفضائية فى العشرين من شهر فبراير من عام 2005….الى أن مدينة ربك الحالية فى ولاية النيل الأبيض تمثل الحد الجنوبى لممالك النوبة القديمة وأن تاريخ تلك الممالك قد امتد لعشر آلاف سنة كاملة. والشاهد الحى على ذلك كتابات الرحالة الاغريق والرومان بل والآثار الرومانية واليونانية الشاخصة حتى اليوم فى كرمة وفى المصورات الصفراء شمال الخرطوم ثم ماورد فى الانجيل عن بلاد كوش وعن أن تهراقا قد حرر الأرض المقدسة فى فلسطين من الفرس الغزاة وما ورد فى العهد الجديد من أن السيد المسيح قد أوحى للقديس يوسف أن يعمد الخصى وزير خزانة الكنداكة ملكة النوبة فى منطقة غزة الحالية كأول (أمى – جنتايل gentile ) ليعتنق الديانة المسيحية. وقد ورد ذكر اثيوبيا والتى تعنى بلاد النوبة وأجزاء من ممالك الحبشة القديمة فى أكسوم أكثر من ثمان وثلاثين مرة فى الانجيل بجزئيه العهد القديم والجديد ثم كتابات الرحالة العرب قبل وبعد دخول الاسلام الى بلاد النوبة وما أفرده ابن خلدون عن تغلب الثقافة العربية فى السودان عبر نظام الوراثة النوبى.
والشاهد من هذا الاستطراد أن هذا الجزء من السودان كان جزئا من العالم القديم تأثرا به وتأثيرا فيه وقد ظل على هذا الحال حتى العصر الحديث حتى جاء محمد على باشا فى القرن التاسع عشر ليضمه اسميا الى الامبراطورية العثمانية ويضم اليه ممالك لم تكن جزءا منه شرق وغرب النيل فى كردفان ودارفور والتى عجزت دولة سنار التى ورثت المنطقة الجغرافية التى كانت تضم ممالك النوبة الثلاث عن ضمها كممالك المسبعات ومملكة تقلى العباسية فى الجبال الشرقية من جبال النوبة بكردفان وممالك دارفور التى عين الزبير باشا رحمة حاكما لها فى عام 1875 ثم سلاطين باشا ابان العهد التركى ثم اتسعت رقعة السودان الجغرافية جنوبا حتى منطقة البحيرات فى سياق سعى محمد على لاكتشاف منابع النيل.
لقد أسهمت الجغرافيا الخاصة بالرقعة التى تمددت عليها ممالك النوبة التأريخية والمتمثلة فى وجود النيل والقرب النسبى للمنطقة من البحر الأحمر فى صناعة تاريخ هذه المنطقة بربطها بالعالم منذ القدم مما جعلها عرضة للغزوات والمغامرات والاستعمار.
ولهذا السبب فقد تأثرت هذه المنطقة بحكم كونها كانت على الدوام عرضة للمؤثرات الخارجية دون غيرها من مناطق السودان الأخرى بما كان يجرى فى تلك العوالم من حولها لذلك ظلت تيمم وجها على الدوام شمالا اما تحسبا من الوقوع فى براثن الغزو الخارجى والطموح لمعرفة التقانات والمعارف التى تزيد من قوى الدولة فى النهوض والصمود فى وجه العدوان أو اللجؤ الى غزو الآخر قبل أن يغزو ( الغزو الاستباقى) كما فعل بعانخى وتهراقا مؤسسا الأسرة الفرعونية السادسة والعشرين من جبل البركل فى مملكة نبتة وجاء ت المسيحية على يد رسل الامبراطور البيزنطى وزوجه ثيودورا فى القرن الرابع الميلادى الى ملوك النوبة فى السودان ليضيف ذلك لصلة السودان بالشمال بعدا روحيا يتمثل فى الديانة المشتركة التى تربط السودان بذلك العالم الشمالى .الأمر الآخر أن سكان هذه المناطق يرتبطون بوشائج دم مع شعوب البحر الأبيض المتوسط (ملاحظات الرحالة الاغريق وتشبيههم للنوبة بالهنود وما ذهب اليه الأنثربولوجى ويليام آدمز فى سفره : النوبة المعبر الى افريقيا Nubia , Corridor To Africa ووثيقة ملك أكسوم عيزانا الذى دمر مملكة مروى وما ورد فيها من حديث عن النوبة الحمر) أما علاقة السودان بالشمال العربى فقد سبقت مجىء الاسلام اليه فقد ذهب الرحالة والمؤرخون العرب الى أن ملوك النوبة المسيحيين كانوا يرجعون أنسابهم الى حمير فى اليمن. وتكلست هذه العلاقة لاحقا بظهور الاسلام وتدفق القبائل العربية على السودان الأمر الذى أدى الى تغيير تركيبة البلاد الثقافية والسياسية ولم يعد الارتباط بالشمال روحانيا وحسب بل أصبح ارتباط ثقافة ولغة ودماء مشتركة .وتعزز هذا الرباط لاحقا بتدفقات عربية من المغرب العربى خاصة بعد سقوط غرناطة عام 1492 للميلاد الأمر الذى ألحق أغلب مناطق غرب السودان بالثقافة الجديدة المشتركة لمناطق النيل التأريخية وهى ثقافة بلد ينتم الى العالم الاسلامى ويعبر عن ذلك الانتماء بلسان عربى مبين. والقول بأن العربية فرضتها أقلية على البلاد يكذبه التاريخ .اننا وبعد البحث المضنى لم نقف حتى على مجرد ادعاء تاريخى كدليل على هذا الاتهام فدولة سنار التى قامت عام 1504 للميلاد لم تكن تملك وسيلة فعالة حتى على فرض الضرائب بل ظل سلطانها السياسى والعسكرى على المناطق الواقعة بقليل شمال مناطق حلفائها العبدلاب اسميا فى أغلب الأحيان دع عنك فرض لغة وثقافة على أحد .و اتخذت العربية لغة رسمية للدولة لأنها ببساطة كانت هى اللغة السائدة أو ما يعرف اصطلاحا بالانجليزية lingua franca ودونكم رسالة ملك سنار للغزاة الأتراك الرصينة ” لايغرنكم تغلبكم على الجعليين والشايقية فنحن السادة وهم الرعية واعلم أن سنار محمية بصوارم قاطعة هندية … ” الى آخر الرسالة وقد اعتمدت الادارة التركية التى قوضت دولة سنار ذات النهج فى اعتماد العربية رغم أن اللغة التركية ظلت لغة رسمية حتى فى مصرنفسها حتى العقد السابع من القرن التاسع عشر بل اضافت الادارة التركية الجديدة بعدا جديدا بادخال التعليم النظامى وجاءت بأساتذة مصريين أكفاء لوضع لبنات ذلك التعليم من أمثال رفاعة رافع الطهطاوى. وتدل رسائل الامام المهدى (راجع سفر البروفسور أبو سليم فى هذا الخصوص)وخليفته على تجذر اللغة العربية فى هذا البلد الى الحد الذى استعصى معه على الاستعمار البريطانى بعد عام 1898 البحث عن لغة بديلة للعربية بل حرصت الادارة البريطانية فى كثير من الأحيان على ارسال بريطانيين يحسنون العربية للعمل فى السودان ومن بينهم قائد اعادة استعمار السودان السردار كتشنر ( راجع بداية الجزء الثانى من مذكرات بابكر بدرى) بل أبقت الادارة البريطانية على استخدام اللغة العربية كلغة تعليم حتى فى جنوب السودان حتى عام 1928لأنها ببساطة كانت وحتى فى ذلك الزمن البعيد لغة التخاطب المشتركة بين قبائل الجنوب. ( راجع اسبنسر ترمنغهام : التناول المسيحى للاسلام فى السودان Christian Approach To Islam In The Sudan) وقد هالنى شخصيا ما وجدت من رسوخ العربية فى السودان خلال دراستى للصلة الوثيقة لعاميتنا بالفصحى فى عهود بداوتها الباكرة وهو ما سجلته فى كتابنا ” أشتات فى العامية السودانية مجتمعات فى الفصحى ” والذى صدر قبل أيام.
اذن فان هذا الرصيد التاريخى الضخم من التفاعلات الحضارية والثقافية مع الشمال مطلقا وعبر التاريخ هو سبب اتجاه السودان دوما نحو الشمال عندما كانت مراكز الحضارة فى اليونان ثم فى بيزنطة وطيبة فى مصر ثم مكة والمدينة والفسطاط ودمشق وبغداد. وقد عزز تركيز ذلك التوجه الى الحواضر العربية والاسلامية الصلات الروحية كما أسلفنا وصلات الدم الناتجة عن التزواج الذى تم بين العرب المهاجرين وسكان البلاد من النوبة والزنج والبجا وتلك حقيقة تاريخية لا جدال فيها هى المبرر المنطقى الوحيد لرسوخ قدم العربية فى هذا البلد. هذا هو السبب فى أن يخص السودان الشمال العربى والاسلامى بخصوصية فى العلاقة دون سائر الجهات و ليس نتيجة لمركبات نقص يحملها بنوه كما ذهب لذلك الدكتور باقر العفيف فى تناوله للقضية فى بحث له بعنوان ,” أزمة الهوية فى شمال السودان: متاهة قوم سود ذوو ثقافة بيضاء” الذى ترجمه الى العربية الأستاذ الخاتم عدلان. وقد علمت أن الدكتور العفيف عاكف على اتمامه كتابا بزمالة من المعهد الأمريكى للسلام فى واشنطن. ( لا أدرى ان كانت المصادفة المحضة هى مرد التشابه فى الأسماء بين البحث وبين كتاب المناضل الذائع الصيت فرانز فانون : بشرة سوداء, أقنعة بيضاء Black Skin White Masks أم هى اسقاطات الكتاب على البحث !)أو تنكرا لانتماء السودان الى افريقيا وهو انتماء تؤيده أيضا كل الشواهد كما أنه انتماء يعتز السودان به وقد كان فى طليعة الدول الداعمة للكفاح الافريقى والاعتزاز بهذا الانتماء هو الذى حمله على السعى ليلعب دوره كجسر تواصل بين عالميه افريقيا والعالم العربى . وقد ذكر لى الرئيس الجزائرى عبد العزيز بوتفليقة أثناء عملى بالجزائر وقبل أن يصبح رئيسا أن السودان والجزائر قد لعبا دورا تأريخيا فى تبنى افريقيا لقضية الحق العربى فى فلسطين بعد حرب عام 1967. وتزويد السودان لنلسون مانديلا ورفاقه في نضالهم ضد نظام الفصل العنصرى بالمال ووثائق السفر من الشواهد على اعتزاز السودان بانتمائه الافريقى.
هذا الحراك السياسى والثقافى أدى الى نشؤ ثقافة مشتركة فى معظم أجزاء ما يعرف اليوم بالسودان الشمالى بحيث أنك حيث ما ذهبت فى هذه الرقعة المترامية الأطراف تدرك أنك فى بلد واحد تربط بين أجزائه لغة مشتركة وسحنات متشابهة ومآكل ومشارب تكاد تتطابق تماما بالاضافة الى لباس مشترك وديانة غالبة الى درجة أن السودانيين فى مهاجرهم يعدون اقذع الذم أن تصف أحدهم بأنه ” ما سودانى ” أو أن اخلاقه ” ما أخلاق سودانيين” وهذا أبلغ اعتراف بوجود سمات عامة مشتركة تميز أهل هذه البلاد.صحيح أن الجنوب وبعض المناطق التى شملها قانون المناطق المغلقة فى جنوب النيل الأزرق وجنوب دارفور وبعض مناطق جبال النوبة لم تتكثف فيها السمات المشتركة كما فى المناطق الأخرى التى ذكرنا بذات الدرجة بحيث أنك لوعبرت عن ارث مشترك للثقافة وسلطان الدولة بالألوان لحظيت المنطقة الجغرافية التى تمددت فيها دولة سنار بأغمق الألوان ثم تليها مناطق الممالك الاسلامية فى المسبعات وتقلى فى الجبال الشرقية ثم ممالك دارفور فى أقصى الغرب.
قضية الهوية:
الهوية ويرمز لها بالانجليزية بكلمة Identity تعنى الخصائص المميزة لشعب اولمجموعة بشرية بعينها .
ولتقريب الصورة ودون أن نوغل فى التعريفات العويصة من لدن سقراط وحتى فرويد فان هويات الأشخاص التى تضمن فى بطاقات تعريفية تتحدث عن خصائص جسدية وأخرى مكتسبة أو وظيفية فيثبت فيها أن حامل البطاقة يتميز عن الآخرين بلون وطول وحجم ووزن معين وأنه يسكن فى جزء معلوم من المدينة ويشغل وظيفة كذا فى مكان كذا وترجو السلطات ألا تتطابق هذه السمات مع شخص آخر حتى يتم التعرف بيسر على حاملها عند الحاجة. فهل توجد هوية مميزة للسودانى ؟ بمعنى أنك اذا سألت عراقيا مثلا عن السودانى. اتصور أن سمات خلقية بعينها قد تقفز الى ذهنه: انسان أشبه بسكان شرق افريقيا شديد الشبه بالأثيوبيين والصوماليين والأريتريين. يتحدث العربية يلبس جلبابا أبيضا ويعتمر بعمامة بيضاء وقد يكون فى الغالب مسلما . وهذه السمات نفسها تقفز الى ذهن السودانى اذا سمع كلمة سودانى لكنه قد يسأل من أى مكان من السودان ذلك السودانى لتقريب الصورة أكثر الى ذهنه.
أين الأزمة التى يتحدثون عنها هنا؟ يقولون انها ادعاء السودانى أنه عربى فيدخل الجدل الى دهاليز السياسة والأيدولوجية ثم يتفرع الى مشكلة التهميش ويتحول هذا الادعاء ” الكاذب” الى أس البلاء الذى فجر مشكلة الجنوب ومشكلة دارفور ومشاكل الشرق ومشاكل تحت الاعداد فى بلاد النوبة القديمة وتوج هذا كله بدعوة للتخلص بالكلية من السودان المعروف حتى الان عوضا عن الصبر على آليات التطور السلمى الطبيعى عبر التعليم والوعى حتى تبلغ مداها بحيث تفض الى ضم النائى البعيد الى حضنها بل قفزا فوق المراحل وبمباضع الجراحة المؤلمة التى قد تفض الى الموت لاقامة سودان جديد . لماذا و ما مقدار الحق فى مقولة أن السودان يعانى من أزمة هوية؟ هذا هو موضوع الأسطر التاليات وقبل أن نشرع في تبيان فساد تلك المقولة ننبه الى خطورة أنها أصبحت المصباح الذى ترى فى ضوئه جهات أجنبية عديدة ودول فاعلة مفتاح الحل لمشكلات السودان وأصبحت فى ضوئه أيضا تتعاطف مع كل حركة مسلحة تتبنى العنف وسيلة لنيل الحقوق على أساس أن هذا البلد الذى يمتد عمره الى نحو عشرة آلاف عام ” بلد مصطنع ” ينبغى اعادة صياغته. فقد ذكر مسؤول بارز فى دولة عظمى فى سياق استعراض سياسات ذلك البلد ازاء السودان أمام جهاز حساس من أجهزة تلك الدولة الفاعلة :
” أن الدولة قد تكونت فى سودان النيل فى القرن التاسع عشر بفضل تحالف بين مرتزقة وتجارالخرطوم وأنها قد تميزت تأريخيا بغلبة أقلية من التجار والجنود والاداريين عليها جاءوا من مناطق النيل الواقعة شمال الخرطوم تجمعهم ثقافة عربية اسلامية تشدهم الى القاهرة ودمشق والعربية السعودية.”!!
ولكم أن تتصوروا مقدار التحدى الذى يواجه بلدا ينظر اليه بهذا المنظار ولكم أن تتصوروا أيضا مقدار التحامل الذى يمكن ان يصوب نحوه وبالتالى مقدار التعاطف الذى ستجده الجماعات والحركات الساعية لتقويض بنيانه من القواعد.ونقرر هنا ومن واقع تجربة طويلة أن هذه كانت من أعقد القضايا التى واجهتنا فى حواراتنا مع مراكز ومعاهد البحوث حيث تصنع السياسات ولدى الجمعيات غير الحكومية الضاغطة لانفاذ تلك السياسات. والخلاصة لدى أولئك جميعا أن الحروب الدامية فى السودان كامنة فى ذلك الخلل الجوهرى فى الدولة منذ قيامها كما ورد آنفا. ولو بقى الأمر سجالا بين الأكادميين فى أروقة الجامعات لكان أهون شأنا الا أنه وكما ترون يترجم الى سياسات وقرارات ومواقف.
لم أقف قط على باحث غربى أوعربى أوسودانى جاد يشك فى الحقيقة التاريخية بحدوث تدفقات عربية على السودان على مر الزمان وأن هذه التدفقات أسهمت فى تشكيل المكونات العرقية والثقافية لسودان اليوم. والسودانيون الذين ينسبون أنفسهم للعرب يعتمدون فى ذلك على تلك الحقيقة التاريخية وعلى ظاهرة الانتساب فى الثقافة العربية التى تجعل النسبة الى الأب سواء عدهم عرب اليوم فى جزيرة العرب أو فى الشام عبيدا أو زنجا . المهم أن هذه النسبة ليست ناتجة عن احساس بالدونية أو النقص.انظر بعين الخيال ان شئت لقرنين قادمين وتصور مقدار الاندماج الذى سيطرأ على قبيلة لا يشك أحد فى أنها قدمت من الجزيرة العربية فقط قبل قرن ونيف مثل قبيلة الرشايدة. هل من فسحة فى العقل والمنطق آنذاك تحرم عليها الانتساب الى العرب لمجرد اختلاطها بالحاميين والزنج فى أرض السودان ( باعتبار ما سيكون حتما) أو لأن حرارات الشموس قد نالت من جيناتهم الوراثية؟ و السودانى اليوم لا ينكر الدماء الزنجية أو الحامية التى تجرى فى عروقه بل يفاخر بها ويعدها سببا فى تفرده بين الأنام . قال شاعرهم مفاخرا:
عرب ممزوجة بى دم الزنوج الحارة ديل أهلى
وديل قبيلتى لما أدور أفصل للبيدور فصلى
ودون أن ننفق الوقت فى استعراض التعريفات العلمية العديدة لمصطلح الهوية نشير الى اجماع الباحثين بأن تحديد الهوية يتضمن بعدا ذاتيا وأحيانا تخترعه المجتمعات البشرية من العدم لكننا نقف عند مسألة التصنيفات العرقية والتى هى عملية ثقافية محضة لا تستند الى علم. صحيح أن الشفرة الوراثية قد تحدد بدقة المنطقة الجغرافية لكنها كشفت الى حد بعيد تعدد الانتماءات العرقية بما يصعب تصوره وكنت قد كتبت شيئا عن ذلك فى مقال منشور تحت عنوان ” العرق دساس؟”. ويؤكد الأنثربولوجى المرموق والأستاذ بجامعة كولمبيا فى نيويورك مارفن هاريس أن تحديد هوية المولود لزوجين من عرقين مختلفين عملية ثقافية ووصفها بأنها عملية عبثية واعتباطية . ويقول فى صفحة 89 من كتابه الدراسى فى طبعته الثالثة Culture, People, Nature تحت عنوان التقسيمات العرقية : انه مع وجود تباينات داخلية قد يكون من اليسر تحديد الأفراد المولودين فى أوربا او وسط افريقيا او وسط آسيا لكنه من الصعوبة بمكان تحديد عرقيات سكان شمال افريقيا وجنوبها و الشرق الأوسط وشرق أوربا وغرب آسيا والهند وسيلان واندونيسيا وغينيا الجديدة والعالم الجديد . وقال بالحرف ” انه باستثناء الهنود الحمر فى ألامريكتين فانه من غير الممكن ان تنسب سكان المناطق العديدة المذكورة آنفا الى العنصر الأوربى أو الافريقى أو الآسيوى. ويعزى ذلك الى أن هذه الأقاليم قد استوطنتها مجموعات بشرية ذات صفات خلقية (بفتح الخاء) لا تماثل الصورة النمطية المتصورة للأعراق التى ينتظر وجودها فى هذه الأقاليم فأنت تجد شعورا ناعمة حريرية مع شفاه غليظة وأنوف فطس مع ألوان فاتحة أو سمراء أو أميل للبياض بينما تجد مع السواد شفاها رقيقة فى عين المكان وعيون منغولية ضيقة فى مناطق مثل الجنوب الأفريقى (البشمن ). هذه سمة بارزة فى الأقاليم العديدة التى ذكرها من الهند الى اندونيسيا الى الشرق الأوسط وشمال افريقيا وحصر المناطق التى قد تتميز بنوع من المكونات المشتركة لسكانها بغرب أوروبا وأواسط القارتين آسيا وافريقيا والسودان خارج هذه المناطق الثلاث على اعتبار أن أواسط هذه القارات بعيدة عن التأثيرات الخارجية والحراك البشرى للشعوب الأخرى الذى ينتج عنه التزاوج والاختلاط وهو ماذهب اليه البروفسور المؤرخ عثمان سيداحمد البيلى فى الجزء الأول من مقالة له بعنوان” سودان وادى النيل بين الهوية والوطنية والديمقراطية والأثنوقراطية” نشرتها يومية ” الخرطوم” بتاريخ 30 يوليو 2006.
ويقول مارفن هاريس ان اطلاق لفظة أسود على مولود لأب ابيض وأم سوداء أو أم بيضاء وأب أسود فى الولايات المتحدة لايستند الى مبررات وراثية بل هو اختيار ثقافى لأن الطفل يحمل مورثات بيضاء وسوداء بذات القدر. وسيتطرد قائلا ان هذا التصنيف الاعتباطى تتأثر به كثير من الدراسات المتعلقة بالسود والبيض مؤكدا أن غالبية السود فى الولايات المتحدة ” قد تلقوا قدرا هاما من (جيناتهم) الوراثية من أسلاف أوربيين.” وهذا –كما يقول _ قد نتجت عنه ظاهرة قوم يبدون بيضا تماما لكنهم يصنفون اجتماعيا ضمن السود. لكنك تجد تدقيقا أكثر فى مسألة الألوان والقسمات فى المجتمعات ا (الملونة) ربما سببه الفضول والتوق الى معرفة أسباب تعددها ومحاولة البحث فى جذورها.و نحسب أن الاقتباس الذى أورده الدكتور العفيف من كتاب( حرب الرؤى) للدكتور دينق الذى ذكر فيه عناية السودانيين بالألوان والقسمات التى تحدد مقدار الفاصل العرقى بينهم وبين العروبة والزنوجة هو من قبيل ما نجده فى مجتمعات مختلطة تتعدد فيها الألوان والقسمات فتثير الفضول لا من قبيل مركبات النقص والبحث عن انتماءات أرقى . فمثلا فى أمريكا الوسطى والجنوبية حيث الاختلاط فاش بين السكان الأصليين والأوربيين القادمين غزاة من شبه جزيرة آيبريا (أسبانيا والبرتغال) والسود الذين جىء بهم من افريقيا يطلق على المولد من أسود وهندى أحمر لفظ زموتوzomoto ولخليط الفرنسى الأبيض بالأسودCreole وللابيض بالأسود مولاتو mullato وللابيض بالهندى الأحمر mestizo ولخاطف اللونين ان كان رجلا Morenoوان كان امرأة Marina وهى مشتقة من كلمة Moore التى تطلق فى الاسبانية على سكان شمال افريقيا من المغاربة والموريتانيين ومنها لفظة (موريتانيا).
وفى حوار متحضر بين الروائى الأمريكى الأسود جيمس بولدوين و مواطنته البيضاءالأنثربولجية المرموقة مارقريت ميد فى كتاب شائق بعنوان ” دردشة حول الأعراقRap on Race اشارات مفيدة الى ماذكرنا من وشائج الدم والموروثات التى تربط بين البيض ومواطنيهم السود فى الولايات المتحدة. واساءة معاملة البيض لمواطنيهم السود ترتبت وتترتب عليها ردود افعال ثقافية وسياسية عنيفة لا تعكس بحال حميمية تلك الوشائج ليس هذا موضع نقاشها. وقد أثبتت أحدث الدراسات فى علوم الوراثة ما كان قد ذكره مارفن هاريس فى كتابه سالف الذكر من أن نقاء الأعراق خرافة كبرى وأن كثيرين من البيض قد زهلوا عندما أثبتت شفراتهم الوراثية أن دماء افريقية وآسيوية تسبح فى شرايينهم وأوردتهم جنبا الى جنب مع الدماء الأوروبية.(للمزيد يمكن الرجوع الى مقالتنا “العرق دساس” فى أرشيف يومية الصحافة الالكترونى). ولمثل هذا التصنيف الاعتباطى ذهبت هند زوج الحجاج بن يوسف الثقفى وكانت لا تحبه:
وما هند الا مهرة عربية سليلة أفراس تحللها بغل
فان نتجت مهرا كريما فبالحرى وان يك اقراف فما انجب الفحل
أى ان جاء مولودها كريما فذلك بسببها لأنها بنت كرام أما ان جاء لاخير فيه يكون أبوه هو السبب فى ذلك!
ومن الضرورى الاشارة هنا الى أن السودان ليس حالة فريدة متميزة فى مسألة الاستقطاب الناشئة عن تعدد الانتماءات بين سكانه وتمددها عرقيا وثقافيا الى خارج الحدود فهذه ظاهرة عامة فى جل مناطق أمريكا الوسطى والجنوبية حيث اختلط الغزاة الأسبان بالأهلين وبقيت المناطق النائية القصية بمنأى عن ذلك الاختلاط. فتسعون فى المائة من سكان المكسيك من خليط الأسبان بالهنود الحمر بينما توجد جيوب فى الهامش في شبه جزيرة( يوكتان) موطن حضارة المايا المعروفة يقل أو ينعدم فيها هذا الاختلاط لدرجة أنها لا زالت تحتفظ بلغتها الأصلية وتخلط الكاثوليكية بشىء من معتقداتها الوثنية القديمة. وقد أعد الأنثربولوجى الأمريكى ( روبرت ريدفيلد) كتابا دراسيا هاما عن آليات التلاقح بين الثقافتين وفق منظور المدرسة الوظيفية أسماهThe Folk Culture of Yucatan.
وقد وقع تمرد منذ سنوات قادته العرقيات الهندية التى لم تختلط بالأسبان تروم قسمة أكبر فى السلطة والثروة. وقد احتفى المواطنون المنحدرون من أصول هندية لم تخالط الأسبان حفاوة عظيمة قبل سنوات بفوز أول رجل منهم الى سدة الرئاسة فى (بيرو) و هو الاقتصادى خريج جامعة هارفارد الأمريكية الرئيس ( تـوليدو). وقد تكرر الحدث أوائل هذا العام بفوز اليسارى المنحدر من أصول هندية حمراء الى رئاسة بوليفيا. وتوجد صراعات من ذات الشاكلة فى نيكراغوا وهندوراس والاكوادور وغيرها. وتوجد هذه الظاهرة فى دول المغرب العربى بين الثقافتين العربية والبربرية وتوجد فى جزيرة مدغشقر حيث بعض السكان خليط من اندونيسيا ومن قبائل البانتو الافريقية وبين الأفارقة الذين لم يختلطوا والذين وقع بعضهم فى الماضى فى ربقة الرق. وهذه الدول جميعا تجتهد فى صهر هذه الفوارق العرقية والثقافية دون أن تطالب أحدا بالتنكر لانتماءاته لأن ذلك لن يحل القضية . والذين يطالبون الشماليين بالتنكر لأنتماءآتهم العربية يغفلون عمق الروابط الثقافية والعرقية التي تشدهم الى العرب والتى أفضنا فى التفصيل فيها آنفا . من المفيد ترقية الروابط المشتركة بين السودانيين عرقية تتمثل فى دماء افريقية مشتركة وثقافية عديدة تعبر عنها الفنون والطعوم والطقوس أحيانا دون أن نلقى الخصوصيات التى تتميز بها المجموعات المختلفة المكونة للنسيج المجتمعى السودانى . وقد شاهدت فيلما سينمائيا يحكى قصة الأمريكى أسطورة الغولف (تايجر وود)وقد استوقفنى فيه الحاح مواطنيه السود عليه أن يكف عن الاشارة الى نصفه التايلندى الذى اكتسبه من كون أن أمه تايلاندية خالصة فأبى قائلا انه جد سعيد بمزية الانتماء الى عالمين يفاخر بهما معا! ولننظر فى محيطنا الى التنافس بين القوميتين الأمهرا والتيجراى فى الجارة اثيوبيا لم يقلل منه الأصل المشترك والديانة المسيحية وحتى المذهب الارثادوكسى.
وقد استند الدكتور فرانسيس دينق فى نظريته حول ما يسميه ” أزمة الهوية” فى السودان الى التصنيف الغربى وهو كما ورد آنفا تصنيف يخص الثقافة الغربية التى تعتبر البياض ليس بلون لذلك فغير الأبيض ان كان أصفرا أو أحمرا أو أسودا هو الذى يتميز بلون فهو ملون و هذا توصيف ثقافى لا يستند على مستندات علمية. بل ظل عرضة للتطورات الديموغرافية فى الولايات المتحدة فالايطاليون واليهود والشوام وغيرهم من الشرقيين لم يكونوا فى زمرة البيض بادى الأمر بل الحقوا فى تاريخ متأخر جدا. واليهود ينتسبون الى أمهاتهم فالأم هى التى تهود الانسان وليس أباه وهذا اختيار ثقافى محض لا يقاس عليه وتوجد له نظائر فى الثقافة الافريقية.
ولأن السود فى الولايات المتحدة من أكثر الناس شبها بالسودانيين الشماليين لذات السبب وهو اختلاط هؤلاء وأولئك بدماء ومورثات قوقازية جاءت من خارج القارة الافريقية, متوسطية قبل الاسلام وعربية قبله وبعده فى حالة السودان وأوربية فى حالة الأفارقة الأمريكيين استخدم الدكتور فرانسيس دينق وآخرون ذات المعيار الثقافى الغربى فانكروا عاى الشماليين الانتساب الى غير افريقيا هذا رغم اقرار الدكتور فرانسيس دينق وهو الرائد فى وصف أزمات السودان بأن مردها الى “أزمة الهوية” , بأن الشماليين نتاج اختلاط فعلى بين العرب المهاجرين وبين سكان البلاد فى ذلك الوقت وذلك فى مقالة له نشرتها” مجلة الثقافة السودانية” العدد الثانى –فبراير 1977 بعنوان ” الجذور التأريخية للوشائج العربية الافريقية فى السودان ” ذكر بالحرف (ص6) :” ونسبة لأن العرب جاءوا دون نسائهم ونسبة لأن الاسلام يحظر زواج المسلمة بغير المسلم فان التزاوج بين العرب وأرباب الديار كان احدى الوسائل لحل هذا الاشكال. ولان هذه التجربة لم تكن مفروضة ولا مقيدة فقد نشأت قاعدتها على قيم عربية افريقية قاعدتها العائلة وشجرة الأسرة. ونتيجة لهذا فان التكامل العربى الافريقى أدى الى نشر مجموعات تسمى بأسماء مؤسسيها أو تتسمى بأصولها ويمكن ارجاع هذه الى أصول فى الجزيرة العربية .” و لعمرى هذا عين ما نذهب اليه. اذن أين الادعاء الكاذب بالانتساب الى العرب ؟ وأين تكمن أزمة الهوية ؟ اللهم الا اذا طبقنا المعيار الغربى الذى يقول بأن مجرد اختلاط العرب فى السودان بقوم سود يسقط تلقائيا انتسابهم للعرب! والعرب ظلوا يختلطون من لدن اسماعيل الذبيح الذى استعرب فقط بعد مصاهرة قبيلة جرهم العربية.وأبوا العباس السفاح مؤسس الدولة العباسية هو الوحيد من بين اخوته حفدة العباس بن عبدالمطلب الذى لقب بابن العربية لأن أمه ربطة بنت عبيد الله الحارثى كانت من قبيلة عربية معروفة هى بلحارث بينما كان بقية خلفاء بنى العباس قاطبة لأمهات غير عربيات وفيهن سوداوات. وفي ملوك العرب اليوم ملوك وأمراء لأمهات غير عربيات لم يشكك أحد فى انتمائهم العربى فلماذا يشك في من كان جده عربى اذا كانت أمه نوبية أو زنجية؟ وقد روت كتب الأدب أن ابراهيم بن المهدى قد دخل على الخليفة المأمون فقال انك نعم الخليفة الأسود فتمثل المأمون ببيت نصيب:
ان كنت عبدا فنفسى حرة كرما أو أسود اللون فانى أبيض الخلق
وقد اعترضت على الدكتور فرانسيس دينق قبل أشهر خلت فى سمنار عن السودان جمعنا سويا فى مدرسة كنيدى فى جامعة هارفارد بأن المصطلح الذى استحدثه فى وصف مشكلات تكوين هوية مشتركة جامعة فى السودان بأنه ” ازمة هوية” بأنه مصطلح جارح ومسىء فضلا عن كونه ليس صحيحا لأن ” أزمة هوية” مصطلح يستخدم فى طب الأمراض العصبية للشخص الذى يعانى من لوثة عقلية تجعله لايعرف من هو. وفى المقابل فان نظر العرب المختلطين بالفرس والترك والأكراد والنبط والبربر وبأجناس جعلت سحناتهم لآ تخرج من دائرة البيضان في جزيرة العرب والخليج وبلاد الشام الى انتماء السودانيين العربى بعين الشك والريب فذلك ليس مدعاة ( للحردان) وادارة الظهر للحقيقة واعتماد المنظور الغربى فى التصنيفات العرقية التى تجعل العالم مصنفا على طريقة عادل امام فى مسرحية ” شاهد ما شافش حاجة! ” (يا ابيض يا اسود!). ولأن أولئك أنفسهم وبحكم اختلاطهم بعرقيات أخرى لايختلفون عن السودانيين فى مقدار انتسابهم للعرب بالقدر الذى يجعلهم عمدة وقضاة فى تحديد العربى من غير العربى .
وقد نحا ذات المنحى الدكتور الباقر العفيف فى بحثه آنف الذكر و تعسف كثيرا فى ايراد التعريفات والشواهد لتتفق مع العنوان الذى اختاره فى بحثه ليصور الشماليين بأنهم مرضى يعانون من شعور عارم بالدونية ومركبات النقص. وقد قدر لى العيش لأكثر من عقد كامل فى أكثر من بلد عربى فلم أجد السودانيين فيه الا أكثر تمسكا بانتمائهم للعرب بل غلبت على الكثيرين منهم شوفونية زائدة جعلتهم استنادا على ما يتمتع به السودانى من مكارم الأخلاق كرما وشهامة وعزة نفس يزايدون على بيضان تلك البلاد فى عروبتهم وان عيروهم بسوادهم أو أنكروا عليهم الانتساب الى العرب و اعتبروهم ” عبيدا” أو “خالا” كما ذكر الدكتور العفيف كما انه ليس من معارفى بينهم من فقد عاميته السودانية رغم طول المكث مستبدلا اياها بلهجات أولئك كما زعم الدكتور الباقر العفيف أيضا ليؤكد زعمه فى اصرارهم علىالانتساب اليهم فيما أسماه المترجم بالتماهى أو Identification يدلل به على شعورهم بالدونية. كيف وفيهم أساتذة أجلاء وعلماء أفذاذ ذهبوا بخبراتهم ليسهموا فى نهضة تلك البلدان؟. ولئن اتصفت قلة منهم بمازعم فذاك استثناء لا يقاس عليه.
ولو أن ادعاء السودانيين للنسب العربى جاء فى وقت كان شأن العرب فيه مثل شأن أمريكا اليوم غلبة وسطوة عسكرية وحضارية لقلنا مقالة ابن خلدون انه تشبه المغلوب بالغالب لكن العرب تسللوا الى بلاد النوبة تحت ملاحقة ودفع بعد وصول غير العرب لحكم مصر أيام ابن طولون (راجع تاريخ العرب فى السودان لمكمايكل) وبعضهم بعد زوال ملك العرب فى الأندلس بسقوط غرناطة وصعود العثمانيين على سدة الخلافة الاسلامية فى المشرق . حتى ذهب بعض المؤرخين الى أن قيام مملكة سنار جاء تعويضا وسلوى للمسلمين والعرب عن أفول سطوة العرب المسلمين على مسارح الريادة والسلطان . والشاهد أن بروز الثقافة العربية فى السودان قد حدث فى عصور ضمور تلك الثقافة وانحطاطها فى مواطنها وفى تأثيرها على الساحة الدولية يومئد بما لايغرى بفخر الانتساب اليها أو الى العنصر العربى. نعم ليس فى حال العرب ما يسر يوم ان آل الملك فى السودان لذراريهم من أمهات نوبيات وزنجيات حتى يتباهى أهل السودان بالانتساب اليهم وليس فى حالهم اليوم ما يبعث على الالتصاق بهم أو ادعاء النسبة اليهم.وهنا فرق عظيم بين حال انبهار الأسود الفقير فى جزر الكاريبى فى أمريكا الوسطى بحضارة المستعمر الفرنسى التى سببت له عقدة شعور بالدونية تجاه الرجل الأبيض تصدى لها الثائر الطبيب فرانز فانون فى كتابه سالف الذكربالمعالجة بنفخ روح الثورة فى مواطنه الأسود للتخلص من تلك العقدة التي حملت مثقفين فى تلك الأنحاء وفى افريقيا للباس أقنعة بيضاء من الوهم والتعالى على أعراقهم وثقافاتهم. الأمرليس كذلك بالنسبة للسودانى تجاه العرب ماضيا وحاضرا لأن أمر انتسابه اليهم تقرير لواقع تقوم عليه كل الدلائل. والهجمات المتتالية على هذا البلد الضعيف البنية المسمى بالسودان اليوم ليست بسبب ادعاء كاذب بل بسبب يقين راسخ للعالمين ببواطن الأمور أنه جزء أصيل من الثقافة العربية الاسلامية شديد التأثير فى محيطه حتى قبل أن تتبدى للعيان آثار النعم المخبوءة فى جوفه.فكيف ان قوى عوده واستغل ثرواته وأصبح محجة لنيل العلوم والمعارف والتقانات؟
وهناك استدراكات أخرى على الدكتور العفيف أود المرور عليها بايجاز قبل الانتقال الى مبحث آخر حول تصويره لقضية اللون والعرق فى الثقافة العربية بصورة جعلتها مطابقة لموقف الثقافة الأوروبية وألأمريكية البيضاء والأمر ليس كذلك فى حقيقته . و الدكتور بيرنارد لويس الذى استشهد به الدكتور العفيف فى احتقار العرب للسود موردا اقتباسات من ورقة له بعنوانThe African Diaspora and The Civilization of Islamوالتى يبدو أنها منقولة بالكامل من كتاب له بعنوانRace And Color In Islam , أكاديمى مرموق الا أنه متهم فى الأوساط الأكاديمية فى الولايات المتحدة بأنه شديد التحامل والكراهية للعرب والمسلمين وقد أجتهد بتعسف فى كتابه Race And Color in Islam لهز قناعات راسخة لدى الدوائر الأكاديمية فى الغرب بأن الاسلام متسامح فى المسألة العرقية خاصة ازاء السود وذوى الألوان الداكنة وهو ما ضمن له الانتشار الواسع فى افريقيا وآسيا وبين السود فى الغرب. وقد أورد لويس فى كتابه المشار اليه ما أورده المؤرخ البريطانى الضخم توينبى فى شأن تسامح العرب ازاء السود فى افريقيا والهند مشيرا الى أن العرب كانوا يفاخرون بألوانهم الداكنةswarthy وينظرون باحتقار الى جيرانهم الأكثر بياضا فى الشمال والشرق( كانت واقعة ذى قار فى الجاهلية بين قبائل العرب والفرس بسبب رفض النعمان بن المنذر ملك الحيرة تزويج ابنته لملك الفرس رغم خضوع ملكه لفارس ). وقال ان العرب كانوا على اتصال واندماج بالزنج فى افريقيا والسود فى الهند الى درجة أنهم كانوا يزوجونهم فتياتهم ذلك لأن العرب المسلمين كانوا ينظرون الى البشر بثنائية : مسلم وغير مسلم بغض النظر عن ألوانهم وأعراقهم. وقال ان اوروبا فى القرون الوسطى كانت تنظر للبشر بذات الثنائية فتقسم البشر الى مؤمنين وكفار لكن اوروبا كانت قليلة الاحتكاك قليلة المعرفة بالشعوب الملونة بحكم موقعها الجغرافى البعيد الا أن بلاد العرب كانت على الدوام شديدة الارتباط بافريقيا والهند وهذا ما يسر لها التعامل بحكم الالفة مع شعوب تلك الأنحاء. هذا التقرير لم يعجب برنارد لويس فانبرى لتفنيده خصيصا بكتابة هذا الكتاب ليدحض هذه المزية المثبتة للثقافة العربية الاسلامية بدرجات متفاوتة لدى كثير من المنصفين فى الغرب وهم يعزون اليها سرعة انتشار الاسلام فى افريقيا وآسيا. ورغم ذلك أورد فى ثنايا مسعاه المذكورشواهد تقوم حججا عليه لا له مثل قصة عبادة بن الصامت الصحابى الذى جعله النبى على راس رسله الى المقوقس عظيم مصر فيما أورده ابن الحكم فى فتوح مصر: قال عندما دخل عبادة بن الصامت على المقوقس طلب من أصحابه أن يخرجوه قائلا :” أخرجو هذا الرجل الأسود انه يخيفنى وأتوا بغيره ليحدثنى !” قالوا ما الى ذلك من سبيل “ان عبادة أرجحنا عقلا وهو أفضلنا وأنبلنا فوق أنه القائد الذى ولى أمرنا” قال المقوقس :” كيف ترضون أن يكون الأسود سيدا فيكم وموضعه أن يكون دونكم؟ ” قالوا ” الأمر ليس كذلك فهو رغم أنه أسود كما ترى الا أنه أفضلنا وهو صاحب سبق فينا ورجاحة عقل وحكمة ونبل ثم ان السواد ليس محتقرا فينا .” علل برنارد لويس مكانة عبادة الرفيعة التى بوأته تلك المرتبة الرفيعة بين الصحابة بعد ان دس الشك فى صحتها بالقول –ان صحت هذه الرواية- بأن عبادة رغم سواده كان عربيا قحا من جزيرة العرب! والشاهد هنا أن سواد اللون لا يسقط عروبة العربى وأن العربية لم تكن ثقافة بيضان على النحو الذى عليه الثقافة الغربية ولئن كان العبيد السود يعاملون معاملة دونية فذلك للوضع الاجتماعى لا انتقاصا من أعراقهم تماما مثل ما يعامل العربى المملوك والفارسى والرومى والصقلى فقد كان زيد بن حارثة عربيا قحا الا أنه وقع فى ربقة الرق .كذلك أورد لويس روايات تشير الى أن جدة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب كانت من الحبشة وقد أورد الدكتور حسن على الشايقى فى بحث أكاديمى لدرجة الماجستير أسماء عديدة لصحابة وتابعين يتحدرون من أصول افريقية . وقد ذكر لى أن قريشا أرسلت الى النجاشى فى طلب المهاجرين اليها من المسلمين عمرو بن العاص لأن أمه كانت من الحبشة. ولم تخلو دولة بنى أمية المتهمة ببعث الحمية العربية واضهاد الموالى من أمراء وحكام من أمهات من السود فقد أورد لويس أن ابن عم معاوية بن أبي سفيان وعامله على الكوفة عبد الرحمن بن أم الحكم كان من أم حبشية. لقد اجتهد لويس الى درجة الشطط لتتبع القصص والحكايات التى لا ترقى لتأكيد اتهاماته فوق حقيقة أن الثقافة العربية الاسلامية رغم ما قد تكون قد حملت فى بعض مراحلها من علل التحامل العرقى والجهوى أنها أول حضارة في ذلك الزمن السحيق يتولى فيها السود مناصب الحكم والقضاء والولايات المختلفة هذا رغم اعتراف لويس بقدم العلاقات بين ضفتى البحر الأحمرمشيرا الى أن الحبشة تأسست على يد قبائل حبشات السامية وأن بعض الباحثين ذهبوا الى القول ان افريقيا ربما كانت الموطن الأصلى للساميين وليس بلاد ما بين النهرين. ذكر ذلك فى كتابهThe Arab In History وقد اجتهد الدكتور لويس فى تطريز تحليله باعترافات بثها فى ثنايا الذم ليضفى على بحثه فى كتابه الأول (العرق واللون فى الاسلام) شيئا من الموضوعية مثل اعترافه بصحة ارساء الاسلام لمعانى المساواة فى صدر الاسلام الا أنه رد ذلك الى علل ظرفية مثل قوله بأن معاملة السود وكان جلهم من الأحباش كانت حسنة لأنهم كانوا أهل حضارة وأنهم أحسنوا وفادة من لجأوا اليهم من المسلمين فى الهجرتين الأولى والثانية !الا أنه سارع الى القول بأن التطورات السياسية والاقتصادية اللاحقة بدلت الحال وفشت مظاهر التمييز العرقى. هذه الاعترافات تدلل على وجود التسامح ازاء السواد سواء كان أصيلا من جزيرة العرب أو وافدا عليها من افريقيا أو شبه القارة الهندية وهى أبلغ من استشهاداته المأخوذة من كتب الأدب الكلاسيكية التى تدعم حججه فى اضطهاد السود بين العرب وتلك الاعترافات تطابق رأى العلامة المؤرخ توينبى الذى أوردناه آنفا. والحرص الذى أبداه الدكتور لويس فى تأويل كل مزية دالة على تسامح الثقافة العربية الاسلامية فى مسألة الأعراق لا يحملك الا على الشك فى حيدته والغرض السياسى والأيدولوجى فى مراميه وكذلك الدكتور الباقر العفيف الذى حزا حزو بيرنارد لويس فى ايراد ذات الشواهد من كتب الأدب ولو تحرى الدقة لوجد فى ذات المصادر شعراء وأدباء امتدحوا بل تغزلوا فى جمال السواد. من ذلك الحرص المريب الذى ميز تحليل الدكتور لويس بل مماحكاته فى لى أعناق الحقائق الجلية زعمه أن الجاحظ أضخم كتاب العربية قاطبة لم يكن جادا فيما ذهب اليه فى كتابه عن فضل السودان على البيضان وانما كان يمارس المزح والفكاهة كعادته لأنه بعبارة أخرى كان (كوميديان) ! رغم أنه اعترف أن الجاحظ أراد بالسودان كل الملونين بما فى ذلك العرب وهو ما أشار اليه مصيبا البروفسور المؤرخ عثمان سيداحمد فى مقاله آنف الذكر ورغم علم الدكتور لويس بأن الجاحظ نفسه كان من السود.وقد أحس الدكتور لويس فى خواتيم كتابه الذى خصصه كما ذكر لتفنيد تسامح العرب والمسلمين مع السواد بمقدار التحامل الذى حمله كتابه فذكر كالمعتذر فى صفحة 102:” ان تصحيح خطأ ما يحملنا على الحذر من مغبة الوقوع فى نقيضه. انه لم يحدث قط وفى أى وقت من الأوقات أن شهد العالم الاسلامى نوعا من الاقصاء العنصرى كالممارس حاليا فى جمهورية جنوب افريقيا ( ذلك قبل انهيار نظام الفصل العنصرى هناك) أو كالذى كان سائدا فى الولايات المتحدة الى تاريخ قريب.” نعم يا دكتور لويس لقد ظل تراث التسامح العرقى فى الحضارة الاسلامية ولوكان نسبيا مما لا نظير له فى الحضارات الأخرى حتى عصور متأخرة . ولشد ما أثار وجود قضاة سود فى عاصمة الخلافة العثمانية دهشة واستغراب الرحالة الأوربيين الذين زاروا تركيا لأول العهد. ونشير اشارة عابرة الى أن ما أورده الدكتور العفيف عن عبده بدوى من أن العرب كانت تحب البياض فى الرجال والنساء على السواء ليس دقيقا . فقد كانوا يتغنون ببياض النساء لكن البياض لم يكن محببا فى وصف الرجال فكانوا ينصرفون عنه الى كلمة “أحمر”رغم أنها ليست من أوصافهم المفضلة اذ أنهم يصفون على وجه الذم جيرانهم حتى من العرب فى المناطق الشمالية ب “الحمران”. وعند التدقيق فى الوصف قد يصفون الرجل بالبياض على سبيل التوصيف لا مدح البياض او استحسانه مثل وصفهم للنبى (ص) بأن بياضه كان مشوبا بحمرة وقد وصفوا ابن عمه وختنه على بن أبى طالب بأنه كان “آدما شديد الأدمة!” أى أنه كان داكنا جدا . وهذا تباين فى