مساجلة مع ابن حزم الأندلسي حول الإلفة والإيلاف!

مزيدة ومنقحة
على الطائر الميمون اتجهت بنا الحافلة السريعة من الخرطوم صوب مدينة كوستى, تلك الوادعة الهانئة وهى تتمدد فى إسترخاء على ضفاف النيل الأبيض. وقد شاء السائق الحاذق أن يشنف آذاننابما اشتهى هو من غناء صاخب يبثه جهاز الاستريو لديه رغم أنوفنا وكأنه يستبدل صخب الباعة و(القمسونجية) فى الموقف بما ارتأى بالموسيقى القمينة بإراحة الأعصاب من هول الطرق البئيسة ومن تسابق عليها يفضى غالب الوقت للموت الزؤام. فكأنه يرعبنا بسباقه للريح على جادة مستهلكة مرقعة وهو يطوى الفلاة طياً, ثم يرجو أن تهدئ الموسيقى من روعنا أو هكذا ظننت أنه يستبطن!
ولما انطلقت بنا الحافلة صوب وجهتها,أجلست إلى جانبى شيخ فقهاء الظاهر فى الأندلس أبا محمد على بن أحمد الأندلسى وهو يومئذٍ فى نحو الخامسة والستين يعتمر عمامة داكنة سمراء تحيط بوجهه الصبوح لحية كثيفة لكنها متناهية التنسيق ويضع فوق جلبابه معطفاً تزين حافتيه زركشة صنعت من ماء الذهب.
بادرته محيياً ومستأذنا فى أن نقطع بقية الطريق مستمتعين بعلمه الغزير فالتفت إلىّ قائلاً :
أنتم أهل السودان مالكيون, أليس كذلك؟
قلت وأنا أعلم حربه الضروس مع شيوخ المالكية فى الأندلس وما انتهت إليه من إحراق كتبه على يد المعتمد بن عياد: بلى ايها الشيخ الجليل, أهل السودان مالكيون لكنا اليوم لسنا بصدد الحديث فى مسائل الفقه وعلم الكلام… سيكون موضوعنا , إن أذنت , كتابك ” طوق الحمامة فى الإلفة والإيلاف.” وكما ترى سيكون الحديث فى أمر خفيف الوقع على النفس يدور فى فلك المحبة والأحبة والمحبين..
قال وقد سُرى عنه بعد أن رمق محيط الشيب الزاحف بعجل على فودى:
لكنك فتى تكتهل!
أى مالك أنت والحب والمحبين بعد أن وخط الشيب رأسك حتى لكأنه يحشرك فى زمرة الكهول! قالها كما ترون بدبلوماسية الأدباء الحذاق إذ طرز كهولتى تلطفاً بذكر الفتوة التى تفارقنى كل يوم تشرق فيه الشمس.
قلت: بل أنا كهل حقيقى أيها الشيخ..وراق لى أن أغمزه فأضفت: وهل يحفل بمثل هذه الأحاديث إلا الكهول والشيوخ معاً؟ عنيته بذلك لأنه كان قد جاوز الخمسين عند كتابة الكتاب. فتبسم لقولى فقد عرف ما رميت إليه واستطردت قائلاً:
لكن قد راقنى على كل حال جمعك بين الكهولة والشباب فقد ذكرت بذلك خطبة أبى حمزة الشارى, أحد زهاد الإباضية وقد اقتحم مكة المكرمة على أهلها بشباب مقاتل يطير شعاعاً من الحماسة , يخاطب أهل المدينة المقدسة :
” تعيروننى بأصحابى بأنهم شباب , وهل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شباباً. شبابٌ والله مكتهلون فى شبابهم, غضيضة عن الباطل أعينهم , ثقيلة عن الباطل أرجلهم أنضاء عبادة وأطلاح سحر, نظر الله فى جوف الليل إليهم منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن إن مر أحدهم بآية من ذكر الجنة بكى شوقاً إليها وإن مر أحدهم بآية من ذكر النار شهق شهقة كأنما زفير جهنم بين أذنيه..”
طرب الشيخ أيما طرب لسحر البيان وتمتم قائلاً: رحم الله أبا حمزة فقد كان حديد اللسان..!
قلت رغبة فى استرسال منه مع علمى بأن الإباضية معتزلة فى المعتقد وأن مؤسس مذهبهم عبد الله بن إباض من تلاميذ مالك: هل كان أبو حمزة ظاهرياً؟
قال باقتضاب من لا يرغب فى الخوض فى هذه الأمور كما وعدته آنفاً : لم يكن..!
قلت نعود إذن لطوق الحمامة… الذى يقرأ الكتاب يعدك عالماً من علماء النفس وهؤلاء أهل بواطن لا يحفلون بالظاهر .. كيفذاك..؟
قال بحزم: لأن الناس لا يفهمون مذهب أهل الظاهر ويحسبون أن الظاهر هو السطح
وما شخص من كل شئ وليس الأمر كذلك.
قلت : نلج إلى الكتاب إذن. اراك فى أبياتك التاليات تعيب السواد . ألا تخشى أن يتهمك أهل السواد بالعنصرية وأنت شيخ من شيوخ الإسلام؟
وابعد خلق الله من كل حكمة
مفضل جرم فاحم اللون مسود
به وصفت ألوان أهل جهنم
ولبسة باك مشكل الأهل محتد
وإن لاحت الرايات سوداً
تيقنت نفوس الورى ألا سبيل إلى الرشد
قال محتداً: لم تقرأ بإمعان لعلك مررت على الكتاب مرور الكرام.وعلى كلحال لن أجيبك على سؤال حتى أتيقن من قراءتك الكتاب.
قلت بل قرأته بكل الإمعان ومن الغلاف إلى الغلاف فهو مقسم إلى ثلاثين باباً منها عشرة فى أصول الحب: علاماته ومن أحب فى النوم ومن أحب بالوصف ومن أحب من نظرة واحدة وباب من لا تصح صحبته إلا مع المطاولة .ثم باب التعريض بالقول ثم باب الإشارة بالعين فباب المراسلة وباب السفير… وهناك أثنا عشر باباً فى أعراض الحب المحمودة والمذمومة : باب الصديق المساعد, باب الوصل, باب طى السر وباب الكشف والإذاعة و باب الطاعة, باب المخالفة. باب من أحب صنعة لم يحب بعدها غيرها ثم باب القنوع , ثم باب الغدر ثم باب الضنى فباب الموت..أراك بعد ذلك قد خصصت ستة أبواب للآفات الداخلة فى الحب وهى أبواب العاذل, الرقيب, الراشى, الهجرو البين, السلوى وبها بابان لكل منهما ضده: فباب العاذل ضده الصديق المساعد وباب الهجر وضده باب الوصل. ثم ختمت الكتاب ببابين هما باب فى قبح المعصية وباب فى فضل التعفف وكأنى بك قد ختمت بهذين البابين معذرة إلى الله من أن يوقع كتابك بعض خفاف العقول والقلوب فى حبائل الشيطان فتؤثم!
قال: نعم ولا ضير فى ذلك فنحن نتقلب فى صلتنا بالله بين الحب والرجاء. زدنى علماً بما قرأت..
قلت: أعجبنى قولك فى تعريف الحب بأنه هو الإتصال بين أجزاء النفوس المقسومة فى هذه الخليقة, تلتقى فى دروب الحياة فتتعارف وتتآلف ودللت على ذلكبقول الله تعالى: ” هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها.” ( الأعراف 189) فجعل علة السكون كما قلت أنها منه ولو كانت علة الحب حسن الصورة الجسدية لوجب ألا يستحسن الأنقص فى الصورة, ونحن نجد كثيراً ممن يؤثر الأدنى ويعلم فضل غيره ولا يجد محيداً لقلبه عنه.. وسقت حديث النبى (ص) تؤيد به ما ذهبت إليه:( الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.) ثم أشرت إلى أن الحب الحقيقى الذى تتآلف به الأرواح لا يقع من النظرة الأولى لأن النفس فى هذا العالم الأدنى قد غمرتها الحجب ولحقتها الأعراض الأرضية فهى بحاجة لإزالة تلك الركامات حتى تتعرف على نصفها الضائع. وقلت إن الحب الذى يقع من نظرة واحدة ما هو إلا ضرب من الشهوة الجسدية العارضة تزول بزوال أسبابها فالنفس جبلت على تشهى المحاسن لكن ذلك الحب الحقيقى هو ذلك المتمكن من الفؤاد الذى تكون علته إلتقاء الأرواح والنفوس بنظائرها أو أجزائها الضائعة..! وقد شدنى قولك:
” وما لصق بأحشائي حب قط إلا مع الزمن الطويل وبعد ملازمة الشخص لى وأخذى معه فى كل جد وهزل.. وكذلك أنا فى السلو والتوق فما نسيت وداً لى قط وإن حنينى إلى كل عهد تقدم ليغصنى بالماء ويشرقنى بالطعام” إلى أن تقول : ” وقد نغَص تذكرى ما مضى كل عيش استأنفه وإنى لقتيل الهموم فى عداد الأحياء ودفين الأسى بين أهل الدنيا.. والله المحمود على كل حال.”
قال وقد تهلل وجهه بشراً: كيف إذن فاتك سياق الذى قلته فى السواد؟ عد إليه أيها الكهل الفتى فستجدنى ذكرته فى معرض من عاب علىّ تفضيل الشقرة على السواد فى الشَعَر فقد كنت شغوفاً بالشقرة تكسو الشعر وكان كذلك أبى رحمه الله وجل خلفاء دولة الناصر الأموية فى الأندلس ممن عمل أبى وزيراً لهم.. فلما عاب على بعضهم نفورى من سواد الشعر وتفضيل الشقرة عليه نظمت الأبيات التى ذكرت منتصراً للشقرة ولا صلة لذلك كما ترى بعرق ولا عنصر…
قلت: ذكرت فى كتابك أن الخلفاء والأمراء كانوا يتزوجون جواريهم ويشترون أكثرهن من السوق وهن روميات وصقالبيات ومن البرابر يلدن لهم من يخلفوهم على العروش والوزارات وينحو أولئك نحو آبائهم فى المفاخرة بأنساب العرب وهم من هذه الأخلاط , فما قولك فى ذلك؟
قال: أما علمت أن العرب تقفو آباءها ولا تحفل بالأمهات؟ قلت: رغم أن نسل اسماعيل الذبيح قد استعربوا بنسبتهم إلى أمهم الجرهمية؟ قال: نعم رغم ذلك. فمقولة ان العرب تقفو آباءها تلك , منسوبة إلى علىّ رضى الله عنه. إن نقاء الأعراق وهم من الأوهام. والعرب لا تدع التفاخر بالأنساب كما قال النبى الكريم صلى الله عليه وسلم.
عند ذلك قرأت عليه عباراته التاليات فيمن كتم حبه وألجم لواعجه طمعاً فيما عند الله:
“فكيف بمن طوى قلبه على أحر من الجمر وطوى كشحه على أحد من السيف وتجرع غصصاً أمَر من الحنظل وصرف نفسه كرهاً عما طمعت فيه وتيقنت ببلوغه وتهيأت له ولم يحل دونه حائل, لحرى أن يُسر غداً يوم البعث ويكون مقرباً يوم الجزاء وعالم الخلود وأن يأمن من روعات القيامة وهول المطلع وأن يعوضه الله عن هذه القرحة يوم الحشر.”
قلت: ألا ترى أن مثل هذا الوصف الدقيق للحب بين الجوانح ولسعته وعذابه لا يصح إلا من مجرب؟!
قال : ومن قال لك إنى لم أجرب؟ إلا أنى والله ما قارفت ذنباً قط ولا ارتكبت خطيئة توجب العقوبة وحاشا لمثلى وهو موقن أن الله مطلع عليه فى كل حال أن يتجرأ عليه بفعل الكبائر وسبحانه ينظر إليه.. لكن ما حيلتنا والقلوب بيد الله يصرفها كيف يشاء..
قلت: عابوا عليك تأليف هذا الكتاب..
قال: أعلم ذلك وقد قلت فى خاتمته:
أعلن أنه سينكر علىّ بعض المتعصبين تأليفى لمثل هذا الكتاب ويقول : خالف طريقته وتجافى عن وجهته. وما يحق لأحد أن يظن بى غير ما تسمته وذكرت ذم الله تعالى لكثير من الظن وطرفاً من أقوال النبى فى ذلك وختمت بقولى: ” وبالجملة فإنى لا أقول بالمراياة (من الرياء) ولا أنسك نسكاً أعجمياً ومن أدى الفرائض المأمور بها ولم ينس الفضل بينه وبين الناس فقد وقع عليه اسم الإحسان ودعنى مما سوى ذلك وحسبى الله.”
كانت الحافلة قد عبرت الجسر الرابط بين ” ربك” و”كوستى” إلى حيث مقصدنا فاستأذن طيف الفقيه الجليل وارتحل..!
——————————-
( كتبت فى خريف عام 1998 )

تعليقات الفيسبوك