مسائل فى أطروحة النور حمد فى تشريح بنية العقل الرعوى! (2)

إبتدرنا الحديث حول هذا الموضوع فى الحلقة الأولى بالثناء الحسن على جهد الدكتور النور حمد فى إختيار موضوع يعد من الكليات التى تحتاج بالفعل إلى جهد ومفاكرة بين السودانيين على اختلاف مشاربهم و بهدؤ واحترام متبادل وبتجرد عن الهوى و انفتاح ينأى بصاحبه عن العكوف المزمن على قناعات قديمة حمية, ومكابرة تجعل الحال على ما هو عليه مستعصياً على المعالجة.
أوردنا فى تلك الحلقة من ملاحظاتنا على الأطروحة مسألتين هما أن إشتمال تعريف الدكتور حمد للعقل الرعوى على النازية والفاشية والشعبوية التى تجتاح العالم هذه الأيام يجعل التوصيف الأدق هو ما توصل إليه الدكتور نفسه وهو (الإنسية والتوحش) وليس العقل الرعوى. ورأينا فى المسألة الثانية أن الإنسية والتوحش دورة تتكرر فى التأريخ على الحضارات ولا جنس لها ولا وطن وأوردنا الشواهد التأريخية على ذلك.وعليه لم نر مسوغاً للإفاضة فى الحديث عن عرب كعرق وكثقافة كأن التوحش واللانظام سجية فيهم غير محدثة.
المسألة الثالثة فى هذه المفاكرة تتعلق بمقولة الدكتور النور بشأن العرب والنوبة وأن النوبة الأقدمين قد عاشوا فى ملكهم الذى امتد عبر الحقب الوثنية والمسيحية فى كنف الدولة والقوانين والنظام حتى انقض عليهم العرب الرعاة فقوضوا ملكهم وأحالوا النظام والقوانين وسلوكيات حياة الحضر إلى فوضى ولا نظام فأورثوا الثقافة الحالية للسودانيين روحاً رعوية متفلتة تعاف النظام وتاباه وهى أم المعضلات القاعدة بالتطور والنماء والإصلاح. لكن المصادر التأريخية تشير إلى أن التدفقات العربية بدأت فى القرن التاسع الميلادى من مصر تحديدا بعد وصول أحمد بن طولون والى الخليفة العباسى المعتصم على مصر. وهو أول وال غير عربى يتولى ولايتها حيث تم استبدال القوة العسكرية العربية هناك بقوات تركية والأتراك هم خؤولة الخليفة المعتصم . وكانت القوات العربية قبل ذلك فى رباط عسكرى أوقفها الخليفة عمر بن الخطاب لذلك وكانت روتبها تأتى من بيت مال المسلمين مباشرة عقب الحقب التى أعقبت عمر. وقد منعوا من الإختلاط بالأهلين ومن ممارسة التجارة والزراعة , ليتفرقوا فقط لمهمة الرباط. فلما تم استبدالهم وقطعت أعطياتهم من بيت المال, أطروا للهجرة غربا إلى شمال إفريقيا وجنوبا إلى بلاد النوبة. والشاهد هنا , إن قبلنا تأريخ ابن خلدون , أن أولئك العرب لم يكونوا من الرعاة بل كانوا من العسكر (راجع هارولد ماكميلان تأريخ العرب فى السودان. ) و أنهم قد استفادوامن نظام التوريث النوبى للمُلك بأن يرث العرش ابن أخت الملك أو ابن بنته . وبذلك يكون الملوك الجدد , أولئك الخلاسيون ,الذين نتجوا عن المصاهرة العربية النوبية, قد تمرسوا فى نظم الحكم النوبية وأنهم قد حافظوا عليها حفاظهم على الملك نفسه فاستراتيجية العرب رامت الإستحواذ على المُلك لا تدميره. وأن وصول أبناء العرب إلى السلطة بهذه الطريقة فيما أرى ,هو الذى فتح السودان على مصاريعه لهجرات البدو الرعاة الباحثين عن الكلأ والماء. وهذا ما حدا( بجاى سبولدنق) الذى أشار إليه دكتور النور مرارا مستشهدا به, أن يعتبر سلطنة سنار والفونج مجرد استمرار للميراث النوبى القديم رغم أنه جرد صلتهم بالعرب وسخر مما ذكره هارولد ماكمايكل بلا دليل مقنع وفى تعارض بيّن مع غالب المراجع العربية والأجنبية التى تؤكد حدوث هجرات عربية مكثفة عبر مصر والبحر الأحمر وبلاد المغرب العربى. ( راجع ضرار صالح ضرار: هجرة القبائل العربية إلى وادى النيل مصر والسودان, مكتبة التوبة , الرياض السعودية 2001وتاريخ الثقافة العربية فى السودان للدكتور عبد المجيد عابدين ). يقول اسبولدينق فى وصف مملكة الفونج فى المدى الزمنى الممتد بين القرنين السابع عشروالثامن عشر الميلاديين, التى اعتبرها دكتور النور نتاج الفوضى العربية التى وضعت حداً لعظمة كوش التى ميزها النظام والقانون والسلوك المدنى:
” بلغت النهضة النوبية فى وادى النيل أوجها فى القرن الواقع بين 1650 و1750م وحكم سلاطين النوبة المسلمون قلب بلاد النوبة التى عرفتها العصور الوسطى (من دنقلا إلى حدود إثيوبيا ومن البحر الأحمر إلى كردفان) وفرضوا الجزية على الأراضى الجنوبية مثل تقلى وفازوقلى وبلاد الشلك.” ( جاى اسبولدينق, ترجمة أحمد المعتصم الشيخ , عصر البطولة فى سنار, هيئة الخرطوم للصحافة والنشر الطبعة الثانية 2014 ص27) ويقول فى الصفحة التالية ص 28″ اتسمت سياسة السلطنة بالتسامح الدينى والإعتراف بحقائق التنوع الثقافى لرعايا الدولة.” هذه أوصاف دولة حقيقية بمعايير زمانها رغم صحة ما أورده الدكتور النورمن حروبات كانت بين القبائل فتلك سمات, فى إطار المقارنة بمناطق أخرى من المعمورة ,كانت تحدث فى ممالك أخري فى ذلك الزمان بحكم بدائية وسائل النقل والإتصال التى لا تمكن المركز من بسط سلطان الدولة وإخماد النزاعات بالسرعة المطلوبة. سيما وأن البعض اعتبر سلطنة الفونج فيدرالية أكثر منها دولة مركزية (راجع ماكمياكل The Sudan ( ويؤيد ما ذهبنا إليه من أن الميراث النوبى فى المُلك وإدارة الدولة وفى نظام ونظافة مدنها كعاصمة مملكة علوة الذى اشار إليه الجغرافيون العرب قد بقى واستمر بعد أن آل الملك لأبناء الهجين الجديد للعرب والنوبة الذين أطلق عليه اسبولدنق ” النوبة المسلمون ” بدليل أن التأريخ لم يحفظ لنا ما يشير إلى أنه بعد سقوط المقرة فى القرن الرابع عشر وبعد سقوط علوة بعد قرنين من ذلك ,قد وقعت فوضى عارمة كما يفهم من سلسلة الدكتور إلا بقدر ما يكفى لإلتقاط الأنفاس واستئناف المسير .وأغلب ظنى , فى غياب ما يضحده , أن ذلك ما وقع بالفعل. كذلك أشار اسبولدنق إلى استمرارية عهود النوبة المتوارثة والتى لم يطرأ عليها جديد سوى إعتناقهم للإسلام بديلاً للمسيحية ,عادة التوريث عبر الأمومة وذكر فى تسلسل قائمة أعضاء الأسرة المالكة فى مملكة الفونج , بأن المرتبة الثالثة فى تلك التراتبية خصصت لخال الملك. (ص 36) . أمر آخر لعل دكتور النور يجلى غوامضه عند المفاكرة لاحقاً : وهو إذا كان العرب قد تدفقوا بالكثافة التى اشار إليها بحيث أنهم غيروا ديمقرافية البلد عرقاً وثقافة كما فعلوا مع البربر فى شمال إفريقيا ومع الفينيقيين فى الشام , فم المبرر لتبنيه لمقولة اسبولدينق بان طرائق العرب وثقافتهم فى تشييد الدور والمطبخ وغيرها من أوجه الثقافة تم تبنيها من قبل الطبقة البرجوازية الجديدة من عشائر اليعقوقاب وغيرهم وكأنها وافدة منبتة الصلة بالسودان وفى وقت كان ذكر العرب فيه خاملاً؟. فالهجين قد ورث دماء العرب وثقافتهم إلى جانب ميراثه الأصيل من ثقافة النوبة وهذا شأن كل هجين قديماً وحديثاً. اسبولدينق منطقى مع إستنتاجاته النافية لكل مكون عربى فى ثقافتنا رغم أنه لم يقم دليلاً قاطعاً على ذلك.
وهناك مسألة أخرى فى شأن النوبة كعرق فقد تعرضوا لهجنات عدة قبل دخول العرب فقد تعرضت منطقتهم لكثيرمن الغزوات وفى الذهن محاولة قمبيزالفارسى والقبائل الليبية القديمة فى الواحات فى الصحراء الكبرى ومنهم من كانوا من عبدة آمون الذى يوجد معبده عند سفح جبل البركل حيث كان يعمد فراعنة النوبة وفراعنة مصر. و يرى بعض المؤرخين أن إختلاط النوبة الأفارقة الخلص بأولئك الليبيين القدماء (سكان كامل ما يعرف اليوم بالمغرب العربى الكبير) هى التى أكسبت النوبة قسملتهم الهجين هذه. لذلك وصف ويليام آدمز النوبة فى كتابه Nubia Corridor to Africa بانهم خليطمن شعوب البحر الأبيض المتوسط وإفريقيا .وقد اشار الجغرافيون العرب الذين زاروا مدينة دنقلا العجوزقبل دخول الإسلام بأنها كانت أشبه بمدن اليمن وأن أهلها أخلاط بيض وسود معاً. وهو ما جعل مؤرخ الرومان هيرودوت يظن أنهم هنود. قال المقريزى أن االنوبة من حمير ( راجع khalidblogerثم وثيقة عيذانا ملك أكسوم فى الحبشة الذى دمر مملكة مروى تماما فى القرن الرابع الميلادى قبل ظهور الإسلام بقرون وقبل تدفقات بدو العرب (راجع الوثيقة فى مختارات على المك والمنسوبة فيها ترجمة وثيقة عيذانا للأستاذ جمال محمد أحمد) . فأول من دمر مُلك النوبة افارقة وجيران .وعلل ذلك بأنه فعل ذلك لإنهاء إضطهاد النوبة الحمر للنوبة السود! فإنقطاع إستمرارية مُلك النوبة إن سلمنا بأنه قد وقع , قد ساهم فيها كُثر قبل تدفق البدو العرب إلى سهوبها. فإلقاء اللوم على العرب فى حقن شخصيتنا برعوية فظة ليس عدلاً , إن كانت أطروحة الدكتور تشير إلى أن الرعوية خاصية متاصلة فى العرب متمكنة فى تركيبتهم , تجنح بالقائل إلى شنشنة عنصرية, يقينى أن دكتور حمد لا يستبطنها لكن سياق السلسلة يفرضها على المتلقى منطقاً. الإشكالية الأخرى واتساقاً مع ما يفهم من أطروحة دكتور النور, إن اعتبرنا هذه الرعوية البغيضة هى الإستنتاج الوحيد المتاح , لعيافتنا نحن أهل السودان , النظام و عدم الإلتزام بالقوانين والسلوك المغاير للسلوك المدنى المتحضر, وأنها متمكنة فينا بسبب إنتمائنا بالأصالة بالقليل او الكثير للعرب , يصبح داؤنا لا يرجى برؤه . وتلكم الطامة الكبرى . ويتصل هذا الحديث إن شاء الله..
(يتبع)

تعليقات الفيسبوك