مسائل فى أطروحة الدكتور النور حمد حول تشريح بنية العقل الرعوى! (1)

يحمد للدكتور النور حمد الإهتمام بالقضايا الكلية الشاملة التى تتفرع منها القضايا الجزئية فى مآلات السياسة والإقتصاد والسلم المجتمعى مثلما قام به عبر عشر حلقات فى تشريح العقل السودانى الذى رآه رعويا محصنا أو كالمحصن من تعاطى الحداثة التى يراها تتمثل فى إحترام القانون والسلوك المنضبط بقيم التمدن. وكنت قد حاولت قبل ذلك سبر أغوار الشخصية السودانية فى ورقة لى بعنوان “السلطة فى الثقافة السودانية” خلصت فيها إلى غلبة صفة (المساواتية) او Egalitarianism . لا لبداوة فينا ولكن لترامى رقعة البلاد الجغرافية وتشتت الكثافة السكانية وغياب سلطة مركزية قابضة قد يتولد عنها مع طول البقاء تضافراً مع نظم تربية تستمد ينابعها من منظومة قيم عند الناس ,مظاهر تمدن تتمثل فى إحترام النظام العام والقوانين المنظمة لحياة المواطنين وغير ذلك. وقد أحسن الدكتور النور بإعتبار مساهمته الهامة ضربا من العصف الذهنى. قال “كما أشرت هذه المقالات ليست سوى ساحة للعصف الذهنى لا يدعى كاتبها أنه ممسك بكل خيوط هذه القضية المعقدة .ما يملكه كاتبها ويمكنه قوله بكل ثقة كبيرة أن هناك أجندة بحثية جمة لا تزال تنتظرنا.” (الحلقة 6 نشت فى سودانايل 2 تشرين اثانى/ نوفمبر 2016). وهذه فضيلة أخرى تحسب له ودعوة للكافة لترقية النقاش الموضوعى لتلمس أسرار العقل السودانى للتوافق على إطار عام على الأقل تلتمس عبره المسالك لمعالجة أدواء وعثرات الوطن المزمنة.
والمسائل التى جعلتها عنوانا لهذه المقالة محض ملاحظات رايت لزاماً عليّ الإشارة إليها ليس بالضرورة استدراكاً على الرجل بقدر ما هى تساؤلات تروم مزيداً من التوضيح والإبانة.
لاحظت فى الحلقة الأولى إشارة دكتور النور إلى أنه أدرج فى تعريفه للعقل الرعوى أن الفاشية والنازية هبتان رعويتان رغم حدوثهما فى حضن الحداثة الغربية وكذلك ما جرى من تمزق للإتحاد السوفيتى ويوغسلافيا سابقا حيث استيقظت النعرات العرقية والدينية من ثبات عميق طويل . أضاف إلى ذلك صعود دونالد ترامب واعتبره إنكفائة إلى عقلية الكاوبوى الرعوية. وخلص إلى ان أنه يطلق على ذلك “ثنائية الإنسية و الوحشية أو النظام واللانظام أو صراع الجلافة مع الصقل والتهذيب والنبل وعالى القيم.” (الحلقة الأولى 28 سبتمبر 2016).
يستشعر من يقرأ هذا التوصيف أن ثنائية الإنسية والوحشية والنظام واللا نظام دورة تصيب كل الحضارات الإنسانية لا تختص بها ثقافة دون ثقافة وأن التراكم الحضارى الهائل والمتطاول لا يعتبر ترياقاً يمنع وقوعها لمن تجاوز مراحلها كالحداثة التى ظلت تضطرد لأكثر من قرنين فى المجتمعات الغربية.
وبالتالى لم أجد مسوغاً للتفصيل الدقيق – بعد هذا التعريف الذى اسنتجه أنا دون أن ألزم به الدكتور بطبيعة الحال- للظاهرة وكأنها خاصية عربية قعدت بالمجتمعات العربية دون سواها وهى قاعدة بالفعل وعاجزة لا شك فى ذلك. وينبغى أن يصوب النظر إلى دراسة هذه الظاهرة كظاهرة تتكرر رغم تراكم التجارب الإنسانية التى ترى فيها الحداثة أنها تتجه بالتراكم والعبر ,دوما إلى مراق أعلى وفضاءات من الإخاء الإنسانى أرفع.
لذلك تنشغل مراكز البحوث فى العالم حالياً فى بحث هذا التراجع فى مجتمعات الحداثة الغربية الذى أشار إليه دكتور النور ورأى فيه إنتكاسة إلى رواسب رعوية ,وهو تراجع أسموه ب “الشعبوية أو Populism ” التى تجتاح مجتمعات قطعت أشواطاً بعيدة فى مضمار الحداثة فى أوروبا وأمريكا الشمالية مع إرتدادات عنصرية وشحنات تطرف دينية تنذر بالويل والثبور وفظائع الأمور للأقليات العرقية والدينية فى أجواء تشبه أجواء النازية والفاشية. والأمر يلاحظ أيضاً على نطاق المعمورة وخارج أرض الحداثة الغربية ففى بلد كالهند – أكثر دول العالم الثالث نجاحاً فى ترويض الحداثة الغربية داخل السياق الهندى – وصل حزب بهاراتا جاناتا إلى السلطة وهو حزب يتبنى قومية هندوسية متشددة ذراعها الأيدولوجى منظمة تسمى RSS بعد عقود من حكم حزب المؤتمر الأكثر ليبرالية وتسامحا مع مكونات الهند الأخرى والأقرب إلى قيم الحداثة. وبروز بهاراتا جاناتا اليمينى فى الهند يصعب وصفه بالعلقية الرعوية إذ أن الهنود جميعاً عاشوا فى كنف مركزية سياسية واحدة على مر القرون .وفى ذات السياق نذكر عمليات الإبادة لشعب الروهنقا فى بورما. ولا يفوتنا بالطبع الإشارة إلى إنتعاش المشاعر المذهبية المتشددة الطاحنة والحرب الضروس المشتعلة فى البلاد العربية وفى إفريقيا.
وهنا لابد من التفريق بين القيم المدنية التى يحرسها الخوف من القانون وبين رعاية القيم المدنية فى رعاية حقوق الآخر وقدسية نفسه وممتلكاته . فصرامة القوانين الرادعة فى كنف سلطة شديدة الصرامة لا يجعل إذعان الناس حداثة ومدنية فانقطاع التيار الكهربائى فى مدن صناعية كبرى (وكوزموبلتان ) يؤدى لإرتفاع معدلات الجريمة بشكل لافت فقط فى سويعات ذلك الإنقطاع كنهب المحلات والسطو على ممتلكات الآخرين وغير ذلك من الجرائم بينما يقل ذلك فى مجتمعات تعتبر بمعايير الحداثة فى أسفل درجات الحداثة يحصنها من ذلك السلوك اللامتمدين, منظومة قيم وعادات مرعية يحترمها المجتمع .والشاهد هنا أن القانون والنظام لايصنعان مدنية تتفوق على ما يمكن وصفه بألا حداثة والتراكم وتطاول المدة يشبه غطاء على جزئيات أثاث عندما يرفع تجدها كما تركتها وهو ما حدث بعد سقوط منظومة دول المعسكر الإشتراكي وما يحدث دوما فى أنظمة تحفظ النظام فقط بقوة الحديد والنار.
و الخلاصة فى هذه المسألة تحديداً فيما أرى أن دورة الإنسية والوحشية داء بلا وطن ولا هوية مثل الأمراض العضوية تصيب كل من ضعفت مناعته وتوفرت لديه اسباب الإصابة بها. وهكذا تساقطت الحضارات العظيمة من قديم وارتدت مجتمعاتها عن سلوكيات التمدن.
المسئلة الثانية : أنه فى ضؤ ما تقدم فالعقل الرعوي ليس صفة عضوية دائمة لعرق معين بقدر ما هى مرحلة تأريخية تزول بزوال اسبابها فالقبائل الجرمانية التى قضت على الإمبراطورية الرومانية كانت قبائل وصفت بالبربرية والتوحش لكنها ذابت فى سلوكيات ما بقى من الحضارة الرومانية ولم تحول دون إستئناف مسيرة النهضة الأوربية ولو بعد حين.
كذلك إمبراطورية المغول فى الهند فى القرن السادس عشر والتى تفرعت من إمبراطورية التتار التى أسسها جينكزخان وهى ربما تكون من أسوأ دورات التوحش البشرى, أرست قواعد التمدن والحضارة فى شبه القارة الهندية ولا تزال شواهدها من الأبنية العظيمة والأضرحة the artifacts
أعظم ما تفاخر به الهند من تراثها . والشاهد هنا أن التوحش الذي دمغ سيرة المغول وغاراتهم على غرب آسيا وعلى الهند تحديدا لم يدم ولم يصبغ العقل الهندى المغولى برعوية دائمة بل تميزت معظم عصور أولئك السلاطين بالتسامح إذ ظلوا يحكمون بلدا غالبية سكانه يدنون بالهندوسية دون أن يُكرهوا على تركها. والعرب أنفسم تمدنوا وبنوا حضارة عظيمة فى الأندلس ليس مجرد أبنية كالتى فى قصر الحمراء وقرطبة وإشبيلية بل فى الفكر والفلسفة والفنون بل ساهموا فى ترقية العقل الغربى كما هو معلوم وكذلك فعلوا فى بغداد. ويرى بعض الباحثين أن العرب قبل جاهليتهم كانوا أهل حضارة خاصة فى أطراف الجزيرة العربية قرب فارس والروم (الغساسنة والمناذرة) مستعينين بمصادر تأريخية غربية يمكن البحث عنها بغرض التوثيق والتيقن وأن الجاهلية أعقبت ذلك التمدن .وكنت فى هذا السياق قد استعرضت فى مقالة لى محاضرة للدكتور جعفر ميرغنى عن شعر امرؤ القيس ِ (الشعر الجاهلى بين الدكتورالدكتور طه حسين والدكتور جعفر ميرغنى- سودانايل 16 يونيو 2015) أورد فيها من بطون كتب التأريخ القديم ما يدل على ذلك.
والشاهد هنا أن التوحش ورعوية العقل ليست سجية في العرب دائمة دون غيرهم من خلق الله ولكنها حال تصيب كل الحضارات فى دورات يعقب بعضها بعضا.
ونواصل إن شاء الله طرح هذه المسائل بدءاً بتشريح حالة السودان .
(يتبع)

تعليقات الفيسبوك