مذكرات الفريق أول ركن صالح صائب الجبوري العراقي وحكاية ” ما كو أوامر!

أهدي إليّ الدكتور عامر الجبوري، استشاري طب المسالك البولية والأستاذ بجامعة جورج واشنطن الذائع الصيت في منطقة واشنطن العاصمة مشكوراً كتابين عبارة عن مذكرات السيد والده سعادة الفريق أول ركن صالح صائب الجبوري. الأول بعنوان،” صفحات من تأريخ العراق المعاصر ١٩١٤-١٩٥٨”.وهو كما يتضح من عنوانه عن تأريخ العراق الحديث منذ قيام الحرب العالمية الأولي عندما كان ولاية عثمانية وحتي استقلاله بعد ثورة العشرين المعروفة، والثاني مؤلف ضخم بعنوان ،” محنة فلسطين وأسرارها السياسية والعسكرية”. والكتاب الثاني وثيقة مهمة عن مرحلة فارقة من تأريخ المنطقة العربية ويحتوي الكتاب علي دور الجيش العراقي في حرب فلسطين ويفند مقولة أنه تقاعس عن أداء الدور المنوط به.
والفريق أول صالح شغل منصب رئيس هيئة الأركان في أول جيش وطني عراقي علي أيام الملكية عام ١٩٢١ وظل يتقلب في وظائف ووزارات عدة حتي قيام الثورة في العراق التي أنهت النظام الملكي وأقامت الجمهورية العراقية في العام ١٩٥٨.
وقبل الخوض في دهاليز الكتابين المهمين أود أن أشير إلي مودة تربطنا بالأشقاء الأباعد بحكم المسافات كالعراق وموريتانيا، كأن الجوار الجغرافي يعكر صفو العلاقات بالاتهامات و مخاوف التربص لمظنة تغول القوي علي الضعيف وهضم حقوقه المشروعة، وبعض تلك الظنون حق وكثير منه تغذيه الغيرة والتنافس وأعداء الطرفين وبعضه من نسج الخيال أحياناً. و حبنا للعراق رغم بعده الجغرافي غير وشائج الدين والثقافة واللغة أنه كان منارة من منارات الحضارة في الزمن القديم، حدائق بابل المعلقة وقوانين حمورابي التي قيل إنها أول ما سجل علي القرطاس من قوانين تنظم حياة الناس، وجرسها الحبيب المترع بالأخيلة والمعاني “بلاد الرافدين”، ودار الحكمة أول جامعات الدنا وقصص الحمام الزاجل الذي يحمل حب الملوك ( الكرز) للأمراء ويحمل الصحائف، أول صحف تصدر في الزمان كله ، من بغداد مفخرة المدائن، تحمل الطُرَف والأخبار و جديد الأشعار إلي الناس في حواضر كانت هي الأخرى مراكزاً لعلوم العربية والقراءات القرآنية هي البصرة والكوفة. ومن الفلاسفة يعقوب بن يوسف الكندي أول من ترجم فلسفة اليونان للعرب ومن أهل الموسيقي والفنون ابراهيم الموصلي وتلميذه النابغة زرياب. ملك ممتد جاز للخليفة هارون الرشيد أن يفاخر به وهو يرنو ببصره إلي السحب الممطرة فيقول لها “أمطري حيث شئت يأتينا خراجك!”. وقد علمت مؤخرا أن (الشيكل )الذي تتخذه إسرائيل اسماً لعملتها ليس له صلة بتراثها التوراتي وانما كان عملة للعراق قبل نحو ثلاثة آلاف سنة.
ومن العراق جاء إلي السودان الشيخ العابد القادري الجيلاني ، تاج الدين البهاري ليسلك الشيخ إدريس ود الأرباب و الشيخ بانقا الضرير ( قالوا في تخريجها بان النقاء ) وهو جد اليعقوباب ومواطننا الركابي الشيخ محمد الأمين ود عبدالصادق في سلك الطريقة القادرية، أول الطرق الصوفية هي والشاذلية في السودان. وقد أبدع الشيخ الطريفي شيخ الطريقة القادرية العركية بالقضارف في التنويه بشيخ الطريقة القادرية الولي الصالح الشيخ عبد القادر الجيلاني ساكن بغداد الذي أرسل حوارييه في أطراف الدنيا لنشر الدين والطريقة:
ياسراي يا سراي الجافوا النوم عقدوا الرأي
إ
الليم متين يامولاي
ساكن بغداد في كل بلد سوالو ولاد
الليم متين يا مولاي
واحدين زهاد واحدين عباد
واحدين صايمين تاركين الزاد
الليم متين يا مولاي
واحدين أقطاب واحدين بدلا ما بعرفوا خطاب!
وما أعذبها من مديح علي لسان أبناء دكة الشيخ عبد الباسط الشيخ. وكانت قد انتشرت سبعينيات القرن الماضي لدرجة أنها دخلت ساحات الغناء! والليم وهي مهموزة في الفصيح والتسهيل لغة فصيحة كذلك :اللئم : لمّ وملموم أي مجموع ومنه اللٌمه وهي الجماعة من الرجال بين الثلاثة إلي العشرة . هكذا في( لسان العرب) لابن منظور. والمراد متي يلتئم شتاتنا بالرسول صلي الله عليه وسلم ومتين في العامية السودانية أي متي!
وزرت أثناء عملي في الهند مدينة حيدر أباد في اطار جولة تفقدية لأوضاع طلابنا هناك فاستضافنا فيها الأستاذ فخار الدين أحد حفدة تاج الدين البهاري ، رئيس الرابطة العربية الهندية لحيدر أباد وأكرمنا غاية الاكرام في مهرجان محضور حضره أعيان المدينة ومنهم النائب في البرلمان القومي (لوك صبحا) عن حزب المؤتمر الهندي ،كي.اس. راو K.S.Rao الذي استضافنا في قصره المنيف وقد استجاب مشكوراً الطلبنا بتزويد مستشفيي التضامن في طريق شريان الشمال بغرفة عمليات كاملة بالتماس من ذلك المستشفى، وكانت شركة له قد نفذت مختصر طريق بورتسودان من (عطبره إلي هيا )كما بنت محطة التوليد الحراري لمنطقة كوستي. والأستاذ فخار الدين أعاننا أكثر من مرة في حلول لمشاكل الطلاب جزاه الله خيراً. زار الأستاذ السودان وقضي ليلة ذكر كاملة مع القادرية في( ام بده ) في أمدرمان وكان في صحبته أعضاء جمعيته ونائبا برلمانياً آخر هندوسيا وكريمته شاركا في الذكر حتي الصباح. وجاء الشيخ ظنا منه بأن الشيخ البهاري. جده، مدفون في السودان فأخبره السادة شيوخ القادرية بأنه قد دفن في المدينة المنورة علي ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم. وهناك تشابه في عاميتنا والعراقية مفردات مثل حبوبة وهسع ولسع وعجاج وغيرها قطعت هذه الفيافي إلي السودان . ومن فضلاء من جاءوا احمد هاشم البغدادي وله أوقاف معروفة فقد أوقف ثروته كلها لرعاية طلاب كلية الطب التي كانت تعرف بكلية كتشنر الطبية تخليدا لذكري كتشنر بعد أن أغرقت سفينته أثناء الحرب العالمية عام ١٩١٦. وهناك أسماء لمبدعين وعلماء سودانيين تدل علي احتمال أن أسلافهم قدموا من العراق مثل الأستاذ الفنان التشكيلي والمربي الملقب بأبي الفنون بسطاوي بغدادي وقد سعت أسرته لتخليد ذكراه بتأسيس مؤسسة بسطاوي بغدادي الطوعية وهناك عشائر عديدة تعيد أسلافها إلي العراق مثل العُراقيين في نوري. بل ويذهب الأستاذ عباس محمد زين في كتابه”صور من حياة الشايقية :القرن التاسع عشر ” أن جدهم وجد الجعليين قدم من العراق ” .وسمعت في لقاء في برنامج الدكتور عمر الجزلي “أسماء في حياتنا” مع الدكتور والوزير عبد الحميد صالح أن أسلاف والدته ينحدرون من مدينة الموصل في شمال العراق. ولعل اسم الجبوري الشائع في كردفان دالة أخري علي عمق هذا التواصل الذي لم ينقطع. وفي مناهج التعليم العام درسنا قصائد لمعروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي ثم نقبنا في شبابنا عن محمد المهدي الجواهري وبدر شاكر السياب وكان لمكتبة المثني في بغداد رنينها في آذاننا الصغيرة ودار الحكمة في واشنطن الكبرى للصديق ضياء سعداوي العامرة بأمهات الكتب لا تزال تذكّر بعظمة هذا البلد الراسخ القدم في الحضارة والآداب والفنون منذ أيام الرشيد والمأمون.
الفريق ركن صائب صالح الجبوري هو ابن رجل عسكري فقد كان أبوه قائدا للخيالة في الجيش العثماني قبل تأسيس العراق كدولة مستقلة والتي تكونت من ولايات عثمانية ثلاث هي الموصل وبغداد والبصرة فيما عرف عثمانياً بالولايات العربية. التحق بالجيش العثماني برتبة ملازم وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولي كانت تركيا ضمن دول المحور فانتدب عام ١٩١٥ ليلتحق بأبيه الذي سبقه الي تركيا لمقاتلة البريطانيين. وقد وشهد الوقائع العنيفة وتعرض لإصابات خطيرة عدة مرات. ولما خسرت دول المحور الحرب تكونت المملكة العراقية عام ١٩٢٠ من الولايات الثلاث المذكورة بعد ثورة القبائل العربية فيما عرف بثورة العشرين واختيار الأمير فيصل بن الحسين ملكاً عليها . تم تكوين الجيش العراقي وعين السيد صائب برتبة ملازم عام ١٩٢١وظل يتدرج إلي أن بلغ رتبة فريق أول ركن ثم وزيراً فيما بعد للإعمار. معلوم أن الفترة التي سبقت قيام الحرب العالمية الأولي وكانت سببا لها تميزت ببروز عقيدة القوميات . بدأت بالقومية التركية الطورانية في تركيا (تركيا الفتاة) والتي وصلت للحكم عام ١٩٠٣ وهمشت المكون العربي في الدولة العثمانية مما أيقظ المشاعر العربية كردة فعل فولدت القومية العربية من رحم (العربية الفتاة في باريس ١٩٠٩ ) وقبل ذلك توحد السلاف في منطقة البلقان واغتيال ولي عهد النمسا في سراييفو والذي أفضي لقيام الحرب. ولعل حق تقرير المصير الذي ورد في نقاط الرئيس الأمريكي ودرو ويلسون الأربعة عشر كان تماهياً مع نهوض تلك القوميات وقد ترتب علي النص في احداها علي “حق تقرير المصير للشعوب” ، العديد من التطورات: قامت الثورة المصرية عام١٩١٩ التي انهت الحماية البريطانية لمصر و أدت إلي استقلالها التام لاحقاً كذلك شهد السودان حراكاً سياسياً افضي لقيام ثورة اللواء الأبيض عام ١٩٢٤وفي عام ١٩٤٢ استند مؤتمر الخريجين في السودان علي المطالبة باستقلال السودان علي ذات المبدأ الذي نادي به ويلسون. وعوضاً عن أن تفضي هزيمة العثمانيين إلي تحقيق وعد بريطانيا للشريف حسين بن علي بقيام الدولة العربية الموحدة التي كانت تحت العثمانيين جاءت اتفاقية (سايكس- بيكو ) سراُ في البداية ، بين فرنسا وبريطانيا بموافقة روسيا القيصرية عام١٩١٦ ثم جاء وعد بلفور في فبراير عام ١٩١٧ بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين وتم اخضاع العراق للبريطانيين بالكامل عام ١٩١٨.
ومن تلك السنة انطلقت ثورة العشرين التي كانت مفخرة للشعب العراقي وللشعوب العربية. ورغم استعانة الحكومة البريطانية بقوات من الهند واستعادة ما حرره الثوار، إلا أنها سرعان ما اعترفت باستقلال العراق. ورد ذلك في كتاب “صفحات من تاريخ العراق المعاصر ١٩١٤-١٩٥٨”. وكما ترون فالكتاب يؤرخ لفترة مهمة من تاريخ العراق والمنطقة بأسرها وقد استوقفني التغلغل البريطاني الماكر للعراق إذ بدأ بطلب إنزال قوات بريطانية تروم الوصول براً إلي فلسطين وتم السماح له لكن تدريجياً تم احتلال البصرة وسائر العراق. فعلوا مثل ذلك في الهند باستخدام شركة الهند الشرقية. وكان الفريق أول ركن صائب قد تولي قيادة الجيش لسبع سنوات من عام ١٩٤٤ يقول تم ذلك دون مشورة الإنقليز الذين عملوا علي ابعاده من قيادة الجيش حتي نجحوا وقد أورد تأييداً لذلك صورة لبرقية للسفير البريطاني باللغة الإنقليزية من قبيل البرقيات التي تنشرها الاستخبارات البريطانية بعد عقود من الزمن ، لحكومته مغتبطاً بذلك.
وفي كتاب “محنة فلسطين وأسرارها السياسية والعسكرية” أورد المؤلف وبتفصيل دقيق مدعوم بالوثائق ضعف القوات النظامية العربية وضعف التنسيق بينها الذي أدي للهزيمة وأورد أن حجم القوات العراقية المشاركة في فلسطين كان هو الأكبر وأنها تمكنت مع الجيش الأردني من الحفاظ علي الضفة الغربية. وللتدليل علي جدية العراق في تلك الحرب أشار إلي أن رئيس وزرائه اقترح في اجتماعات رؤساء الحكومات العربية في القاهرة في فبراير/ شباط عام ١٩٤٧ تنفيذ مقررات مجلس الجامعة العربية في توقيف أعمال شركات النفط في كافة البلاد العربية وإلغاء امتيازاتها وهو ما لم يعمل به. أما تهمة تقاعس الجيش العراقي المعبر عنها بعبارة “ما كو أوامر ” فقد أطلق عليها صفة الفرية وأفرد لتفنيدها الفصل الواحد والثلاثين من كتابه الضخم وجعل عنوان الفصل ” فرية ما كو أوامر” وتعني في اللهجة العراقية لا توجد أوامر شملت الصفحات من ٥٢٣ إلي ٥٣١. وأشار إلي أن مبعثها كان التغطية علي تقاعس جهات أخري غير العراق كما أن الحسد كان دافعاً للنيل من مواقف الجيش العراقي المشرفة كما بيّن.
هذه سياحة مفيدة جدا وممتعة مكنتنا من الإلمام بطرف من تاريخ هذا البلد الشقيق الذي نرجو له الاستقرار والتقدم الذي يستحقه متكئاً علي إرث حضاري عريق يتيح له دوما تجاوز صعابه والتغلب علي كبواته والمضي قدماً وشكري للنطاسي الكبير البروفسور عامر الجبوري ودعواتي للسيد والده بالرحمة وقبول ما قدم من تضحيات لوطنه وللأمة.

تعليقات الفيسبوك