عرض كتاب: مدينة مقدسة علي النيل
أم درمان في سنوات المهدية١٨٨٥-١٨٩٨
روبرت أس كرامر
ترجمة البرفسور بدرالدين حامد الهاشمي
في البدء لا بد من كلمة في حق البروفسور بدر الدين حامد الهاشمي تنويها بالعمل الكبير الذي قام ويقوم به في خدمة الثقافة السودانية حيث لم يمنعه عمله الدؤوب في ميادين البحوث العلمية النافعة، ميدان تخصصه في العلوم الحيوية، بحضور المنتديات والمؤتمرات العلمية من عكوف دائم علي ترجمات هامة في تأريخ السودان بلغت حتي الآن ١٢ جزءاً حملت عنوان “السودان بعيون غربية” علاوة علي ترجمة كتاب (عثمان دقنة) للبريطاني هنري جاكسون ومقالات من ذات القبيل ظل يترجمها وينشرها في الصحافة الورقية والإلكترونية.
والكتاب موضوع هذا العرض، كتاب مهم في مادته كتبه الأكاديمي الأمريكي بالإنقليزية البروفسور روبرت اس كرامر
Robert S Kramer ,Holy City on the Nile Omdurman During the Mahadiyya
والكتاب مستمد من أطروحة لنيل الدكتوراه من جامعة نورث ويسترن حصل عليها عام ١٩٩١.
يقع الكتاب في مقدمة وستة فصول من القطع المتوسط قامت بنشره دار المصورات للنشر والطباعة والتوزيع في الخرطوم، استحوذ بالمراجع والملحقات علي ٢٦٣ صفحة.
تكمن أهمية الكتاب أنه أرخ لأهم مدينة سودانية أسسها سودانيون لم تتأسس علي أيدي غزاة مستعمرين حتي غدت عاصمة للبلاد ورمزا من رموزها الوطنية. سبقتها في ذلك الوقت ربما مدينة الأبيض في وسط السودان من حيث النشأة والأهمية التجارية وإلي حد ما مدينة الفاشر مبتدأ درب الأربعين . هناك طبعاً سواكن وبربر وشندي كمراكز تجارية هامة ولكن لم ينطبق عليها تعريف المدن . وقد أورد المؤلف مقتطف للرحالة السويسري بيركهاردت يصف فيه تجمعات السكان في السودان النيلي بأنها ” سلسلة من الدويلات الزراعية التي لا توجد فيها مدن.”
الكتاب قدم رؤية متكاملة للحياة في أم درمان خلال سني المهدية منذ فتح الخرطوم علي يد الثوار في يناير ١٨٨٥ وحتي إعادة استعمار السودان في أغسطس عام ١٨٨٩ من قبل المملكتين البريطانية والمصرية بقيادة الجنرال( اسبنسر كتشنر ): التخطيط التجاري والمالي والصناعي ومحاولات دمج مكونات السودان العرقية والجهوية، الحياة الاجتماعية وعلاقات المركز الجديد ، أم درمان بأجزاء السودان المختلفة.
وهذا الكتاب لا يضاهيه في المصادر الرئيسة سوي كتاب المرحوم عصمت زلفو الذي تمكن من الوصول إلي عدد كبير ممن أدركوا المهدية أو طرفاً منها وهو كتاب يتعين إعادة طباعته فقد نفد من الأسواق ، وقد جعله هذا المؤلف الأمريكي أحد مراجعه . لكن يتفوق كتاب كرامر هذا علي كتاب زلفو بالمهارة الأكاديمية والدقة والتحليل وللإنصاف فإن تركيز الكاتبين كان مختلفا حيث اقتصر الكتاب موضوع هذا العرض علي نشأة مدينة أم درمان هذا حتي لا نغمط كتاب زلفو حقه في مقارنة لا متكافئة فهو يشكل مادة هامة لدراسة متقنة. أقول إن قائمة الذين استقي منهم الكاتب معلوماته عن حقبة أم درمان في المهدية تضفي علي الكتاب أهمية كبيرة فجلهم حفدة قادة ووجهاء وتجار وشيوخ قبائل كانوا في المدينة وقتئذ وعدد من المسيحيين واليهود السودانيين.
أفرد المولف الفصل الأول كتوطئة للحديث عن مدينة أم درمان أو المدينة المقدسة ،للحديث عن المدن في السودان وهو فصل هام يؤكد عمق الصلات التي ربطت هذا البلد بالعالمين الإفريقي والعربي وببلاد بعيدة مثل الهند. ورغم حديث المقدمة عن انعدام تجمعات سكانية يمكن أن يطلق عليها مصطلح مدن إلا أن المؤلف أورد إفادات تدحض ذلك فقد أورد في ص ٢٦ حديثا للرحالة الألماني فرنسيسكان ثيودور كرامب الذي زار السودان بين عامي ١٧٠٠-١٧٠٢ مفاده أنه وجد مدنا مكتظة السكان إذ قال في حق أربجي بأنها ” مكان لطيف وجذاب يتجمع فيه التجار الجلابة لعبور النهر. أما عن سنار العاصمة فقد ذكر أنها من أعظم المدن التجارية في القارة الافريقية بأسرها حتي مدن المغرب العربي وأنها من حيث السكان تأتي بعد القاهرة مباشرة و(كوزموبولتان) أيضاً” يمكن لأي رجل من أي جنسية أو ديانة أن يقطن فيها دون أدني عائق….” وأن سوقها كان منظما وفقاً لكل سلعة فضلا عن أن التجوال في مجمع القصر الملكي كان يستغرق ثلاثة أرباع الساعة.
أما الفصل الثاني فقد أفرده الكاتب للحديث عن نشأة أم درمان مبتدأ بالاسم الذي حارت الروايات في أصله إلي القول إنها لم تكن شيئاً قبل المهدية وأن أول مستوطنة بها كانت للشيخ المحسي حمد ود أم مريوم الذي عاش بين ١٦٦٤ و١٧٣٠ انتقل إليها من جزيرة توتي وبني فيها خلوة. (ص٤٨). وبعد الغزو التركي أمر شارلس غردون جعل أم درمان حامية عسكرية لحماية العاصمة الخرطوم وذكر غردون في يومياته أنه جعل فيها ٢٤٠ جنديا وربطها بالتلغراف مع الخرطوم. وعندما وصل الإمام المهدي بجيشه إلي أبي سعد في ٢٣ أكتوبر ١٨٨٤ محاصرا الخرطوم كتب لقائد حامية غردون في أم درمان ،فرج الله راغب باشا، أن يسلم ففعل في الخامس من يناير ١٨٨٥ أي قبل اقتحام الخرطوم بنحو ثلاثة أسابيع. يقول البريطاني هولت : بسقوط الخرطوم “ارتفع شأن أم درمان” فعند استسلام حامية أم درمان هرب الناس من الخرطوم وانضموا لجيوش المهدية. (ص٥١). وفي يوم ٢٧ يونيو أي بعد يوم واحد من وفاة الإمام المهدي أصدر الخليفة عبدالله تعليماته لسكان الخرطوم يأمرهم بتركها والانتقال الفوري لأم درمان ومنحهم مدة أسبوع واحد للانتقال وكلف اثنين من الأنصار، إبراهيم البردين وعبد الحليم مساعد بالإشراف علي التنفيذ. وحالت بعض التعقيدات من تنفيذ الأمر بحذافيره في المدة المحددة. وظلت بعض العائلات عاماً كاملا مقيمة في الخرطوم ومن أولئك السيد أحمد شرفي حمو المهدي وكبير الأشراف بتكليف من الخليفة بالبقاء هناك ومنع اتلاف كل ما له قيمة هناك. (ص٥٣).
ولا حظ الكتاب أن كتاب الخليفة الموجه لسكان الخرطوم بالتوجه لأم درمان كان يستبطن عقيدة بأن الانتقال يعتبر أمرا دينياً واجب النفاذ وموجب لعقاب من لم يمتثل له ذلك أن الأنصار كرهوا البقاء في الخرطوم التي اعتبروها مقاما للكفار المستعمرين.” وكان هدف الخليفة المعلن هو بالطبع الاستمرار في دعوة المهدي لإقامة الجهاد في داخل وخارج السودان. وكما كان سائدا في عهد المهدي فقد كانت الدعوة للجهاد تصاغ بما يفيد بأنها هي (الهجرة) إلي حيث أقام المهدي بقعة للمؤمنين بالمهدية.” (ص ٦٧). وتعاظم شأن أم درمان باعتبارها مدينة مقدسة يقيم بها مهدي الزمان الواجب اتباعه خاصة بعد منع الحج إلي الأراضي المقدسة واستعاضة الناس عن ذلك بزيارة “بقعة المهدي”. وكان اسم “البقعة” حياً حتي ستينيات القرن العشرين. أذكر أن سيارات الأجرة التي تعمل بنظام (الطرحة) كانوا يتمركزون غرب ميدان الأمم المتحدة في الخرطوم قبالة زنكي الخضروات واللحوم يصيحون للدعاية لمركباتهم المتجهة إلي أمدرمان: “البقعة… البقعة.” ونشأة أم درمان تشبه نشأة العديد من المدن السودانية التي حملت أسماء شيوخ يعتقد الناس في صلاحهم فتجمعوا حول أمكنة خلواتهم حتي كبرت فأصبحت مدناً، كمدينة ودمدني والحاج عبدالله والحاج يوسف والأبيض في بعض الروايات . مما يدل علي عمق التدين في الثقافة السودانية. وروي المؤلف أن السيد علي المهدي نجل الإمام المهدي حفيد شيخ المهدي القرشي ود الزين عندما سئل عند استجوابه في مصر عن مكان إقامته في السودان قال: مدينة الإمام المهدي. ويعطي المؤلف صورة قلمية للمدينة بعد أن كبرت واتسعت: ” وما أن حل منتصف عام ١٨٨٦م حتي كانت المدينة قد امتدت لمسافة تفوق أكثر من ستة كيلومترات علي ضفاف النيل. ونحتاج هنا لذكر شيء من منظر أم درمان في تلك المرحلة الباكرة. لقد كانت أم درمان قديماً منطقة كثيفة الأشجار، عدا شريط ضيق علي شاطئ النيل كان أفراد من عرب الجموعية ( الذين يقطنون قرية الفتيحاب جنوب المدينة) يقومون بزراعته. وإلي الغرب ولمسافة ميل كانت أم درمان أرضاً صحراوية تماماً. ومع بدء السودانيين الاستقرار في أم درمان في عام ١٨٨٥ وما بعدها شرعوا في إزالة الأشجار والأعشاب البرية من آجل تشييد منازلهم. وكانت تلك المساكن في بداية الأمر عبارة عن أكواخ وأعشاش متواضعة مبنية من الخشب وسيقان نبات الذرة( تسمي العشة الواحدة منها باللغة الدارجة تكل.) إلي أن أقيمت بعد مرور بعض السنوات في المدينة الكثير من المساكن المستدامة المقامة بالطوب الطيني.” (ص٥٤).لاحظت في كتاب عملية موسيMoses Operation في ترحيل اليهود الأثيوبيين ، الفلاشا إلي إسرائيل قول مؤلف ذلك الكتاب أن الفلاشا كانوا يسمون أكواخهم (تكل) بضم التاء بينما شببنا علي أن تكل تعني المطبخ في البيت لا الكوخ. في البدء تركز السكن علي ضفاف النيل لحاجة السكان للماء ومع نمو السكان تمددت المدينة إلي الداخل. ميز شاطئ النيل ميناءان واحد في نهاية المدينة من الناحية الشمالية عرف لاحقاً بحي ابروف والآخر في جنوب المدينة هو الموردة الذي يعتبر الميناء الرئيس لأم درمان.
دافع المؤلف عن التسهيلات التي كان يقدمها الخليفة للمهاجرين من غرب السودان ولا يلقاها غيرهم من مهجري الجزيرة وقبائل رفاعة الهوي وغيرهم بأن الرحلة من الغرب كانت طويلة ومرهقة فكان لابد من تقديم العون للمهاجرين من هناك لتشجيعهم عليها. وكان جل المهاجرين إلي ام درمان من قبائل الغرب ربما لأنهم كانوا الأسرع في مناصرة الثورة المهدية وكانوا يشكلون القوة الضاربة في حروباتها. وقد استدعي الخليفة زعماء القبائل الأخرى من غير الغرب لشكوكه في ولائهم للثورة المدنية ولخوفه من تمردهم أمثال الشيخ عبد الله عوض الكريم اب سن شيخ قبيلة الشكرية، وصالح فضل الله سالم من قبيلة الكبابيش. كما استدعي وبإلحاح جميع التجار النيليين من كردفان ودار فور بعائلاتهم وقد أطلق عليهم اسم “أولاد البلد”. وقد لاحظت أن جل أعيان القبائل النيلية قد جئ بهم من كردفان مما يدل علي أن كردفان وبخاصة الأبيض وبارا كانتا محاضن انصهرت فيها أعراق السودانيين. كذلك جئ من كردفان بالأقباط والسوريين ممن كانوا كتبة ومحاسبين في زمن التركية لخدمة الدولة الجديدة ومن أولئك يوسف ميخائيل.
ولما كانت رايات الجيش لدي القبائل كما كان الحال في عهد النبي (صلي الله عليه وسلم) فقد توزعت القبائل في أم درمان علي ذات المنوال: حي الركابية ، حي الرباطاب وهكذا. و هناك أحياء لمختصين كبيت المال وبيت الأمانة وحي للملازمين وهم حرس الخليفة. وهكذا وقد أورد الكاتب توزيع المورخ أبو سليم لأحياء أم درمان في المهدية.
علي المستوي الاجتماعي سعت المهدية لصهر الأعراق بالتزاوج والمصاهرات وتمتين اللحمة الوطنية فقد فرض الخليفة عقوبة قاسية لمن عير أحدا أو وجه سباباً لآخر بثمانين جلدة وسجن لسبعة أيام ولمن وصف آخر بأنه عبد. ( ١٣٢ص). ولكن السياسة عصفت بتلك المحاولات خاصة بعد ثورة الأشراف. وقد حاول الخليفة تخفيف حدة التوتر بين أولاد البلد وعرب البقارة عندما اشتكي الآخرون بأن أولاد البلد يقولون لهم “بقارة”. واشتكي أولاد البلد بأن عرب البقارة يسمونهم “جلابة” فقال خالد العمرابي ،” يا خليفة المهدي ليتهم يسموننا “جلابة” فقط! إنهم يقولون لنا يا نوبة كذلك.” غضب الخليفة حين سمع ذلك واستدعي الأمراء وأخيه يعقوب وطالب بعقد ألف زيجة بين الجانبين حتي تختفي هذه النعرات.( ص ١٥٥ و١٥٦).وقد أحسن المؤلف صنعاً بالإتيان بقوائم لزوجات المهدي والخليفة وبقية رواد المهدية تبين بجلاء التداخل العرقي الشديد بين هذه المكونات النيلية وتلك الكائنة في الغرب وتبين أن العقيدة المشتركة قد أذابت الكثير من جبال الثلج العرقية وأن السياسة وليست الأعراق هي التي أبطأت بذلك المشروع الحيوي والهام.
في مسعي لتخفيف من سبة الاسترقاق وفي إطار الدعوة للتقشف والزهد دعا المهدي للاقتصار علي خادمة واحدة للمرأة وغلام للرجل. كما أمر المهدي بتقليل المهور ونصح بألا تزيد وليمة العرس علي اللبن والتمر ومنع إقامة المآتم لأيام عديدة. (ص ١٣١).وكان الإمام عبد الرحمن قد أحي تلك السنة بما عرف بعرس الكورة. وكان من غناء البنات “دايرين العرس بالكورة!”
وفي الختام هذه ترجمة لكتاب يستحق القراءة فقد خلا من تحامل يلازم كتابات الغربيين عن تجارب المسلمين وطرائق حياتهم واجتهد في قراءة سياسات المهدي والخليفة في السياقات التاريخية للأحداث بل وفند بعض المزاعم كحرق الخليفة لمدن مثل المسلمية والكاملين وغيرها وأثبت بشهادة بابكر بدري أنها كانت موجودة. في الكتاب كما في كل كتاب هنات. مثلا في سياق تفنيد زعم أن الخليفة أحرق المدن، أشار إلي وجود “أبو حراز في النيل الأزرق وهي موطن شيخ حمد النيل، شيخ الركابية وخصم الخليفة اللدود.” والصحيح أن شيخ حمد النيل هو شيخ العركيين وطريقتهم الصوفية فرع من القادرية وليسوا الركابية. وفي موضع آخر أشار إلي أحمد شرفي بأحمد شريف. وحاج شريف هو جده بالفعل وجد الإمام المهدي ولكني أظن ذلك خطأ بلا قصد.
أمر آخر فقد تمنيت أن يكون الفصل الأخير “تجربة أم درمان”، فصل تحليل لمجمل تجربة تأسيس مدينة من العدم بحجم أم درمان، النجاح والإخفاقات وتأثير الثورات الداخلية والخارجية علي سياسات الخليفة الاجتماعية والإقتصادية في المدينة كخاتمة لنشأم المدينة بإضاءة سريعة لحاله اليوم. وعلي العموم انصب جهد المؤلف في إيراد التفاصيل والمعلومات في تقديري علي حساب وقفات تحليلية لازمة ومع ذلك فهو أفضل ما قرأت في نشأة أم درمان فللمؤلف التحية وللبروفسور بدرالدين الهاشمي الذي أتاح لنا ،قراء العربية، هذا السفر القيم عظيم الفائدة.