هذا عنوان أخذناه من بعض اسم ديوان شعر للأستاذ عباس محمود العقاد طيب الله ثراه هو ” أعاصير مغرب وما بعد الأعاصير”. والأستاذ العقاد مجدد بين المجددين للشعر العربى وذو صولات وجولات ضد المدارس التقليدية فى الشعر العربى الى جانب إبراهيم المازنى والدكاترة زكى مبارك وآخرين . وكان أستاذنا بركات جمعة رحمه الله رحمة واسعة من عشاق شعر العقاد وقيل إنه كان يحفظ دواوينه عن ظهر قلب. وقد تتلمذ على بركات فى علوم العربية وآدابها أفذاذ من شعرائنا من بينهم الشاعر الأستاذ محمد طه القدال والشاعر الأستاذ سيد الخطيب. وقد حاول العقاد النزول بالشعر العربى من عليائه فى بكائياته على الأطلال و فى معتركات المدح والقدح وتسجيل المناسبات الى معترك الحياة التى يعيشها الناس برموزها وشخوصها فألف الشعر والقصيد فى “عابر سبيل” و “شرطى المرور” . ونحاول نحن أيضاً فى هذا الحيز المحدود النزول الى الشارع العريض نستشف ولو حزراً ( من حزر الشىء ومنه حزورة) مآلات ثورة الشباب المستعر أوارها منذ حين فى المنطقة الجغرافية والثقافية التى نعيش ضمن حدودها.
الثورة الشبابية والتى نجحت فى بعض أهدافها فى أكثر من مكان حتى الساعة , أعادت للشعوب العربية الكثير من الإحترام وذلك لطابعها السلمى فى منهجها ومطالبتها بالتغيير ولبسالة شبابها وثباتهم فى وجه القمع والرصاص الحى وكان قد وقر فى النفوس أن هذه الأجيال قد غرقت فى مستنقعات الخنا والمخدرات و التفاهات الصغيرة والإهتمامات الفطيرة وأنها بفعل انبهارها بتقنيات الاتصال الحديثة , التى قامت عليها شبكات التواصل الإجتماعية ( كالفيسبوك) و (تويتر) قد ركبت تلك الوسائل مطايا لقتل الأوقات والسمر ودغدغة الغرائز الهابطة وأنها بفعل ذلك كله قد أدارت الظهر تماماً لهمومنا الوطنية والحضارية وأن مصير الأوطان غداً عندما يصير اليها سيكون الى زوال. لكن الناس جميعاً قد ُزهلوا وهم يرون شباباً غضاً فى عمر الزهور يبذل الدماء الغالية رخيصة فى سبيل الكرامة الانسانية .
هؤلاء الشباب قد أدوا واجبهم كاملاً تجاه الأوطان ولا تثريب عليهم غداً إن جرت الرياح بما لاتشتهى السفن فقد أزالوا العوائق التى وقفت فى وجه الحكم الراشد الذى يشارك فيه كافة الناس دون ميز أو عزل ووضعوا بذلك البلاد على سكة التنمية وتحرير الناس من لظى الجوع والفقر والمرض فكأنهم ينادون الآن على آبائهم واخوانهم من الكهول والشيوخ الذين هرموا “جرابات” الرأى والخبرة, أن هلم الى قيادة المسيرة فى دروب معبدة لتصلوا بنا الى الغايات المرجوة . أولئك الفتية والفتيات رأوا جبالاً جاثمة على صدور أوطانهم تئن تحت وطأتها الأوطان تحرمها حق التنفس دع عنك أن تنطلق الى خير يرجوه الناس فأزالوها باجسادهم حتى أصبحت اثراً بعد عين ولم يتركوا بذلك لصاحب صنعة أو علم نافع من معارف السياسة والاقتصاد والحراك الاجتماعى عذراً يحتمى وراءه ويتحجج به قعوداً عن أداء واجبه وتحقيق مرام الثورات فى الحرية والعيش الكريم.
ذلك يتطلب معرفة دوافع هذه الثورات , فتقنيات (الفيسبوك) و (التويتر) لا تصنع الثورات إنما هذه وسائل أحسن استخدامها الثوار لبث رسائلهم ولإشاعة الوعى بتلك الرسائل ولحشد الأعوان. كذلك فإن المواقيت الزمنية وحدها لا تصنع الثورات كقولنا إن رياح القرن الحادى والعشرين هى التى تسببت في هذه الثورات إلا اذا قصدنا أن ما توافر من معارف ومن وسائل فى هذا القرن قد جعل قيام الثورات أكثر يسراً مما كان عليه الأمر فى غابر الأيام. ومع نهايات القرن العشرين وببروز قطبية وحيدة وريثاً لثنائية قطبية دامت لعقود من الزمان تذكر الناس أن جحافل اللورد كتشنر قد حرمتنا استقلالنا مع نهايات القرن التاسع عشر فتوجس البعض على إستقلالنا الحالى مع نهايات قرن جديد فقاسوا على ذلك أن نهاية كل قرن تحمل إلينا الويل والثبور وفظائع الأمور. والأمر أبعد ما يكون عن ذلك فالأحداث يصنعها الناس بالعزيمة والإستعداد للبذل فى سبيلها ولذلك تتفاوت التضحيات ضخامة أو ضآلة وفقاً لما تتيحه أو لا تتيحه الظروف فى كل زمان.
الشباب نظروا فى أوضاع بلادهم فوجدوا أثرة واستحواذاً على السلطة و الثروة ووجدوا شحاً فى الأرزاق وبطالة وفوق ذلك بطشاً لمجرد التعبير عن ما يقع عليهم من ظلم فادح. ثم تلفتوا يمنة ويسرى فرأوا الدنيا كلها تتحرك قدماً الى الأمام إلا بلدانهم. ولحسن الطالع فإن هتافاتهم جاءت جامعة تشمل أجزاء أوطانهم جميعاً لا تنحاز لجهة جغرافية أو جهة ايدولوجية أو مذهبية الا فى أماكن بعينها. وتلك دالة على أنه يستعصى على جهات بعينها أن تنسب الثورة اليها دون غيرها من الناس والجهات. وهذا يتيح فضاء فسيحاً يتنفس فيه الناس جميعاً هواءاً نقيأ يجعلهم شركاء فى صناعة الثورة وشركاء فى مسؤولية حمايتها وشركاء فى مسؤولية مآلاتها. ومن خلال صيحات هؤلاء الشباب وهم يواجهون الموت تراهن على أنهم يبتغون الحرية فى سياق الموروثات الثقافية لشعوبهم فمثلما فشلت الترقيعات الهجين المكونة بلا تعمق و دراية من القديم التالد والمعاصر الطارف فى تحقيق الحرية والحكم الرشيد والتنمية , فشلت تجربة النقل الحرفى للتجربة الأوربية فى الدولة- القطرية عندما ظن البعض أنها قابلة للعطاء فى كل مكان دون ترويض وتكيف تقتضيه حقائق التأريخ والثقافة. نحن مع عالمية حقوق الانسان إلا ما تعارض منها مع القيم الأخلاقية التى نؤمن بها ومع الحكم القائم على حرية الإختيار ومع التدوال السلمى على السلطة دون تنكر للموروث الثقافى والحضارى لأمتنا. لذلك يحسن هؤلاء الشباب صنعاً أن يحملوا حكماء شعوبهم على الإقرار بهذه المبادىْ بادى ذى بدء. ثم يحثونهم على إقامة الهياكل المحققة لتلك الغايات بأقصى الجهد الممكن : قضاء مستقل وجامعات مستقلة ومجالس على كافة مستويات الحكم منتخبة وقوات فاعلة مسلحة لحماية الدستور والهياكل والهيئات الديمقراطية القائمة عليه ومن ثم تقام الانتخابات دون حجر على أحد. هذه استحقاقات ما بعد الأعاصير التى يعد عدم السهر على تحقيقها تفريطاً فى الدماء التى سالت وفتحاً لثغرات لسرقة الثورات وتمهيداً لقيام أنظمة كالتى أزيلت إن عاجلاً أو آجلاً. إن قيام النظم الحاكمة على تفويض حقيقى من الشعوب يعصم البلاد من التدخلات الخارجية ومن الغزو والإحتلال أيضاً حيث تنسد كافة الذرائع أمام الطامعين من وراء البحار فى ثروات الشعوب ومقدراتها كما أن الشفافية ترياق فى وجه الفساد والسرقة.
أما أعاصيرنا نحن فى السودان فهى الاستفتاء الذى تمخض عنه إستقلال الجنوب. وما بعد تلك الأعاصيرمما ينبغى العكوف على إنجازه , مماثل لما قلناه حيث قامت الثورات : إدارة حوار جاد يؤسس لعهد جديد من التراضى الوطنى على مبادىء الحكم وآلياته لا يستثنى أحداً: ينظر فى تجاربنا السابقة منذ الاستقلال و يستخلص الدروس من الحادثات : من روح العصر وتقنياته ومن أشواق الشباب المشروعة فى التعليم المتقن وفرص العمل المتساوية والمشاركة الفاعلة فى الهم و العمل الوطنى العام. إن أبلغ درس فيما تفجر من ثورات, هو تأكيد الضرورة الملحة لإدراج الشباب فى عملية صناعة المستقبل.
ترى هل نغالى فى أحلامنا فنرى فيما جرى من هذه الثورات أملاً جديداً فى تقارب بين شعوب هذه المنطقة من العالم يفضى فى آخر المطاف ولو الى وحدة فضفاضة أو اتحاد رمزى بين دولها ؟ من يجرؤ فى عهد الثورات على حرماننا من متعة الأحلام ؟
ما بعد الأعاصير!
0