وهي اللحظة الحاسمة لدي كل المبدعين في كافة ضروب الإبداع كما سترون في حيثيات الأسطر التاليات من هذه المقالة، يمر بها القاصوالشاعر والمغني والرسام جميعا وحتي الممثليين من الجنسين، لحظة يبلغ فيها الشحن العاطفي مداه وتتلاشي الحدود الفاصلة والحوائطالقائمة بين الواقع والخيال فيندمجان في روح واحدة :
بعث إليّ صديق بالمقالة المترجمة بأدناه والتي كتبها
ابن الروائي العالمي قابريل ماركيز عن والده فوقفت عند تجربة تحدث لكل المبدعين في لحظة بعينها تحكي عظمة الفنون وأهميتها في حياةالإنسان. تقول القصة إنه عندما بلغ ماركيز في روايته “مائة عام من العزلة” النقطة التي حدث عندها قتل او موت الكولونيل ، أحد شخصياتالقصة ،فتأثر ماركيز غاية التأثر وطفق يبحث عن زوجته التي كانت أثيرة عنده لتواسيه في مصابه حتي وجدها واعتنقها طويلاً والحزنيعتصره قائلاً : لقد قتلت الكولونيل!
وفي فيلم رائع حصد العديد من الجوائز اسمه silver lining يحكي قصة شاب مصاب بتأرجح المزاج الحاد ( باي بولار)، بكي الممثلالقدير روبرت دينيرو الذي كان يؤدي دور الأب في لقطة خارج النص( أي لا بكاء في السيناريو المكتوب). استضافت الممثل احدي القنواتبعد نجاح الفيلم وسألته لم بكيت ولم يكن ذلك مطلوباً ؟ فأجهش باكياً في اللقاء قائلا وضعت نفسي في مكان ذلك الأب الذي كان يعاني منمعاناة ابنه! وتجد بعض المغنين يبكون في مقاطع بعينها من أغانيهم . وأسطورة بيقماليون اليونانية التي علي منوالها نسج جورج برنارد شومسرحية بنفس الاسم، تروي أن النحات بيقماليون كان قليل الثقة في النساء قام بنحت تمثال من العاج لإمرأة شديدة الحسن أطلق عليهااسم ( قلاتيا ) وتعني ( البيضاء كما اللبن). ثم عشق هذا التمثال الذي صنعه بيديه وطفق يزينه بالأزاهير والحلي ثم طلب من الآلهة أن تبعثفي التمثال الحياة حتي يتزوج من تلك البيضاء كالرئم ! استضافت احدي القنوات الممثل القدير سعد فضة وسألته عن لقطة كان يمثل فيهادور الأب في مسلسل (الجوارح) .وفي اللقطة أضطر وهو زعيم قبيلة أن يصون وعدا قطعه علي أعدائه بتسديد رمية بالرمح أردت ابنه( أيمنزيدان) الذي قال وهو يترنح ( ما زلت قوياً يا أبي) ، فكره سعد فضة اختيار اللقاء لهذه اللقطة الحزينة! تلك لحظة استغراق تصيب الشاعروالقاص والمغني والممثل فيلون ذلك حياة الإنسان بشتي الألوان التي تمنح الحياة معني متعال علي مجرد الاستمتاع وإشباع غرائز الحسوتلك ميزة خص الله بها بني آدم:
ابن ماركيز يتذكر أبويه
رودريغو يصدر كتاباً عن غابو ومرسيديس
الخميس – 14 ذو القعدة 1442 هـ – 24 يونيو 2021 مـ رقم العدد [ 15549]a
ماركيز مع ابنه رودريغو
مدريد: شوقي الريّس
حكى غابرييل غارسيّا ماركيز يوماً أن أصعب اللحظات التي مرّ بها خلال كتابته رائعته «100 عام من العزلة» في ستينات القرن الماضي،كانت عندما نقر على آلته الكاتبة الجملة التي أودت بحياة الكولونيل أوريليانو بونديّا، وخرج من مكتبه يبحث عن زوجته مرسيديس في البيتالذي كان يسكنه في العاصمة المكسيكية، ليقول لها مغموماً وشبه منهار: «قتلت الكولونيل».
وفي الكتاب الذي وضعه رودريغو ماركيز بعنوان «غابو ومرسيديس… وداع» يتذكّر الابن الذي تربطني به صداقة تعود إلى تسعينات القرنالماضي كيف عاش والداه تلك اللحظة المؤلمة، ويقول: «أمي التي كانت وحدها تعرف ماذا يعني له ذلك القرار، قامت إليه وغمرته وتعانقا طويلاًبصمت بعد أن أبلغها النبأ الحزين».
أكثر من مرة سمعت رودريغو، وهو مخرج سينمائي، يقول إن والدته، مرسيديس برشا، المتحدّرة من عائلة لبنانية هاجرت إلى مصر، واستقرّتفي بور سعيد، قبل أن تهاجر إلى كولومبيا، هي المرساة الأساس لتلك العائلة والشجرة الوارفة التي كان يستظلّها والده، ويبوح لها وحدهابهواجسه وأسراره.
رقيق جداً ومؤثّر وداع الابن في هذا الكتاب لوالده الذي رحل في العام 2014 ولوالدته التي غابت بصمت وبعيداً عن الأضواء في صيف العامالماضي. يقول رودريغو: «كان والدي يتذمّر دوماً من أن أشدّ ما يُكره في الموت هو كونه الحدث الوحيد في حياته الذي لن يتمكن أبداً منالكتابة عنه»، مازجاً تفاصيل الأيام الأخيرة في حياة والديه بوقائع الموت الكثيرة التي برع ماركيز في وصفها، مثل وفاة بطل تحرير أميركااللاتينية سيمون بوليفار في رواية «الجنرال في متاهته»، أو يوم انطفأت أورسولا أيغواران في «100 عام من العزلة» عشيّة عيد الجمعةالحزينة، نفس اليوم الذي رحل فيه صاحب «وقائع موت معلن».
ولا يجد رودريغو صعوبة في استحضار تلك الوقائع العائلية ومشاهد الموت التي وصفها والده في رواياته الخالدة، ويقول: «كان الموتهاجساً حاضراً عند والدي على الدوام، كما هو بالنسبة لمعظم الكتّاب على ما أعتقد. هاجس النهايات التي ترسم الإطار الأخير للحياةوتكتب خلاصة التجارب التي نعيشها».
وينكبّ رودريغو منذ سنوات على نقل بعض أعمال أبيه إلى السينما في مشروعات ضخمة، مثل رواية «وقائع اختطاف»، التي يذكر ماركيزفي مذكراته أنه تعاقد مع 12 طالباً في كلية الصحافة والإعلام ليجمعوا له معلومات وتفاصيل عن الحادثة، التي تنتجها شركة أمازون،ويشرف هو على الإخراج وتنفيذ الإنتاج، والسلسلة التي تقوم بإعدادها شركة نتفليكس عن «100 عام من العزلة»، التي ما زالت في مراحلهاالإعدادية. ويجدر التذكير بأن رودريغو تتلمذ سينمائياً على يد والده الذي أسّس المعهد الدولي الشهير للسينما في كوبا، إلى جانب عدد منالمخرجين الأميركيين اللاتينيين، وكان لسنوات واحداً من أساتذته.
ورغم الشهرة الواسعة التي كان يتمتع بها ماركيز، والصداقات الكثيرة التي ربطته بمشاهير السياسة والأدب والفنون، كانت العائلة تحرصدائماً على عدم الكشف عن خصوصياتها، وكانت الوالدة هي كاتمة الأسرار التي تردد دائماً: «لسنا شخصيات عمومية»، وتتكفّل بعدم ظهورأخبار الأسرة في الصحف التي كانت تراقب عن كثب كل تحركاتها. ويعترف رودريغو أنه بدأ بكتابة هذه المذكرات منذ سنوات، وكان يعرفأنه لن ينشرها طالما والدته على قيد الحياة، لذلك جاء كتابه هذا بمثابة نافذة صغيرة على الألم في منزل والديه خلال السنوات الأخيرة منحياة غابو، ويقول: «أعتقد أنهما كانا سيشعران بالسعادة والاعتزاز لقراءته، لكني ما كنت لأنجو من انتقادات والدتي».
ومن «الأسرار» التي يكشفها رودريغو في كتابه، أن والده عاش في سنواته الأخيرة حالة شبيهة بالتي نقلها الممثل المعروف أنطوني هوبكينزفي فيلمه الأخير «الأب»؛ حيث يقوم بدور رجل كهل، متوتر ومتلهف لأنه بدأ يفقد ذاكرته ويشعر بالضياع بين أفراد عائلته التي لم يعد يتعرّفعلى أفرادها. «ما الذي تفعله هنا هذه المرأة التي تعطي الأوامر في بيتي، وأنا لا أعرفها؟». وزوجته مرسيديس قال لي عنها يوماً، عندمادهشت لقوله؛ إنها تتحدّر من أصول لبنانية ومصرية: «يكفي أن تنظر إلى مسحة أبو الهول على وجهها». ويقول رودريغو إن والده، عندما لميعد قادراً على التعرّف على ولديه، كان يسأل الخادمة: «من هم أولئك الأشخاص في الغرفة المجاورة؟». وغالباً ما كان يردد: «هذا ليسبيتي. أريد الذهاب إلى بيتي، إلى بيت أبي»، عندما كان يريد العودة إلى البيت، لكن ليس إلى بيت أهله، بل إلى بيت جدّه الكولونيل الذيعاش في كنفه حتى الثامنة من عمره، ومنه استلهم شخصية الكولونيل أورليانو بونديّا في «100 عام من العزلة».
لكن الأيام الأخيرة في حياة ماركيز كانت أيضاً أيام العودة إلى صفاء مرحلة الطفولة في مسقط رأسه «آراكاتاكا» عام 1927. فهو كانبوسعه أن يردّد غيباً قصائد كاملة لشعراء العصر الذهبي الإسباني، لكنه عندما فقد تلك القدرة بقي يتذكّر الأغاني التي كان يرددها صغيراًفي القرية برفقة جدّه، ويطلب الاستماع إلى الموسيقى الشعبية التقليدية في المنطقة حيث أمضى طفولته على الساحل الكولومبي. ويرويرودريغو في كتابه: «في الأشهر الأخيرة من حياته، عندما لم يعد يتذكّر شيئاً، كانت تتقد عيناه عندما يسمع مطلع مقطوعة من تلكالموسيقى»، ثم يضيف: «وفي الأيام الأخيرة كانت الممرّضة تضع تلك المقطوعات بأعلى صوت في المنزل، كما لو كانت أغاني المهد لوداعه. لاشيء مثل تلك الموسيقى يعيدني إلى حياته».
ويروي رودريغو أن المرحلة الأخيرة من حياة والده كانت أسهل، إذ «إن المرحلة التي سبقتها كانت صعبة جداً ؛ حيث كان يدرك أنه بدأ يفقدالذاكرة ويتملكّه القلق والتلهّف. أما المرحلة الأخيرة، على حزنها، فكانت هادئة. كان هو هادئاً، لا يشعر بالقلق، هائماً لا يتذكّر أموراً كثيرة».
الفصل الأخير من الكتاب يخصصه رودريغو لوالدته مرسيديس التي يطلق عليها «غابا»، لأنها كانت الزوجة والأم وربّة المنزل، والتي أدارتالنجاح الباهر الذي حققه والده، رغم أن دراستها توقفت عند المرحلة الثانوية. وفي واحد من أجمل مقاطع الكتاب، يروي رودريغو كيف انفجرهو وشقيقه غونزالو من الضحك يوماً عندما كانا في المنزل برفقة والدته بعد وفاة غابو، لمّا سمعا الرئيس المكسيكي يتحدث عن العائلة، ويقول: «الولدان والأرملة»، فهبّت والدته من مقعدها مهددة بقولها: «غداً سأقول لأول صحافي أصادفه إني على وشك الزواج. أنا لست أرملة. أنامرسيديس».
توفّيت مرسيديس صيف العام الماضي في ذروة الجائحة، بعيداً من الأضواء والمعجبين الذين بكوا زوجها يوم رحيله. لكنها، على غرار غابو،كانت ستطلب من ابنها في حال قرّر أن يروي وفاتها، أن يترك القرّاء في حداد عميق وحزين. يقول رودريغو إنه في الأيام التي تلت رحيل أمه،كان ينتظر مكالمة منها تقول فيها: «اجلس بجانبي، وأخبرني كيف كان موتي. أخبرني بهدوء وبكل التفاصيل».