كشطٌ على جدار المعتاد!!

والمراد بالكشط هنا محو ما هو مكتوب. والكشط الإزالة . يقول الإمام الرازى : وقشط لغة فيه . وفى عاميتنا نقول( قشطه كفاً) ربما كناية عن القول بانه قد أذهب وعيه من قوة الضربة براحة الكف. قال وقرأ ابن مسعود “إذا السماء قشطت”. أى أزيلت و ذاك يوم الدين. وقال أيضاً فى تبيان معنى الكشط ويقال كشط جلد البعير أى أزاله ولا يقال سلخه. وكنا فى صغرنا إذا صححنا خطأ الكتابة ب (الشطب) زُجرنا بالقول : ممنوع الكشط., هذا إن لم تعلونا الدرة , أى الإزالة بطمس معالم الخطأ بخطوط قلمية.
والمراد بالكشط فى هذا العنوان هو محو ما ثبت على جدار الحس والوجدان من التعريفات والأوصاف لحال الأوضاع فى السودان بغية تحرير الذهن وإطلاق قيود التفكير من عقالها الموروثة بحثاً عن طرق أخرى وابتكار طرائق جديدة لحل مشكلات السودان العصية لا المستحيلة بالخروج على المألوف أو بالتفكير خارج الصندوق. وغلب فى ظننا أن الكشط أو إعادة النظر فى تقسيمات السودان الإدارية الحالية واستبدالها بغيرها ربما يساهم فى إزالة مشاعر سالبة ابقت عليها التقسيمات الحالية بالإضافة بالطبع إلى عوامل سياسية وإقتصادية وخطل سياسات عجلى ذلك رغم ما اعترى حال السكان من الحراك والتمازج عبر العقود فبقيت الصور النمطية : شمال وشرق وغرب وجنوب وبقينا كما نحن جلابة وناس بحر ودار صباح وغرابة وهدندوة على طريقة تثبيت ما لايثبت من الحراك الديناميكى الذى وقع حيث ان قبائل البديرية التى نزحت إلى كردفان تفوق عددا من بقوا فى موطنهم الأصلي فى محلية الدبة وجزء من محلية مروى كما ان المنحدرين من قبائل شمال كردفان والهواوير يشكلون ربما نصف سكان الولاية الشمالية وفيهم رموز من أهل الفنون والمهارات هم نتاج البيئة الجديدة التى عبروا عنها عبر مواهبهم اصدق تعبير. وكذا الحسانية فى النيل البيض ربما ساووا عدداً تعداد الجعليين فى نهر النيل وكذا الحال بالنسبة لقبائل دارفور فى الجزيرة وفى ولايات القضارف وكسلا وسنار. تثبيت ما ليس بثابت حيلة يسهل بها الفرز والفرقة وإعادة صناعة الأزمات وإشعال الحرائق وفتح ما اندمل من الجراحات. جاء فى حِكم الناس: “الفتنة نائمة لعن الله موقظها”.
والذى نحن بصدده ضرب من محاولة لهدهدة الفتن علها تخلد لنومة كنومة أهل الكهف أو لغيبوبة لا يرجى برؤها تلك التى تجعل المغيّب يقتات كما النبات vegetative , دون أن يحيا . والسعى لوضع الأسس لمشروع يتقدم مع الزمن لرقع الفتق وتضميد الجراح وتعظيم المشتركات . والتالى ليس موعظة من المواعظ كما أنه ليس وصفة سحرية أو عصا معجزة كعصاة الكليم موسى عليه السلام تلقف ما يأفكون ولكنها رؤى تحتمل ما تحمله كل الرؤى من الهشاشة والضعف وربما , تمنياً , من السداد والقوة
ونفاذ البصيرة, .أردنا بها إستثارة الأفكار وشحذ الأذهان للإبتكار تخلصاً من قاع الصنوق الذى انحبسنا فيه طويلاً على طريقة مالكولم إكس التى مرت ذكرى إغتياله قبل ايام رحمه الله رحمة واسعة , حين حرّض قومه على إبتكار طرائق أخري للنضال عندما كان يعترض على طريقة النضال السلمى التى سلكتها حركة الحقوق المدنية بزعامة الدكتور مارتن لوثر كنق ستينيات القرن الماضى المتمثلة فى الجلوس على الطرقات لتعويق الحركة وداخل المطاعم technique) (sit-in مع بث الأشواق للحرية والخلاص فى ذلك الغناء الشجي: سنتغلب !We shall overcome قال: “لقد ظللنا انا وأنتم جلوساً بما يكفى ! يتعين علينا الآن ممارسة بعض الوقوف!”
!You and I have been sitting long enough; we need to do some standing
والوقوف الذى نريد وقوف على أفكار جديدة أرى أن تبدأ بإعادة تقسيم وحداتنا الإدارية بما يطمس معالم الوحدات العرقية والقبلية وان يركز على الإعتبارات الإقتصادية التى تقوم على التشابه المناخى والتخصص فى المنتجات الزراعية وغيرها وتبادل المنافع مستصحبة ايضاً طمر المرارات القديمة فى الرمال بمزج الناس فى وحدات إدارية جديدة هى جزء من رؤية كلية للحكم الرشيد والتداول السلمى على السلطة نعرض لها فى ثنايا هذه المقالة . فالمقترح حزمة من التدابير الكلية التى يمسك بعضها برقاب بعض. ارى مثلاً إعادة تقسيم السودان لنحو خمسة أقاليم: إقليم فى الشمال يتواضع الباحثون على تسمية محايدة له تستمد من التأريخ القديم يضم الولاية الشمالية الحالية وولاية شمال دارفور وتحويل وادى هور إلى مجرى مائى دائم بإستغلال المياه الجوفية التى ثبت أنها تتجدد كل عام بهطول الأمطار وهى تفوق مياه النيل من حيث الكم مرات عديدة ,حيث تشكل منطقة شمال دارفور إمتداداً للحوض النوبى الممتد من صحراء بيوضة فى الشمالية واجزاء من نهر النيل وحتى تخوم جمهورية تشاد . وتنمية هذه المنطقة بتحويل قبائل رعوية من شمال دارفور إليها للإستقرار والإستصلاح الزراعى يؤدى إلى تقليل الإحتكاكات الحالية في دارفور بسبب ظاهرة التصحر والتدهور المنتظم فى مخزون المياه وإزدياد معدل الإحتكاكات بين الرعاة والزراع. وتلتئم ولاية نهر النيل مع ولايتى الخرطوم وشمال كردفان فى اقليم. وتدمج منطقة البطانة وولاية القضارف فى ولاية الجزيرة الحالية وولاية سنار لتصبح هذ ه الولايات إقليما واحداً ويتم تحويل منطقة البطانة بعد الجريان الدائم لنهر عطبرة الذى حدث , منطقة للإنتاج الزراعى الحديث الذى يشمل تربية الأغنام والمواشى فى مزارع مختلطة تستهدف التصدير والمنطقة قريبة نسبياً من موانئ السودان على البحر الأحمر يمكن أن تفتح لإستثمارات عالمية ضخمة . وتدمج ولاية كسلا فى ولاية البحر الأحمر لتكوين إقليم آخر يسعى لإعمار سواحل البحر الأحمر بإنشاء مدن جديدة وتطوير السياحة والصيد البحرى بهدف إستقرار قبائل رعوية (بجة ورشايدة) فى مناطق حضرية تمكّن من تقديم خدمات التعليم والصحة لهم وخفض الكثافة فى مدن الإقليم الأخرى. وتدمج ولايات كردفان الأخرى مع المتبقى من ولايات دارفور مع ولاية النيل الأبيض كولاية تمازج مع حدود دولة الجنوب تعمل على بسط الإستقرار فى المنطقة وتجسير الهوى مع قبائل الجنوب عبر المنافع المتبادلة المحفزة على الإستقرار والتنمية وربما لتعاون وتكامل مستقبلى بين الدولتين. وكان الدكتور جون قرنق قد استبدل كلمة مناطق التماس بعبارة ” مناطق التمازج.”
وعلى المستوى السياسى ارى إعتماد نظام إتحادى محكم بجيش قومى قوى يكون التعليم العالى فيه موحدا وكذلك السياسة الخارجية والأجهزة الأمنية القومية ويمكن التفكير فى إقتطاع جزء صغير من الخرطوم الحالية مقراً لحكومة إتحادية صغيرة الحجم بحيث توكل إدارة شؤون الخدمات جميعاً للاقاليم التى يصل وحكامها للحكم عبر الإنتخابات لمدة تقسم لدورتين لا تتجاوز العشر أعوام يكون النظام فيها برلمانياً . وأرى وفق هذا التدبير الذى يمكّن الاقاليم من إدارة مواردها التى ستكون عبر هذا التقسيم الإقتصادى قادرة على الإكتفاء الذاتى والمساهمة فى الإنفاق الإتحادى وأن تعتمد البلاد نظاماً برلمانياً على مستوى الإتحاد ايضاً ليضطلع بمهام التشريع للإتحاد فى المجالات المذكورة آنفاً ولإنتخاب رئيس وزراء للإتحاد ليمثل هرم السلطة التنفيذية فى البلاد سيتغير بالطبع وفق حظوظ الأحزاب فى الإنتخابات العامة
وينتخب البرلمان رئيساً مراسمياً للإتحاد بصلاحيات محدودة يكون رمزاً للدولة على ان يجئ حسب دورة البرلمان الإتحادى مرشحاً بالتناوب من برلمانات الأقاليم الخمسة. بحيث يصبح الرئيس فى كل خمسة أعوام من إقليم من أقاليم الدولة الخمسة.
النظام الإتحادى على النحو المقترح يتيح مشاركة الأقاليم فى إدارة الحكومة الإتحادية ويتيح لمواطنيها شرف رئاسة الدولة دوريا كما انه يلعب دوراً فى تمازج قومى ينمى المشتركات ويجسر الهوى بين مكونات الأمة ويغلق الطريق على الإنتهازيين الذين يتجرون فى التباينات العرقية والثقافية والدينية.
ينظر فى ذلك لتجربة الهند الرائدة والتى وعتها بتجربة التقسيم القاسية التى تعرضت لها بانفصال باكستان عنها مثلما وقع لنا . والهند من أكثر دول العالم تنوعاً فى العرق والمناخ والثقافات. وكنت قد اشرت فى عرضى لكتاب وزير خارجية الهند الاسبق (جاسوت سينق ) بعنوان (كتاب وعظات وعبر) عن مؤسس باكستان محمد على جناح , ان الوزير المحافظ (من حزب جاناتا ) حمّل حزب المؤتمر جريرة إنفصال باكستان بسبب الإصرار على مركزية الإدارة. ورفض فكرة النظام الإتحادى الذى يتيح مساحة للاقاليم فى صناعة الفعل القومى والى آبت غليه الهند فى العقود الأخيرة. فجناح من مؤسسى حزب المؤتمر وكان صديقاً حميما للمهاتما غاندى لكنه راى فى المركزية القابضة التى انتهجها جواهر لال نهرو , غبن للاقلية المسلمة والتى كانت تشمل شرق البنغال (بنغالاديش الحالية) وحرمانا لها من المشاركة فى إدارة الهند التى كانت تتهيأ للإستقلال وتكريس سيطرة الأغلبية الهندوسية بالإستناد إلى ميكانيكية الديمقراطية.ولما رفضت قيادة حزب المؤتمر ذلك ولم تتمكن الرابطة الإسلامية على مدار عشر سنوات أجريت فيها الإنتخابات مرتين من المشاركة فى حكومات الإنتقال , إنحازجناح الليبرالى المتشبع بالثقافة الغربية فكراً وسلوكاً إلى قومه . وهكذا تنشأ القبليات والجهويات . لما ذهب سعد بن عبادة للنبى ناقلاً إمتعاض الأنصارمن توزيع غنائم حنين على المؤلفة قلوبهم من قريش دونهم , سأله النبى عن رأيه هو فكان الرجل اميناً حيث .قال : ” إنما أنا رجل من قومى.” أى أرى رايهم. فجمعهم النبى فجاْت تلك الخطبة المؤثرة : ” يا معشر الأنصار أتغضبون فى لعاعة من الدنيا استرضى بها قوماً وأكلكم إلى إيمانكم ؟ أما ترضون أن يعود الرجل منهم بالشاة والبعير وتعودون برسول الله فى رحالكم؟ قال الراوى فبكى الأنصار حتى اخضلت لحاهم وقالوا رضينا برسول الله حظاً وقسمة!
هذه بعض أفكار لا عصمة لها من الذلل وبالتالى لا نصّر على تبنيها فالبلاد غنية بأهل الإختصاص فى ضروب الإدارة والإقتصاد والقوانين وغيرها من المعارف الضرورية لتحقيق المرتجى . فقط أردنا المساهمة فى إبتدار نقاشات مبتكرة علنا نصل إلى حلول تحفظ كيان هذه البلاد وتحقق الإستقرار والسلام

تعليقات الفيسبوك