قيادة السيارات فى السودان: أهى ذوق أم ( زوغان)؟!

اصطلح الناس على تسمية عملية قيادة المركبات ذات المحركات التى تعمل بمشتقات النفط المختلفة ب ” السواقة” ويقال للفاعل ” سائق” . وفى المغرب العربى وتحديدا فى المغرب الأوسط- الجزائر- يقولون” سياقة” للمصدر فى مقابل ” سواقة ” التى سلفت. وهى اشتقاقات من الفصيح لا غبار عليها من الفعل ” ساق يسوق سوقا”. وغنى الراحل عبيد الطيب رحمه الله:
يا سايق يا رايق النظرة ماشة معاك
وقف وقف وسوقنى معاك.
وفى شعر ابراهيم العبادى:
يا السايق الفيات قومى وخد سندة
بالدرب التحت الماشى لسنجة
وعهد السودان بالسيارات لم يبلغ تمام القرن بعد, اذ أنها اقتحمت عالمنا الخام فى عشرينيات القرن الماضى بنحو أربع سيارات احداها للحاكم العام وأخرى لمدير مشروع الجزيرة وثالثة للامام عبد الرحمن المهدى وأخرى لسيدة لا يحضرنى اسمها. وقد أدركنا زمانا فى العاصمة الخرطوم اخريات الخمسينيات سيارات قليلة مقارنة بما عليه الحال اليوم وبالطبع كانت “السواقة” أو “السياقة” أكثر يسرا وكان استخدام “البورى” أو “الكلاكس” أو قل – ان شئت التماس الفصيح من القول- آلة التنبيه من الكبائر.ولا يعنى ذلك بأى حال أن الناس يومئذ كانوا أكثر ذوقا أو أنهم اليوم أقل لياقة واريحية بل أن الناس لا يزالون يعانون من حالة تلبس تعتريهم ما أن يمسكوا بمقود سيارة أى سيارة كانت ومن أى موديل حتى تتبدد كل الأريحية والسماحة التى اشتهر بها السودانيون عن جدارة واستحقاق بين شعوب هذه المنطقة من العالم ويتحولوا فجأة فى معتركات ” السواقة” الى مخلوقات أخرى غير التى نعرف: تتجهم وجوهها وتنطلق أفواهها بالجارح من الأقوال : “تعلمتها وين يا…” هذا ان لم تتشابك الأيدى وتتعطل الحركة فى كامل الشارع ! ويحار الحليم حيرة عظمى: هل هذا هو ذات الانسان الذى يوقف المركبات العامة والخاصة فى الطرق البرية العابرة للولايات ويلح بأغلظ الأيمان على اطعام أفواج المسافرين الصائمين؟ هل هو ذاك الهين الذى تستخفه بسمة الطفل ليس خنوعا وانما رحمة وتواضعا وايثارا؟ أم أنه يطبق وبالحرف معنى بيت الحماسة,
كاتال فى الخلا وعقبا كريم فى البيت!
باعتبار الشارع العام خلا ومعتركا للنزال!
ربما أعتقد البعض أن قيادة المركبات ذات المحركات يعد سيطرة فائقة على الحديد لا يقوى عليها سوى الأشداء من الرجال . وكنا نجد فى بعض اولئك النفر فى زمان مضى بعض غطرسة. وهذا سبب كاف ” للشخيط” والصياح فى وجوه الآخرين .وظن بعضهم أن الحديد متلبس بالشيطان فكانوا يكثرون من سب المقدسات كأن ذلك يلين الحديد ونسوا أن الله تعالى ألان الحديد لدواد عليه السلام بالطاعات. وضحكت فى دواخلى من الصلة المزعومة بين الشدة والغلظة والرجولة والتعامل مع الحديد لأول عهدى بالسفر الى خارج عالمنا هذا القريب الى الغرب البعيد ذلك لأن الحافلة الضخمة التى حملتنا من المطار الى داخل المدينة الى تبعد نحو ساعة من الزمان كانت تقودها حسناء فى مقتبل العمر بيضاء مثل الرئم يزينها عقد!
ولعل العبارة المثبتة فى شوارع العديد من الدول العربية ومن بينها السودان والتى تقول ” القيادة فن و ذوق” قدأخطأت خطأ جسيما باستخدام كلمة ” فن” وأسهمت بقدر وافر فى فوضى “السواقة” التى نعيشها وفى منتجاتها الجانبية السالبة من العكننة والسخط والتزمر ” الفايت الحد” والمناقض لما عرفنا به من دماثة الخلق ذلك لأن الفنون ضرب من الجنون فالفن, كل الفن تمرد على المعتاد وخروج على المألوف ونزوع للخروج من مسلملت الناس والقيود التى يصطنعونها أو يعتقدونها كحمى واقية للحياة الاجتماعية.
وحتى لا نلقى اللوم كله على الساخطين( المتنرفزين) جراء هذه الفوضى العارمة , نقول انهم محقون شيئا ما فى ما يبدون من السخط لأن أولئك يأتونهم عن ميامنهم وشمائلهم بل ” ينشك” بعضهم كالخنجر السام فى خاصرتك اليمنى هكذا على فجاءة ودون سابق انذار فلا تحير حراكا وان رميته بنظرة عتاب نظر اليك شذرا وربما تحركت شفتاه بالبذاء من خلف الزجاج السميك كأنك أنت المتجاوز الذى لا يعرف ” الذوق”.وهذ1 باب فى “الزوغان” واسع ممتد . والزوغان هو بعض “الزيغ” والعياذ بالله! وأنعم منه ملمسا الروغان حيث غالبا ما يظهر المرواغ خلاف ما يبطن وقد قالوا فى ذلك وأحسنوا:
يعطيك من طرف اللسان حلاوة
ويروغ منك كما يروغ الثعلب
والغريب أن الغضبان هذه الغضبات المضرية التى تخرج الواحد من جلده يكون قد ارتكب ذات الخطايا التى أثارت غضبه على آخر ذات اليوم عدة مرات!! لكن الجمل موكلا بملاحظة اعوجاج رقاب الآخرين من بنى جلدته وتعييرهم بذلك وكأن رقبته فى استواء خط الاستواء وهو للمفارقة خط وهمى لا وجود له! واقرأوا ان شئتم مقالة الاستاذ( جبرا) قبل أيام عن آفة أخرى نعانى منها سماها ” ازدواجية المعايير”!
وحدثنى من لا أتهم أن سيدة زائرة من فضليات “الخواجات” قد كتبت مقالة أثنت فيها الثناء الحسن على أخلاق السودانيين لكنها رجتهم أن يقلعوا تماما عن قيادة السيارات كأنها سلوك مدمر مثل عادة التدخين!! وقال لى أحد الشباب أن الأمريكيين يصفون السواقة فى نيويورك بأنها ( فوضى منظمة) لكنه استطرد معلقا عليها هنا بأنها ( فوضى وبس!).
ونزجى التحية لرجل المرور المثابرالواقف دوما على مفترقات الطرق يخفف غلواء الزحام فى هذا الحر الغائظ دون كلل أوملل. وجميل أيضا أن معظم اشارات المرور الضوئية تعمل بكفاءة عالية وتحدد أوقات الانتظاربالثوانى. لكن مسؤولية شرطة المرور لا تنتهى هناك حيث يناط بها ترسيخ ثقافة أفضل فى القيادة بسطوة القانون فى منع التجاوز والتسلل عبر ميامن المركبات الأخرى والتدقيق فى منح تراخيص القيادة. البون الشاسع بيننا وبين شعوب الشمال فى ميدان ” السواقة” ليس لأنهم أكثر منا ” ذوقا” بل لصرامة قوانين المخالفة ولعل الذوق الذى قد يتميزون به مرده الى تراكمات سلوكية أسهمت فيها صرامة القوانين ابتداء. ولشركات تأمين السيارات دور فى هذا المضمار أيضا فلو أنها تحمل المخالفين تكلفة اخطائهم عن الحوادث كالتجاوز اللا مشروع والسرعة الزائدة عن المسموح به أو مصادمة سيارة ” واقفة” أو من الخلف مع زيادة ” بوليصة التأمين” بعد ذلك, لأرعوى الناس وتحسسوا مواقع جيوبهم.
ولا نعفى سلطات تنظيم المدن من بعض المسؤوليات : هل هناك خطة تزاوج بين تعبيد الطرق وزيادة عدد السيارات بعد أن تيسر تركيب السيارات فى السودان أم أن السيارات تتضاعف كل يوم دون النظر لتوفر الطرق السالكة وزيادة احتياطات السلامة ؟ مداخل مدينة الخرطوم القديمة المحصورة بين النيل الأزرق والسكك الحديدية لا زالت محدودة للغاية. وما هو تصور السلطات للتكدس الدائم الذى تعانيه هذه المنطقة التى لا تزيد مساحتها ربما عن كيلو متر مربع والتى تتكدس فيها كل دواوين الحكومة. هل من خطة لنقل هذه الدواوين والوزارت الى مكان آخر؟ ان قيام الأبراج العالية فى هذه المنطقة مع انعدام طرق سالكة معبدة ومواقف سيارت متعددة الطوابق مع بقاء كل الدواوين الرسمية يزيد الأمر سوءا والطين بلة.
وهكذا كما ترون فان الأمر ليس ذوقا وحسب وانما حزمة تدابير عملية ملموسة تشمل بالطبع جرعة من التربية الوطنية وتوسيع دائرة دماثة خلقنا حتى تصبح شاملة غير مجزأة لا نعانى فيها من أعراض الانفصام. هذه التدابير العملية والانسانية ستغرس فى أجيالنا غراس الذوق ويصبح الأمر سلوكا تلقائيا ينتظره الشخص من كل انسان دون أن يثير ذلك استغرابه. ولعلنا ندرج فى منهج السنة النهائية من التعليم العام مادة نظرية لتعليم قيادة السيارات ضمن مواد اختيارية كما هو معمول به فى بعض الدول تشتمل على قوانين المرور ومعنى علاماته والسلوكيات المطلوبة فيه دون أن يكون النجاح فيها شرطا لدخول الجامعة لكن ليكن شرطا لمن يريد استخراج رخصة قيادة.ولنستبدل اللوحة الارشادية لتصبح العبارة المثبتة عليها: ” القيادة ذوق وذوق.”!!

تعليقات الفيسبوك