والقمران هما الأستاذان المرحومان ويليام ابراهيم خليل وأحمد سليمان محمد المحامى. و لكليهما صلة بالمدينة العظيمة ود مدنى السنى ولكليهما صلة باليسار السودانى فى باكر أيامهما وانتهى بكليهما المطاف- للمفارقة- بعاصمة الرأسمالية العالمية واشنطن دى.سى.
ويليام خليل من اقباط السودان ينتم الى الكنيسة الانجيلية وهى كنيسة غربية من أعمال الكنيسة البريطانية التى توجد رئاستها فى كانتر برى وتعتبر ملكة بريطانيا العظمى رئيسة لها وأتباعها قلة فى السودان ومصر ولا صلة لها بالمذهب الأرثوذوكسى الغالب فى مصر والسودان واثيوببا وفى جل أوربا الشرقية بين الصقالبة. وليصححنى الأخ سماحة القمص فرج فيلوساوث ان أبعدت النجعة. ومن أولئك الراحل باشاى سوريال مؤسس مدارس الراعى الصالح وابنه الفاضل الدكتور الفونس باشاى.
حكى ويليام أنه ترعرع فى القسم الأول فى مدينة ود مدنى فى الشارع الذى يلى شارع سنكات والموازى له من الناحية الجنوبية حيث يلى مباشرة بنك باركليز الذى أصبح فيما بعد بنك الخرطوم وعلى خطوات منه وقبل أن تصل جامع البوشى – أو ربما قبله لا أذكر- تجد استديو اشراقة لصاحبه محجوب حمد النيل وكان أشهر استديوهات مدينة ود مدنى. زامل ويليام الرئيس الراحل جعفر نميرى فى مدرسة البندر الابتدائية تلميذا وكان يحفظ سور القرآن المقررة حفظا جيدا يفرق فيه بين نطق القاف والغين وهو أمر عسير على السودانيين وبقدر ما كان يلقى من اطراء الأساتذة عليه كان يناله من سخط وضرب من يكبرونه من التلاميذ غير القادرين على الحفظ حيث كان يسوؤهم تقريع الأساتذة لهم: كيف يبذهم طفل مسيحى وهم المسلمون فى حفظ كتابهم. والقسم الأول فى مدنى حى متفرد يعد بوتقة انصهار لأعراق متعددة من الطليان والأغاريق والمغاربة والدناقلة وغيرهم اختلطوا وتخالطوا رغم فوراق الدين واللون والثقافات وأسهموا كثيرا فى ترسيخ السماحة والتسامح الذى يميز مدنى. ففيه نشأ الفنان ابراهيم خان والموسيقار محمد الأمين و الأستاذ بابكر كرار وشقيقه الرياضى محمد كرار وفيه مقر نادى النيل الرياضى وليس بعيدا عنه نادى الاتحاد وهومعقل من معاقل الأنصار آل الأمير نقد الله وكذلك مسكن القطب الاتحادى الدكتور عثمان محمد عبد الله وتنتشر فيه الى جانب مسجد البوشى كنائس المسيحيين. ويحدثك عنه باسهاب صديقنا عبد المنعم الأمين عبد الرحيم حيث عاش فيه باكر صباه مجاورا بيت الأستاذ محمد الأمين قبل الانتقال الى حى الدرجة الثانية وعاش هناك بعض أهله من ناس تنقسى منهم أستاذنا الجليل صلاح عبد الحفيظ وابن أخته زميلنا كمال ابراهيم طه أو “كمال السلك”. وذكر لى ويليام الى أن لتسميته قصة بطلها أبوه والمفتش الانجليزى لمدنى. قال:
“كنت صغيرا وكنا فى السوق فجاء من يحث التجار للوقوف لتحية المفتش الانجليزى الذى كان اسمه وليام وكان اسمى أنا “مكرم” – ربما على عضوحزب الوفد المصرى المسيحى الذائع الصيت مكرم عبيد- قال وكان والدى شديد الضجر كارها للانجليز فسب الخواجة “ألعن أبو ويليام!” فسمعه أحد الأعوان فقبض على أبى فأدعى أنه سبنى أنا ابنه وان اسمى وليام. فجىء بى الى المحكمة فسالنى القاضى عن اسمى فقلت: ويليام فطلب منى الانصراف لكنه فجأنى صائحا وأنا على وشك مغادرة القاعة : يا ويليام! بذكاء منه ليتأكد من صحة زعمى فالتفت قائلا: نعم! وبذلك نفد أبى بجلده من السجن لكنى اسمى أصبح بالفعل وليام.”
توفى والده وهو صغير بحقنة بنسلين بسبب الحساسية فترفق به أستاذه مربى الأجيال مصطفى أبوشرف فى أهلية مدنى الوسطى فاسقط عنه المصرفات المدرسية بالكامل. حدثنا ويليام كيف أن بيتهم كان مجاورا للسينما وأنهم كانوا يتفرجون على أفلامها بالمجان من على سطح بيتهم.ولعل تلك كانت سينما لم يدركها جيلنا قال انها كانت قريبة من النيل الأزرق فقد وجدنا سينماتين هما “سينما الخواجة” بالقرب من محطة السكة الحديد و ” السينما الوطنية جوار السوق الكبير. ذلك قبل بناء السينما الكائنة حاليا قرب السوق الجديد.
وويليام رجل عصامى أهلته معرفته الحسنة بالانجليزية أن يصبح مترجما فى المحاكم قبل خروج الانجليز وتمكن بعد ذلك من تأسيس وكالة سفر فى الخرطوم وسكن فى المثلث الذى يلى حديقة القرشى قال لى: كان مسكنى قريبا من بيت اسرة الفنان جيلانى الواثق لعل ذلك قبل ان ينتقل الى هناك الفنان الكبير عثمان حسين رحمه الله والا لكان قد ذكره.. وعندما اختلفت مايو مع الحزب الشيوعى اتهموا ويليام بأنه قد آوى اليه الأستاذ عبد الخالق محجوب الذى كان متخفيا. وتخلص ويليام من أجهزة الأمن وتمكن من الفرار على متن احدى الطائرات الى مصر ومن ثم الى نيويورك وفوجىء هناك بأن شقيقه سعد قد مات بالاهمال فى احدى المستشفيات. ثم التقى بالسيدة الفضلى بنت أمدرمان المرأة العظيمة ” فكتوريا” التى يحلو لها أن تحدثك عن أمدرمان ايام زمان وعن ما كانت تسمعه عن سوق الموية وقهوة جورج مشرقى. وقد ضربت المثل فى الوفاء حين غلبت الدنيا لزوجها ظهر المجن. لقد أثرى وليام ثراء حسنا وامتلك بيتا ومزرعة حسنة فى منطقة واشنطن وكان ” جعليا حمشا” – وهذه ليست شنشنة عرقية فأنا لست جعليا على كل حال- ينحر الخراف فى عيد الفطر يستقبل المسلمين فى بيته كل عام اذ ترأس الجالية السودانية هناك لعدة أعوام وألفيته يركب(بتشديد الكاف وكسرها) هوائيا يستمع بمساعدته للبرامج الدينية الرمضانية من اذاعة الكويت. لقد لعبت ملابسات سياسية لدولة شقيقة فى ضياع حقوق له اطرته للاستدانة خصما على قيمة بيته ومزرعته حتى استولى البنك عليهما وغدا الرجل معدما فى شيخوخته يعيش على كفاف ما توجد به وكالته ” وكالة خليل العالمية” حتى طواه الموت وقد بذلنا بمساعدة وزير الخارجية الأسبق الدكتور مصطفى عثمان اسماعيل الجهد لاستعادة حقوقه من تلك الدولة دون جدوى ولا زال الأمل معقودا فى أن يرحم أولئك الاشقاء شيخوخة ومرض الفضلى ارملته فيكتوريا. لقد كان ويليام أنيسا من الطراز الأول يحدثك حديث العارف الخبير بخفايا الثقافة السودانية . وعلى مائدتنا جادل الرئيس الراحل نميرى بأنه لم يكن شيوعيا وقال ان سعدا شقيقه هو الذى اتهم بالشيوعية بينما أصر النميرى على رايه.وكان كأقرانه قارئا جيدا أهدانى من مكتبته العامرة بعد أن شكا ضياع أكثر مقتنياتها طبعة ممتازة لديوان المتنبىْ ثم أوصانى خيرا بهدية أخرى رجانى المحافظة عليها لأنها حبيبة الى نفسه وهى كتاب البؤساء لفيكتور هوجو ترجمة شاعر النيل حافظ ابراهيم وهو من منشورات دار الهلال. والترجمة جاءت بلغة شاعرية مؤثرة من شاعر اشتهر بتعاطفه مع المساكين وقد قدر لى مشاهدة الفيلم الذى أخذت فكرته من الكتاب فوقفت على دقة ما نقله حافظ ابراهيم من وقائع. غفر الله لوليام و أحسن عزاء ابنائه جورج وجوزيف وأرملته الفضلى فيكتوريا وشقيقته عفيفة.
ونعود للأستاذ أحمد سليمان محمد المحامى السياسى والوزير والدبلوماسى. فقد استرعى انتباهنا لأول العهد عندما كان قطبا شيوعيا يشار اليه بالبنان يلى عندنا الأستاذ عبد الخالق محجوب مرتبة فى صفوف الشيوعيين آنذاك. والحق أن اعجابا بالشيوعيين قد غشينا فى اعقاب ثورة أكتوبر 1964 فقد استهوتنا شعارات العدل والمساواة والتصدى للاستعمار فيما فصلناه فى غير هذا الموضع. ومدينة ودمدنى بليبراليتها المعروفة كانت تربة خصبة لمثل هذا الشغف والكلف بالشيوعيين. لذا هرعنا ونحن صبية فى المتوسطة الى دار الحزب الشيوعى فى شارع سنكات وهناك رأينا للمرة الأولى أقطاب الحزب الشيوعى منهم ربما ان صفت الذاكرة عبد الرحمن الوسيلة والرشيد نايل وربما التجانى الطيب وبقى فى الذاكرة أحمد سليمان الذى وقف يخاطب الحضور عازفا على ذات الوتر الذى يستهوينا قائلا أنه ليس غريبا على أحياء مدنى العريقة وحواريها فى “أم سويقو والعشيروالدباغة والمدنيين…..” ثم رأيناه على صفحات جريدة الميدان وزيرا للزراعة فى حكومة أكتوبر ينادى بتطهير الخدمة المدنية. ولم نره عيانا الا أواخر عام1988 عندما جاء زائرا لواشنطن للمرة الأولى فى حياته وقبل أن يعين لاحقا سفيرا فيها وقد أصبح ناشطا اسلاميا. حدثنا بصراحة متناهية عن دوره فى انقلاب مايو وكيف أن معرفته بالرئيس نميرى هى التى جعلته ممثلا للشيوعيين فى تدابير الانقلاب وقد كان رحمه الله ذ ا ذاكرة عجيبة يحكى كيف أن نميرى جاءه يوم الأثنين الساعة كذا فى مكتبه قبل الانقلاب بايام قلائل وكان ساخطا على تردد بعض الشيوعيين –ان لم تخنى الذاكرة فى دعم الانقلاب- وكيف أنه قال له” هوى يا نميرى ما تشتم الشيوعيين!”. وذكر لنا طرفا من أيام دراسته الجامعية فى مصر وكيف أن( هنرى كورييل) كان حفيا بالرفاق السودانيين معجبا بذكائهم الا أنه كان يعيب عليهم اصابتهم ” بجرثومة تدين مغروسة فى جيناتهم الوراثية” وأضاف ضاحكا ” رغم أننا كنا نجهد النفس لنظهر له الحادنا وكفرنا بالدين. لكنى والله ما كفرت بالله يوما واحدا من حياتى!” وكان يعتز بصداقته للأستاذ محمد أحمد محجوب وقال انه هو الذى أطلق عليه اسم (البوس) ال boss لأنه تدرب على المحاماة فى مكتبه. وثارت ثائرته عندما تحدثت وثائق الخارجية البريطانية المفرج عنها والتى زعمت أنه كان شديد التأثير على المحجوب فدبج مقالة فند فيها ذلك مؤكدا أن المحجوب كان رجلا مستقلا برأيه معتدا به لا يؤثر عليه أحد. سألته عن صحة معرفة المحجوب بانقلاب مايو حسب بعض الروايات فقال: ” على الطلاق ..هذا كذب فى كذب.. فقد أرسلنى الحزب للتأكد عما اذا كان على علم بالتحركات فاستفسرته عما يروج من اشاعات عن أن انقلابا قد يقع فقال لى( المحجوب) ساخرا: والله الطرابيزة دى ما يقلبوها….” وكان أحمد سليمان صديقا للرئيس جمال عبد الناصر. قال عاتبنا على استعجالنا فى أيام مايو الأول الاعتراف بألمانياالشرقية قائلا ” لازمتو ايه بس!” وذكر أن عبد الناصر كان كالمثقفين السودانيين كثيرا ما يقحم فى حديثه كلمات انجليزية. وكان صديقا ايضا للكاتب الاشتراكى الكبير عبد الرحمن الشرقاوى صاحب كتاب ” محمد رسول الحرية” والذى على أساسه أنتج الراحل مصطفى العقاد فيلمه الرائع: ” الرسالة”.وقال كنا نتغايظ اذ كان كل منا يتعصب لطبائع بلده ( مصر والسودان) فى الحديث والأكل والعادات لكن ذلك كله كان يكون فى محبة ودعابة.
وأحمد سليمان سودانى أصيل أختلفت معه أم اتفقت وهو معتد بمحسيته الخرطومية الممتدة من برارى الخرطوم الى القلعة فى أمدرمان يرى أنهم ( أى المحس وأهل الشمال) هم ملوك النيل ويرجح أن سيدنا موسى كان سودانيا .وله كتابات فى هذا الشأن. وفيه أيضا اعتداد وعزة وغيرة على السودان. قال: شد ما آلمه وهو سفير فى موسكو الصلف الذى كان يبديه قادة الحزب الشيوعى السوفيتى فى تعاملهم مع رفاق العالم الثالث وقد شكا للرئيس عبد الناصر من ذلك وربما كان هذا سببا فى مفارقته الشيوعية فى مقتبل الأيام. وأحمد سليمان مثقف حسن الثقافة بلا جدال وشاهد على حقبة هامة من تاريخ السودان ولكم تمنيت على الشباب الجلوس اليه وتسجيل كم هائل من المعلومات الهامة, ولكن هذه مهمة لم ينهض بها للأسف أحد. وكان يتابع حتى أخريات أيامه الصحف المنشورة والأثيرية بشغف لم ينقطع قط عن الاطلاع.
وأشهد أن الرجل رغم مرارات عنده بسبب مشواره الطويل فى دهاليز السياسة السودانية ورغم حدة طبع فيه قد تحجب الانصاف أحيانا, قد كان منصفا متجردا فى حق كثيرين ناصبهم بعض الخصومة فى بعض المنعطفات فقد رجحت عنده حسناتهم وصدقت عنده وطنيتهم ومقاصدهم . رحم الله الرجل رحمة واسعة ووسع له فى قبره والتحية والتجلة لحرمه المصون التى كانت تحسن استقبالنا عند زيارته فى واشنطن ولصهره الشاب الحبوب صديق نجل الدكتور الوزير بدوى مصطفى وابن السيدة الفضلى الاستاذة عزة الريح العيد الروس والتى فرغت لتوى من قراءة سفرها القيم” أم درمان: الانسان والأرض عبر القرون والحقب” والتحايا والتقدير موصول لكريمات الأستاذ الثلاث ولأسرهن.
قمران من أهل المؤانسة مضيا فى ركب الخالدين
0