الألماني السفير الدكتور فيرنر دام: حصائد البحوث العلمية الأحدث تقول إن السودان هو أصل حضارة وادي النيل وأصل اللغات السامية والحامية!
حل سفير ألمانيا الأسبق لدي السودان الدكتور فيرنر دام ضيفاً علي جمعية الصداقة السودانية الألمانية. اشتملت فعاليات زيارته للسودان علي محاضرات قدمها في جامعة الخرطوم وفي جامعة إفريقيا العالمية. كان نصيب جامعة إفريقيا العالمية محاضرة مضمونها أن السودان هو أصل ومبتدأ حضارة وادي النيل قدمت في البداية تحت عنوان خطأ هو أن السودان هو أصل اللغات السامية والإفريقية الحامية معاً. وقد تم تقديم محاضرة أصل اللغات السامية والحامية علي هيئة لقاء تلفزيوني شارك في تقديمه أستاذ العلوم السياسية المعروف والذي يعمل حالياً في مركز البحوث والدراسات الإفريقية بجامعة إفريقيا العالمية، البروفسور مدثر عبد الرحيم بينما قدم للسفير الألماني البروفسور المعروف أيضا والمتخصص في الأنثروبولوجيا والفلكلور عميد كلية الألسن بجامعة إفريقيا العالمية، سيد حامد حريز . ولأهمية المحاضرتين وللربط الوثيق بينهما رأيت إلقاء أضواء عليهما خدمة للثقافة وللمعرفة العامة سيما وأنهما مرتبطتان أوثق رباط بهوية وتأريخ هذا البلد، السودان ولما اشتملتا عليه من أحدث الاكتشافات العلمية الإيكولوجية وعلم اللسانيات.
ألقي بادئ ذي بدء بعض الضوء علي السفير الدكتور فيرنر دام: التحق بوزارة الخارجية الألمانية كدبلوماسي وترأس إدارة حقوق الإنسان في بعثتها في جنيف ثم عمل سفيرا في اليمن ثم في السودان من ١٩٩٦وحتي ٢٠٠٠ التحق بعد ذلك في زمالة بمركز ويزرهيد للعلاقات الدولية التابع لجامعة هارفارد في بوسطن وكتب مقالة في مجلة Harvard International Review بعنوان ” العالمية والغرب- أجندة للفهم.” انتقد فيها بعنف ضرب الولايات المتحدة لمصنع الشفاء للدواء في السودان وقال إن ذلك الفعل ربما تسبب في وفاة ألوف بسبب نقص الدواء.
من الناحية الأكاديمية . الرجل متخصص في تأريخ اليمن القديم ،قبل وبعد الإسلام وفي تأريخ الجزيرة العربية ويجيد نحو ثمان لغات بينها العربية.
عن أصل حضارة وادي النيل يقول مستندا إلي دراسات المناخ ،أن الأرض قبل أثني عشر ألف سنة كانت أكثر حرارة منها اليوم لذلك فلم تكن هناك حياة في منطقة وادي النيل -واستنتاجا-بل لم يكن هناك نهر في المنطقة التي كانت جرداء قاسية ثم بدأ المناخ في التغير بعد ذلك بنحو ألفي عام فاكتست منطقة الصحراء الكبرى بما فيها صحاري السودان الغربية والشرقية بالأشجار والأنهار والبحيرات يدل علي ذلك تصاوير لتماسيح وأفيال وزراف وكركدن في قلب الصحراء وعلي امتدادها الفسيح . أطلق عليها (الصحراء الخضراء) أي بعد ظهور ما يعرف (بحزام المواسم) حيث الأمطار الغزيرة. وعلق علي ذلك بأن مصر ليست هبة النيل وإنما هبة هذه الصحراء الخضراء وكذلك السودان. (في تمنراست جنوب الجزائر توجد مثل هذه التصاوير منقوشة علي الحجارة). علق على ذلك بروفسور مدثر بالقول إنه شاهدها في متاحف المغرب كذلك. يقول فيرنر، يمكن القول إن المنطقة بين الخرطوم وجنوب مصر ومنطقة تشاد وجنوب السودان كانت منطقة واحدة وعندما بدأت حرارة الأرض ترتفع بعد نحو ثلاثة آلاف سنة مجددا لجأ الناس إلي وادي النيل الأوسط (المنطقة الممتدة بين الخرطوم والحدود المصرية) وإلي بحيرة تشاد ووادي هاور وجنوب السودان . يقول كان النيل ستة أضعاف ما هو عليه الآن سعة. واكتظت هذه المنطقة بالسكان واقتضي التطور السكاني تفاوتا طبقيا أدي لنشؤ سلطة سياسية لتنظيم الحياة وبذلك قامت الحضارة في هذه المنطقة وبدأت في التمدد شمالا. ويلاحظ أن عواصم الفراعنة المصريين كانت في مصر العليا أي في جنوبها لا شمالها ثم انتقلت بعد ذلك إلي مصر السفلي مما يؤكد أنها انداحت من الجنوب إلي الشمال.كذلك لاحظ علماء الآثار جودة وإتقان الفخاريات في مناطق الخرطوم والشهيناب وتفوقها من حيث الإتقان علي التي وجدت في مصر . قال من الناحية الإيكولوجية وفي ذلك الزمان كان وادي هاور عبارة عن نهر ينحدر من بحيرة تشاد ويصب في النيل عند مدينة دنقلا.
يقول إن أكبر المستوطنات البشرية بدأت في هذه المنطقة من العالم وفيها بدأت الحضارات وتطورت اللغات وانتشرت منها إلي المناطق الأخري. يقول لقد ثبت أن استئناس البقر بدأ في هذه المنطقة وليس في الشرق الأوسط كما دلت علي ذلك الآثار في منطقة كرمة بينما بدأ استئناس الأغنام (ماعز وضان) وزراعة القمح في الهلال الخصيب. يقول إن اللغات السامية بفروعها العديدة نشأت في هذه المنطقة من السودان. )ولا غرو فهي تسمي اللغات الآفرو-اسيوية وهي تضم المصرية القديمة والتشادية والأمهرية والأمازيغية والكوشية بالإضافة إلي السامية نفسها Afro-Asiatic .(قال كان الاعتقاد سائدا بين علماء اللغات حتي قبل أربعين سنة فقط بأن منطقة الشام هي أصل اللغات السامية ولكن اتضح الآن بشبه إجماع بنسبة ٩٥ بالمائة بين الباحثين في علم اللغات أنها بدأت ههنا في هذا الإقليم من السودان وانداحت إلي مصر ثم انتقلت إلي الشام ومن هناك إلي بلاد الرافدين ، العراق، وعادت جنوبا إلي اليمن ومنها دخلت الحبشة حيث غالب لغاتها سامية. ولأن السكان في تلك المنطقة الواسعة التي ضمت تشاد وجنوب السودان قد افترقوا بفعل تغير المناخ فتركزت غالبيتهم في منطقة النيل الأوسط وبقيت البقية حول وادي هاور وجنوب السودان وبحيرة تشاد حيث نشأت في منطقة التجمع الثانية هذه وتطورت لغات أخري هي الحامية أو ما يطلق عليه اللغات النيلية الصحراوية أو السودانية المركزية Sudanic Central حيث تبلورت و انداحت من وادي هاور وذهبت أولا إلي منطقة جبال النوبة ومنها عادت إلي مناطق النوبيين في شمال السودان ثم انتشرت في الجنوب ثم في البلدان الإفريقية الأخرى. (يلاحظ الشبه والتطابق أحيانا بين لغة الدناقلة ونوبة الجبال الشرقية إلي حد -كما علمت- يسر التفاهم بين المجموعتين!) ويؤكد الدكتور دام وجود مشتركات بين لغات القبائل النيلية (الدينكا، النوير ، الشلك) وبين لغات نوبة الشمال واللغات في غرب إفريقيا.
يقول إن هذه الاكتشافات حديثة جدا تعضدت بكتابين نشرا دون تنسيق بينهما أحدهم للكاتب الفرنسي كلود ريي Claude Rilly عام ٢٠٠٣ و هو مدير الوحدة الفرنسية المختصة في آثار السودان وحاصل علي الدكتوراه في علم المصريات واللسانيات والآخر بالألمانية للهولندي المقيم في ألمانيا Gerrit J Dimmandaal وهو أستاذ في علم اللغويات الإفريقية في جامعة كولونيا في ألمانيا وله مؤلفات عديدة في هذا العلم وله كتاب بعنوان “شتات وادي هاور” The Wadi Howar Diaspora ويبدو من عنوانه أنه يتحدث عن عملية انتشار من ذلك الوادي إلي عوالم أخري.
ويؤكد فيرنر أن ما تقدم من إفادات قد غدا حقائق تحظي بقناعة الغالبية العظمي من الباحثين في علوم الحضارة واللسانيات.
نقول في الختام:
ينبغي لمثل هذه الحقائق العلمية ألا تثير الحساسيات الجهوية والعرقية (والشوفونيات) الوطنية ، بل ينبغي أن ينظر إليها باعتبارها توكيد للعري والوشائج الحضارية والعرقية التي تربط هذه المنطقة الواسعة الممتدة عبر الشرق العربي إلي أدغال إفريقيا . وهي وشائج دالة على وحدة التأريخ والمصير المشترك مما يتطلب رص الصفوف والتعاون بين مكونات هذه المنطقة. ونلاحظ أيضا تأكيدا متجددا من خلال هذه الإفادات يجمع بين شمال السودان وجنوبه ويقبل كثير من مثقفي الجنوب بآصرة كوش الجامعة بين الجزئيين. يستلزم ذلك التركيز علي المشتركات التي تتأكد كل يوم،ذلك قمين بأن يجمع شتات هذا الإقليم ويعصمه من آفات التمزق و صيحات الفرقة التي لا تقوم علي ساق ولا تستند إلي مسوغات.
يبقي علي علمائنا ومثقفينا تناول هذه الكتابات وجعلها بعض اهتمامات أقسام كليات اللسانيات وعلوم الثقافة والآثار وتشجيع البحوث واعداد الدراسات العليا في هذه المجالات وعقد المؤتمرات للمزيد من البحث. ومن شأن هذه الحقائق أن تبعث الثقة والفخار في أبنائنا وبناتنا، أبناء هذا الجيل المحبط، وأن تحفز هم علي التمسك بوطنهم والتصميم علي النهوض به وذلك أيسر فالأمر لا يعدو أن يكون استئنافاً لمسيرة طويلة في أصل العمران البشري و صنع الحضارة إذا انعقد العزم وصدقت العزائم.