فى ضيافة الشيخ الأستاذ/ بابكر بدرى (3-3)

إبتدر الشيخ بابكر بدرى الجزء الثانى من كتابه بالحديث عن الثلاثة أيام التى استبيحت فيها العاصمة الوطنية أم درمان منقبل الجيش الإستعمارى الغازى عقب معركة كررى فى أغسطس 1898. قال إنها كانت أياماً عصيبة عليهم لكنه استدرك قائلا إن الغزاة تحاشوا التعرض لأعراض الناس وأكتفوا بأخذالأموال والأمتعة. قال إن ضابطينبريطانيين دخلا منزله المستباح وأخذا ريالين وشمعتين فقط وقال ربما أخذاها على سبيل الذكرى (سوفنير).ورغم أن الثورة المهدية قد دالت دولتها إلا أن آثارها قد جعلت المستعمر البريطانى حذراً فى عدمإثارة المشاعر الدينية ومنذلك ما ذكر القس (سبنسر ترمنقهام) حانقاً فى كتابه (التناول المسيحى للإسلام فى السودان ) حيث منع التبشير المسيحى منعاً باتاً فى شمال السودان .وقد ورد فى هذه المذكرات مواقف عديدة للمواطنين يرفضون ظهور نسائهم فى محافل عامة نخوة وصوناً لأعراضهم من أن تدنس ولشرفهم الباذخ من أن يمس. وقد أذعن البريطانيون لذلك .وفى موقف بطولى ورد فى الكتاب, تصدوا ببسالة لضابطوهم فى الأسر أراد التعرض لعرض أحدهم. أخذ الضابط يجرحسناء محصنة إلى خيمتهفتصدى له زوجها وعشيرته يجرونها منه حتى ظهر(وود هاوس) المذكور آنفاًفأنقذ تلك السيدة من ذاك الذئب وضرب طوقاً من الحماية على النساء . هذا الموقف وموقف الضابطين و(السوفنير) عززا إعتقاداً مع مواقف أخرى للشيخ مع المفتشين , بنبل البريطانيين. وهذا إعتقاد طبع هذه الحقبةمن حياته و انبنت عليه الكثير من مواقفه فهو يفسر وقد لايبرر الكثير منها من سياسات البريطانيين فى السودان. ولقد أدركنا ونحن أطفال عربات فى السكك الحديدية مخصصة للنساء مكتوب عليها (حريمات) كان يمنع دخول الرجال إليها. تذكرت قول الشاعر القديم يفاخر:
نحن منعنا يوم أول نساءنا…..
قال بابكر بدرى إن أسعار الحبوب تدنت فى أعقاب سقوط أمدرمان إلا أنها سرعان ما ارتفعت ارتفاعاً لا يطاق فجمع اللورد كتشنرالحاكم العام الجديد وسردار الجيش المصرىوقائد الحملة الإستعمارية على السودان, تجار أمدرمانللتباحث معهم فى أمور عامة من بينها إرتفاع أسعار الحبوب.وقال عن كتشنر إنه ( كان ينطق العربى كما ننطقه ويفهمه كما نفهمه) وعمل اللورد كتشنر بإقتراح بابكر بدرى لتخفيض أسعار الحبوب. هذا علماً بأن الشيخ بابكر لم يتعلم الإنقليزية. لكن يبدو مما دونه أن عدداً معتبراً من الإداريين الإنقليز كانوا يحسنون العربية.
تحدث بعد ذلك عن الكساد الذى أصاب تجارته.وكان قد نشط فى هذا الميدان بعد عودته من الأسر فى مصر متاجراً فى الصمغ يجلبه من صعيد السودان ثم بالمراكب إلى بربر ومنها عبر الصحراء بالقوافل إلى سواكن.فكر بعد ذلك فى التزود بمزيدمن العلم فاقتنى الكشاف للزمخشرى. والكشاف من افضل التفاسير لأنجار الله الزمخشرى كان من أعلم أهل الأرض بالعربية رغم أنه فارسى الأصل ولهكتاب فى النحويسمى “الأنموذج فى النحو”.ولعل ذلكيؤكد أن صحيح الكلمة هو “الأنموذج” وليس “النموذج”. وله معجم هو “اساس البلاغة” ورغم أنه من اساطين المعتزلة إلا أن علماء السنة يعترفون بالخدمةالجليلة التى أسداها للمسلمين عامة بكتابه (الكشاف) فى تبيان ما غمض من آيات الذكر الحكيم. نظم بابكربدرى فى ذلك شعراً:
إن الزمخشرى فى الكشاف أبدى لنا
جواهرا غامض القران توضحه
فروضه يانع والزهرمبتسم
فكن أخى من أولى الالباب تشرحه
والشيخ كما ترون ليس صاحب ملكة شعرية لكنه كان دائب المحاولة كما أن لغته فى النثر لا بأس بها على وجه العموم تخالطها عامية فى كثيرمن الأحيان. ويبدو أن ظروف المعاش القاسية قد صرفته عن الإنقطاع لتحصيل العلم فانصرف إلى ميدان التعليم عندما سنحت السوانح لذلك.
إنتهزالشيخ نداء مدير التعليم فى الجزيرة المستر بلوت لفتح المدارس فاقنع عدداً منوجهاء رفاعة بتسجيل أبنائهم كى يتبعهم الناس . وبالفعل تقرر فتح مدرسة فى رفاعة وعين الشيخ أستاذا لها عام 1903 .وهكذا بدأت رحلة الرجل مع التعليم. نال تدريباً لثلاثة ايام فقط فى الخرطوم ولم يكن قبلها قد رأى ( سبورة ولا بشاورة) كما قال. وبدأ المدرسة فى بيته برفاعة. كتب بيتاً من الشعر يفرق فيه بين نطق القاف والغين قائلاً لتلاميذه إن التلاميذ المصريين فى الخرطوم يضحكونمن نطق السودانيين للقاف:
قولى يقلقل القاف قلقلة وغيرى يغير الغين تغييراً
قلت فى ” اشتات فى العامية السودانية مجتمعات فى الفصحى” أن هذا التخليط ليس وقفاً على السودانيين فهو فى قطرواجزاءمن العراق وذكر سفير سوريا السابق فى أنقرا تعليقاً على ما كتبت بأن ذلككائن أيضاً فى شرق سوريا المتاخم للعراق.كان الله فى عون السودانيين!
توالت إنجازات الشيخ فى التعليم إذ أنه افتتحبعد ذلكأولمدرسة للبنات فى رفاعة بدأها ببناته هو تشجيعاً للآخرين . وفى سنة 1917 اقترح على المستركروفوت فتح خلاوى نظامية فى البوادى “لتعليم أولادهم بفقهائهم إن وجدوا أو بأمثالهم من فقهاء السودان “. ونفذت الحكومة المقترح على الفورحتى عمت الخلاوى النظامية كل بقاع السودان وترقى بعدها الشيخ ليكون مفتشاً للمعارف جاب أطراف السودان البعيدة من حلفا إلى الفاشر والجنينة, القضارف وكسلا وجبال النوبة على ظهور الدواب ثماللوارى بعدأن دخلت السودان.والخلاوى النظاميةكانت تدرس إلى جانب القرآن مبادئ النحو والإملاء ومبادئ الحساب.وقد سمعت فىطفولتى الشيخ عبد الغفار الشيخ أحمد يدرس فى خلوة كورى بمركز مروى و لعله بذات المنهج, الكبارحركات الإعراب (سين ضم السو….) وهم يرددون خلفه.
استمر الرجل يعمل مفتشاً فى المعارف بهمة صاحب رسالة لابمثابرة موظف نشط ينتظر الترقيات .وكثيراً ما تدخل لدى رؤسائه لإنصاف مظلومين من زملائه واستمر على ذلك حتى أحيل على المعاش أواخرعام 1929 وقد شارف السادسة والستين من العمر. وليس أدلعلى صلابته وقوة عزيمته من أنه بدأ فى تأسيس صرح الأحفاد فى رفاعة وبدأت بالفعل بأحفاده ثم ضمت عدداً من ابناء كبار الأنصار منهم الإمام الهادئ المهدى نجل الإمام عبد الرحمن المهدى والمرحوم الأستاذ الشاعر اسحاق الخليفة شريف. وروى أن الإمام عبد الرحمن قرر سحب أولاده من المدرسة فى رفاعة ودعاه ليخبره الخبر قائلا: عبيد عبد النور قال لى إذا سحبت أولادك ذلك يؤثر سلباً على مدرسة عمى بابكر. قال فتحركت فىّ حميةالرباطاب فقلت لسيادته بحدة: انا غير معروف فى بلدتى بغير أولادك؟ والله العظيمما آخذهم لرفاعة للتعليم. فتبسم سيادته وقال لى” أنا لم أفكر فيمن أخاطب… يا شيخ بابكرأولادنا كانوا جاهلين جونا متعلمينمؤدبين نظيفو الأجسادوالثياب فلا تحرمهم الفائدة وعاقبنى أنا بما شئت.” قال فتخاذلت أمام هذا التواضع مع تلك الرفعة التى يتمتع بها . وقبل أولادالإمام مجدداً.ثم انتقلت المدرسة إلى أمدرمانوظل الشيخ رغم تقدم سنه مثابراً على بنائها :وسطى ثم ثانوى. وهى اليوم جامعة مرموقةيشار إليها بالبنان.
ولماكان الجزء الثالث قد خصص جله لقصة بناء صرح الأحفاد, سأتوقف عند هذا الحد مشيراً لبعض مواقف الرجل الوطنية مفسراً كما أسلفت لا مبرراً.
كانت علاقة الشيخ بابكر بالمفتشين البريطانيين أفضل من علاقاته بالمآمير المصريين.وقدعلل ذلك الأستاذ محمد فريد أبوحديد فى تقديمه للكتاب بأن تلك كانت بسبب سياسة البريطانيين :إعطاء الأوامر للمآميرالمصريين للتشدد والغلظة مع السودانيين ليلجأوا للمفتشين البريطانيين ليرفعوا عنهم مظالمهم و ويعاملونهم بالرفق واللين فينتج عن ذلك كراهية للمأمور المصرى وتقدير ومحبة للمفتش البريطانى.
وفى نقاش صريح للشيخ بابكر مع أحد كبار الموظفين المصريين فى القطار ويدعى حسين بك سرى حيث سأله لماذا تحبون الإنقليز أكثر من المصريين وهم أحق بحبكم قومية وديناً ولغة؟ وبصراحة الرباطاب أخرج الرجل كل الهواء الساخن من جوفه وعددمواقف افتقد فيها السودانى شقيقه المصرى: قال قلت” فى سنة 1911 عندما تعدى الطليان على إفريقيا أرسلتم مئات الألوف من الجنيهات للمغاربة إعانة.وفى سنة 1912 حصلت حرب البلقان أرسلتم مئات الألوف وجندكم إعانة للإشتراك. بدأت المجاعة فى السودان وبلغت أشدها عام 1914 حتى بدأ الموت جوعاً من الفقراء واستمرت المجاعة حتى جلب الإنجليز الغلال من الهند والدقيق من استراليا فانفرجت الأزمة ولم يصلنا من مصر إعانة حكومية ولا شعبية وإن قلت . فقال حسين سرى لم نسمع بهذه المجاعة.فقلت عجباً:الأخ الصغير يموت جوعاً ولا يسمع به أخوه الكبير؟ فخرج حبيب بك -الذى كان معهما فى القمرا- يمسح دموعه بمنديله واستاذنه فى نشرما قاله فلم يستحسن ذلك حيث راى أن نصيحة قاسية كتلك قد يؤدى نشرها وإذاعتها إلى نتائج عكسية.( راجع صفحتى 203 و204 من الجزء الثانى .) ولا شك أن أنصارية الشيخ قدلونت نظرته لمصر بالإضافة إلى تجربة الأسر القاسية فيها وما أعترف به حسين بكباشا بسؤ معاملة الرعيل الأول من المآمير المصريين للسودانيين.
وتحت عنوان ( استحكم الخلاف بينى وبين الإنجليز) شرح طرفاً من مواقفه إذ أنه راى فى حركة اللواء الأبيض تحريضاً مصرياً لن يكون فى صالح السودان و سيؤدى إشتغال الطلاب بالسياسة إلى إغلاق معاهدالتعليم فى البلاد وحرمان السودانيين من التعلم ولن يؤدى إلى خروج الإستعمار.وكان يرى ضرورة الحرص على تعليم النشء وإتقانهم للغة الإنقليزية وأن إحتكاكهم فى المكاتب باقرانهم البريطانيين وتبؤهمناصب رفيعة فى جهاز الدولة سيفضى فى نهاية المطاف إلى وراثة حكم السودان على يد ذلك الجيل .( راجع حوارته مع الطلاب صفحة 217 فى الجزء الثانى). وقد اغلق الإستعمار المدرسة الحربية وطرد الجيش المصرى بعدمقتل لى استاك. وتبنت الحكومة سياسة الإدارة الأهلية بعد أن جلبتها منمستعمرتها فى شمال نيجريا,لتحجيم دور المتعلمين الذين ظهر بوضوح تأثرهم بالحركة الوطنية فى مصر على ايام سعدزغلول ومواجهتها للإنقليزوكذلك تحجيم دور زعماء الطائفية وإضعاف نفوذهم عبر زيادة دور رجال القبائل وزعماء العشائر.وقدعارض هذه السياسة بشراسة معارضة ربما أفقدته بعض علاقاته الودية مع البريطانيين لما رأى فيها من ردة عن التوسع فى تعليم أبناء البلاد وربما أثارت معارضته لها الشكوك حوله من قبلهم. كذلك اعترض على الجمعية التشريعيةلشمال السودان ورأى فيها مخططاً لفصل الجنوب وبلّغ إعتراضه لكبار المسؤولين البريطانيين.
اشتملت المذكرات على الكثير الذى لا يستحق الذكر وعلى ألفاظوعبارات ليستمن قبيل ما يكتب عادة, لكن ذلك كله لا يقدح فى أهميتها وضرورة دراستها ولا ينبغى أن يغمط الشيخ الجليل حقه من التبجيل والإحترام لمساهمته الكبيرة فى دفع عجلة التعليم العام وهومفتش للتعليم ولا دوره الأصيل كرائد من رواد نهضة التعليم الخاص والنسوى فى هذه البلاد. وأشد ما يثيرالإعجاب فى الرجل هذا الحراك الدائم والعزيمة الى لا تعرف المستحيل والنفس الوثابة وهى تقفز من دورإلى دور مختلف عنه تماماً حتى أواخر عمر مديد ملأ ساحاته بالإنجاز.
وحتى يجد الرجلما يستحق من الإنصاف علينا أن نتأمل آخرماكتبه فى حياته تحت عنوان(حوادث الأيام علمتنى):
” المحركات للدفاع أربعة: الدين –والعرض –والمصلحة –والحظ.أما الدينإذا أهين فعلى المسلم الدفاع عنه حتى يموت شهيداً. أما العرض إذا ثلم فيجب الدفاع عنه حتى يقف المدافع على شفير الموت ثم ينظر إذا كانت حياته أحفظ للعرض فليحيا وإذا كان موته أستر للعرض فليمت. أما المصلحة إذا عرضت فليعرض طريقها على الدين والعرض فإن وافقا عليها- فإن لم يوافقا عليها أو أحدهما فالأولى تركها.وأما الحظ فلا قيمة له.”

تعليقات الفيسبوك