لعل قبول كافة القوى السياسية الحاكمة حاليا وتلك التى فى المعارضة لمبدأ حق تقرير المصير لجنوب السودان مما لاجدال حوله البتة . ولقد أورد الدكتور منصور خالد فى سلسلة مقالاته بعنوان ” كيف تم صنع السلام ؟” التى نشرت على صفحات هذه الصحيفة “الرأى العام” فى يناير المنصرم من هذا العام,أن الحركة الشعبية لتحرير السودان قد اعتمدت هذا المبدأ فى مؤتمرها فى شقدوم شرق الاستوائية الذى انعقد خلال الفترة من 2-14 أبريل عام 1994 مشيرا الى أن موقف الحركة ذاك كان ردة فعل على موقف قادة انشقاق الناصر على الحركة حيث استيئسوا من فكرة اقامة سودان موحد على أسس جديدة وعبروا عن رؤى انفصالية تصوب هدف الحرب نحو فصل الجنوب. ثم أشار الى اعلان الحكومة-حكومة الانقاذ- قبول هذا الحق ممثلة فى الدكتور على الحاج وذلك فى حوارها مع قادة ذلك الانشقاق فى فرانكفورت عام 1992. وأشار الى أن الدكتور جون قرنق سعى لترسيخ فكرة حق تقرير المصير للجنوب وأفلح فى أن يخلق قبولا عاما لها مما حدا بالتجمع الوطنى الديمقراطى- المظلة الجامعة للاحزاب الشمالية والجنوبية المعارضة لحكومة الانقاذ- بعد بضع سنوات من قرارات شقدوم للاقرار بذلك المبدأ “حق تقرير المصير” فيما يعرف ب “مقررات أسمرا” عام 1995. وأضاف أن تلك المقررات لم تجعل حق تقرير المصير وقفا على جنوب السودان بل أشاعت ذلك الحق لكل اقليم فى السودان يطالب به. .
والغرض من ايراد هذه الحقيقة هو اخراج هذه الجزئية من دائرة الجدال السياسي باعتبارها من المسلمات لتمكين كافة الفرقاءء من الاستدلال بعبارة السيد المسيح فى المرأة المرجومة ان شاءوا :” من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر!” فى وجه من يدمغهم بجريرة ابتدار الاعتراف بذاك الحق, و لكى ينصرف الاهتمام من التلاوم العقيم الذى لن يفض الى نتيجة الى ما ينبغى عمله للحفاظ على وحدة السودان عبر الاقناع بالوسائل الديمقراطية حصريا كما تقول لغة التلفزيونات هذه الأيام. ويستلزم الاقناع تبيان الحقائق بدقة للمواطنين فى كامل أرجاء الوطن .ويقع عبء الاقناع على عاتق المشاركين والموقعين على اتفاقية السلام الشامل فى ماشكوس ونيفاشا فى كينيا من قيادات المؤتمر الوطنى والحركة الشعبية لتحرير السودان عبر مناظرات هادئة وحضارية على طريقة مناظرات الرئاسيات فى الغرب يتفق الطرفان فيها على كيفية ادارة الحوار وعلى الزمن المخصص للاجابة على كل سؤال وعلى الأشخاص الذين يديرون هذه الحوارات من الصحافيين أو من الشخصيات الوطنية المقبولة للطرفين وتتاح فيها الفرص لقادة الرأى فى البلاد و للقيادات الشعبية والرسمية المشاركة فى الحكم والمعارضة من الشمال والجنوب . وستكون تلك سانحة ثمينة تتاح لطرفى الاتفاق لجعل تفاصيل الاتفاق متاحة لكل مواطن بطريقة مبسطة ومباشرة حتى يتحمل المصوتون نتائج تصويتهم وحتى يعلم الرأى العام مواقف كافة الأطراف وهل بالفعل كانت الأولوية فى اتفاقية السلام الشامل لتحقيق وحدة حقيقية مستدامة أم أن نوايا أخرى قد استبطنت ابتداء تدثرا بذلك الرداء الجميل , رداء الوحدة. وطبيعة مثل هذه الحوارات الحضارية تستلزم النأى عن الشعارات والتهريج.لذلك يلزم أن يمنع فيها على الحضور التصفيق أو استخدام أى شعارات للتشجيع أو التخزيل وتتاح فيها فرص محددة للاسئلة أو الاستفسارات وتبث هذه الحواارت عبر التلفزيون القومى وتلفزيون الجنوب وعبر الاذاعات الاتحادية والولائية.
وأتصور أن الأسئلة الملحة التى تتطلب اجابات ملحة تكون على شاكلة:
كيف دار الحوار بين طرفى الاتفاق فى كينيا حول الوسائل والتدابير التى تجعل الوحدة جاذبة؟ أى كيف تقاس جاذبية الوحدة من عدمها؟ لقد عبر عدد من قيادات الحركة مرارا بأن زمان جعل الوحدة جاذبة قد ولى الى غير رجعة. علام يستندون فى ذلك؟ هذا السؤال يتضمن وجود حزمة استحقاقات واجبة التنفيذ .قالت وزيرة الدولة بوزارة الطاقة السابقة السيدة انجلينا فى احدى نشرات العاشرة قبل أيام انه قد تم الاتفاق على قيام مشروعات من قبل الحكومة الاتحادية فى الجنوب قبل انقضاء الفترة الانتقالية. كم عدد هذه ا المشروعات ؟ وهل كان القيام بانجاز تلك المستحقات هو الوحيد الذى يجعل الوحدة جاذبة ويحث قيادة الحركة للمناداة بها عندما يحين موعد الاستفتاء؟ ان صح وجود ذلك يقفز هنا سؤال جوهرى يطرح على مفاوضى المؤتمرالوطنى عن ذلك ان وجد ثم يطرح سؤال على المفوضية التى أنيط بها انجاز ذلك الاستحقاق ورئاستها شراكة بين الطرفين. وهل عدم الوفاء بذلك مسؤولية المانحين أم الحكومة الاتحادية. وان لم يكن هناك مثل هذا الالتزام أصلا يتولى مفاوضو الحركة الشعبية توضيح مقاصدهم بعدم جاذبية الوحدة وعلى أى قياس يستندون. هناك اتهامات معممة أحيانا من قبل الحركة الشعبية للمؤتمر الوطنى بعدم تنفيذ الاتفاق وفق منطوقه ونصوصه. يجب أن يوضح مفاوضوا الحركة للناس و بدقة تلك الاتهامات. وبعد ذلك ينظر فى تقارير المفوضيات المشتركة التى قدمت للحكومة الاتحادية على مدار السنوات الفائتة وتلك التى رفعت للمنظمات الاقليمية والدولية للتحقق من ادعاءت الطرفين خاصة تقارير مفوضية التقييم والتقدير التى يترأسها البريطانى بملمبى وفيها ممثلون لشركاء الايقاد من أوروبا وأمريكا ويفترض أنها محايدة وموضع ثقة الطرفين. . تتقاطر هذه الأسئلة على الذهن الحائر لأنه يصعب على العقل قبول أن مجرد التطبيق الدقيق للاتفاق يكون مفضيا الى الوحدة كما يرى البعض. فالاتفاق قام فى الأصل على أساسيات اعترفت بالفوارق الثقافية بين شطرى القطر لذلك برزت فكرة دولة بنظامين فى ورقةاستيفن موريسون وفرانسيس دينق التى اشتمل عليها بروتوكول ماشكوس. لذلك لم يكن متصورا أن تختفى الفوارق الثقافية بل والريب والمرارت القديمة والجديدة فى غضون سنوات الانتقال الست التى نص عليها الاتفاق ليعقبها السودان الجديد الذى بشرت به الحركة وقاتلت من أجل احلاله محل السودان القائم الآن لأن الفترة الانتقالية وصفة للتعايش وترسيخ الثقة بعد حرب ضروس وليست صيغة لانصهار كامل قد تتسارع خطاه فيطوى السنين طيا وقد يطول انتظاره ليستغرق أجيالا تأتى ويبقى هدفا نبيلا تتشمر السواعد دوما لتحقيقه كما هو الحال فى كل مكان. ترى هل عدم الوصول الى تلك الغاية هو سبب احباطات و زهد بعض قيادات الحركة فى الوحدة؟ لكن جاءت قسمة السلطة والثروة كأهم انجاز للاتفاقية لتسريع معالجة التهميش والتفاوت فى مستوى التنمية وهى قضية تعانى منها كافة الدول التى خضعت للاستعمار الذى اختار تنمية مناطق دون غيرها وفقا لمصالحه الاقتصادية وتتحمل الحكومات الوطنية فى حالة السودان بعض أوزار ذلك بلا ريب.. ومن محاسن الاتفاقية أنها ألزمت اطرافها أن يكون مبدأ قسمة السلطة والثروة وصفة تعتمد فى حل مشاكل الأطراف الأخرى فى البلاد التى تشكو التهميش أيضا. كذلك مبدأ جعل مناط التكليف وتحديد الحقوق والواجبات وقفا فقط على المواطنة دون سواها. هذا هى الاطار الوحيد المتاح انسانيا لتحقيق العدالة .
هناك حزمة من الأسئلة تحتاج الى اجابات من وزيرى الدولة فى رئاسة الجمهورية عن المؤتمر الوطنى والحركة الشعبية تتعلق بالنسب المئوية لما تحقق من الاتفاقية.
أتصور أن تستمر هذه الحوارت لأسابيع عدة حتى يتم تغطية كافة جوانب مسألة الوحدة والانفصال. ولا بأس أن تعقبها حلقات محدودة العدد لمشاركين من خارج السودان ممن عرفوا بالحيدة الصارمة ليدلوا بدولهم استنادا لما سمعوا من حوارات عما اذا كان دعاة الانفصال يملكون حججا صلبة لدعم ذلك الخيار.
ولما كان لخيار الانفصال تداعياته على دول عديدة فى افريقيا يلزم مشاركة الاتحاد الافريقى فى هذه الحوارات وأن يكون حكما فى ترجيح الخيارت بالاعلان عن موقفه من ذلك بعد الاستماع الى كافة الحجج دون حرمان أهل الجنوب من حق الاستفتاء نهاية المطاف ليتحمل الاتحاد تبعات المحافظة على السلام فى المنطقة اذا وقع الانفصال بالتدخل لردم بؤر التوتر المتوقعة ولايقاف المعتدى عندئذ عند حده.
اذا تعذر اقامة مثل هذه الحوارت على النحو المقترح يصار الى اقامة سمنارات تقيمها مؤسسات بحثية أو أكاديمية تستنطق فيها طرفى الاتفاق حول ذات الأسئلة شريطة الموافقة على بثها حية أومسجلة عبر وسائط الاعلام فى الشمال والجنوب. ولئن تعذر ذلك كله اقترح على صحيفة “الرأى العام” الغراء أن تقوم بهذه المهمة على شكل ندوة تستضيفها و تسعى من بعد ذلك لترجمة محتوياتها وتوزيعها فى الجنوب أو أن تجعل الأمر شراكة بينها وبين احدى الصحف التى تصدر فى جوبا باللغة الانجليزية وذلك أضعف الايمان. أهم من ذلك كله أن تتاح الحرية كاملة لدعاة الوحدة من الجنوبيين والشماليين فى كافة أرجاء الجنوب دون قيد أو شرط . ذلك بعض استحقاقات الاتفاق فى جعل الوحدة جاذبة.