أرسل الىّ قارىء عزيز تعليقاً على مقالتنا المنشورة فى عدد فارط من أعداد هذه اليومية الغراء تحت عنوان , “الإنفصال .. والدروس المستفادة.” مثمناً ما ذهبت اليه فى تلك المقالة من أخذ العبرة من انفصال الجنوب لتعزيز روابط ما بقى من أجزاء السودان بقولى ” والعكوف على البحث فى أسباب وصولنا الى ما وصلنا اليه, ضرورى من جهة العمل على تفاديه فيما يتصل بعلاقة المركز بالاطراف كى لا يتكرر ما وقع فى الجنوب فى مواقع أخرى فيما تبقى من خارطة السودان. تلكم هى ما عنيناه بإستخلاص الدروس والعبر. ومن صميم هذه المراجعات نقد الذات, وهى لازمة للحكام والمعارضين والنخب المثقفة جميعاً فنحن جميعاً مسؤولون عن حصيلة نصف القرن الذى مضى من عمرنا الإستقلالى وعن نتائجه.”
جاء تعليق القارىء العزيز كالزفرات الحرى والعبرات بكاءا على ماض مشروع الجزيرة العملاق وأسفاً على حاضره الذى يعيشه أهله ومشفقاً فى ذات الوقت من تراكم المرارات الذى قد يفضى بالناس الى ما لاتحمد عقباه مؤكداً على ضرورة ما ذهبت اليه من لزوم المراجعات وإعادة النظر فى الحوارات التى تدور بشأن اعادة الروح الى ذلك المشروع العظيم وإشراك أهله جميعاً خاصة بسطاء الزراع الذين بجهودهم المضنية وقف السودان على رجليه لعقود عديدة قبل أن نلج الى عالم الزيت. أشار الى خطأ السياسات التى تخلت عن زراعة القطن طويل التيلة. قلت مبلغ علمى أن القطن كان قد كسد قبل عقود خلت بعد مزاحمة الملبوسات اللاقطنية له. وأشرت الى افادات بأن داء (العسلة) قد قعد به الى جانب ذلك. فأحالنى الى موقع تضمن افادات للدكتور عابدين محمد على رئيس مؤسسة الأقطان , وهو من ابناء الجزيرة البررة سبقنا بأعوام فى ثانوية ودمدنى, أكد فيها زيادة الطلب العالمى هذه الأيام على الاقطان طويلة التيلة التى كان السودان ومصر يحتكران انتاجها بالاضافة الى ارتفاع أسعارها كذلك. وقد حوى الموقع معلومات علمية مفيدة عن أنواع الأقطان وعن أن مصانع النسيج التى أقيمت فى المشروع لانتاج (الدمورية) والمنسوجات الرخيصة لم تكن تتناسب مع نوع القطن المنتج فى المشروع وهو طويل التيلة بينما تنتج تلك المنسوجات من الأقطان قصيرة التيلة. وعن داء (العسلة) قال ان التوسع فى تحويل المشروع لزراعة المحاصيل البستانية والقمح على حساب ما تخصص فيه المشروع وما نجح فى انتاجه وهو القطن هو سبب( العسلة) التى جاءت مع زراعة (البامية) التى كان محرماً زراعتها فى المشروع تفادياً لتلك الآفة . خلصت الى القول إن ملاحظاته مشروع بسطها على طاولة البحث مع أهل الاختصاص والسياسة أيضاً وقد تكون ضرورية تساهم فى تصحيح المسار الاقتصادى للبلاد وتنسجم مع إعادة الإعتبار للزراعة التى تعد السبيل الأهم لنهضة السودان, مشيرأ فى ذات الوقت الى أننا نصيب استقرار البلاد فى مقتل ان تذرعنا بمثل هذه المشكلات نزوعاً الى العنف وإثارة النعرات والجهويات وكان قد أحزننى ما تواتر من قيام بعض الشباب بحرق مساحات مزروعة بقصب السكر نواحى سنار فأكد ادانته لكل أشكال العنف والجهوية والعرقية. وقد وعدته بالكتابة عن أمر الجزيرة والإشارة الى ما أشار اليه دون ذكر الأسماء فأذن بذلك. ومن حسن الطالع أن أطلعت اليوم على تصريح منسوب لوزير الدولة بوزارة الزراعة الدكتور محمد على الحاج علوبة أثلج صدرى وأرجو أن يهدىء من خواطر قارىْ العزيز وكل المشفقين على مستقبل الجزيرة الخضراء ومشروعها الرائد.
تحت عنوان :
عودة القطن كمحصول استراتيجى خلال العام المقبل.
ولا شك أن الضرورات الانسانية المتعلقة بحقوق الناس بالاضافة للضرورات الاقتصادية الملحة المتمثلة فى خسارة نحو ثلاثين فى المائة من مداخيل الزيت بعد الانفصال تستوجب رحابة الصدر والموضوعية فى استصحاب كل رأى سديد يقوى اللحمة ويصون الأجواء الصحية التى تساهم فى فى تقوية التماسك الوطنى اللازم للنهضة.
والجزيرة الخضراء احتضنت بذراعيها أهلنا حين قصدوها من عاصمة البلاد القومية كما احتضنت أبناء السودان من كل صوب حين قصدوها يرومون من خيرها العميم فحنت عليهم” حنو المرضعات على الفطيم”.
ولما فاضت أقطانها واستعصى على أهلها الجنى نادى الراحل محمد طلعت فريد لحملة قومية لجنى القطن فتغنى عبد الدافع عثمان بصوت شجى:
قطن السودان يا فتلة طويلة
أبيض جميل.. أبيض جميل
وطويل التيلة
يا المزروع فى أرض الجزيرة
وكذلك فعل عثمان حسين:
ياخوى خليك نشيط يلاك معاى نمشى اللقيط
اقتصادنا فى قطنا والقطن داير لقيط
داير لقيط..
كنا صغاراً فى مرحلة التعليم الابتدائى بدايات عقد الستينات من القرن الماضى والحافلات تفوج كبار السن من الطلاب لتلك المهمة وكانت أشواقنا تعانق السماء بفعل تلك الأهازيج ونحن نمنى النفس بأن تكتحل أعيننا برؤية القطن الأبيض رأى العين يتوج شجيراته الخضراء. وحملتنا الحافلة (العظمة) ذات نهار جميل من الحصاحيصا الى قرية تجاور (طابت) الشهيرة موطن الشعراء والكتاب وأهل الذكر. وكم كانت سعادتنا عظيمة ونحن نمعن النظر فى المساحات الممتدة امتداد البصر تعلو شجيراتها التيجان البيضاء! وعن حاضرة الجزيرة يومئذ, يحلو الحديث فقد ضمت الطليان واليونان والبنيان أيضاً. فمثلما امتلأت متاجرها الشهيرة بالبضائع من كل صنف اكتظ سوقها بالزحام وبالشاحنات المحملة تأتى من أصقاع السودان المترامية حتى يستعصى المشىء على المشاة فى ناحية السوق الشرقية المجاورة لموقف حافلات النقل شمال المستشفى.أما مكتباتها الشهيرة فقد ازدانت بطبعات بيروت الشهيرة لمارون عبود وجبران خليل جبران وايليا أبوماضى وعباس العقاد وسيد قطب . كانت مكتبة “مضوى” فى وسط السوق شامخة عامرة بالزوار وكذلك مكتبة الفجر لعمنا سيداحمد الشايقى ” وبك شوب” يباشرك بوجه طلق الشاب محمد يوسف الكارب ومكتبة الأمل للأستاذ الجليل موسى أبوزيد متعه الله بالصحة. ومكتبة العم عيسى للجرائد التى كانت تصلها الجرائد عند العاشرة صباحاً ببص الخواجة أو ” البص السريع” أو بالمطار طراً من الخرطوم. وحدث ان شئت عن منتزهاتها “كعكاتى” المطلة على شاطىء النيل الأزرق وميدان الملك الذى أصبح حديقة باسم الراحل سليمان وقيع الله”. ولفيف يستعصى على الحصر من الشعراء وأهل الرياضة والفن والسياسة ورجال الدين والمتصوفة نحاذر من تعداد الأسماء حتى لا نغفل ذكر واحد منهم.
هذه مدينة شاخت بممات المشروع ولعل العودة لمحصولها الذى ألفته وألفها يعيد اليها شبابها وبهاءها فقد كانت نعم المدينة التى ما ضاقت بأهل السودان كآفة ولا بزوارهم من كل بقاع الدنيا من عرب وعجم.
أرجو أن أكون قد أوفيت بعض دينها علينا وبوعدى الذى قطعته على القارىء النابه الذى أهاج أشواقاً شحنات من الحنين الى تلك البقاع من السودان ستلازمنا ما دامت الحياة فى عروقنا.