بادىء ذى بدء هل للتضحيات من ثمن؟ والإجابة الفورية هى : أى نعم وتلك طبائع الأشياء. فالانسان يبذل ماله أو ولده أو نفسه التى بين جنبيه لغاية يتوخاها. قد تكون دفاعاً عن أرض أو عرض أو كرامة يأبى أن تهان. قال المتنبىء رحمه الله:
ومراد النفوس أهون من أن نتعادى فيه وأن نتفانا
غير أن الفتى يلاقى المنايا كالحات ولا يلاقى الهوان
والاستقلال أو حرية إدارة دفة الحياة على الوجه الذى يختار المرىء سيان عند الفرد وعند الأمة. فالإستعمار إمتهان لكرامة المستعمَر, سرقة لأرضه وثرواتها وإستخفاف بكرامته الإنسانية بإعتبار أنه قاصر لا يملك إدارة أمره بنفسه أو خب يسهل إستغفاله أو ضعيف لا يقوى على رد الظلم عن حياضه .وتنداح هنا كل ألوان التعالى العرقى والثقافى المصاحبة لحق الوصاية الذى أخترعه الإستعمار ليبرر أخلاقياً حقه فى حكم بشر مثله وإمتهان إنسانيتهم وهذا أمض وأقسى على النفس من سرقة الموارد. وبالتالى فنعمة الإستقلال الكبرى تكمن فى هذا المعنى الانسانى الأسمى: الحرية ! وهى بهذه الصفة قيمة كبرى فى حد ذاتها لا تقاس بما يتحقق أو لا يتحقق بعدها والتجلة تاج يزين رأس كل من ضحى فى سبيل تحقيق تلك الغاية لا ينزعه تفريط الخلف ولا فشلهم فى الإنتقال به إلى الغايات الأخرى المرجوة منه فالبكاء على مآل الأحوال وربط ذلك البكاء بتسفيه هذه الذكرى العظيمة فيه غمط وتسفيه لمجاهدات الآباء وتضحياتهم وفيه إعلاء للماديات على معان الكرامة والإباء وعشق الحرية وكأن القائل بذلك يتمنى لو بقى المستعمر وبقى مع بقائه الرغيف والبنزين متوفراً! ولكن من البداهة الا يقف مبتغى الأمة عند هذا الإنجاز الهام فى حياتها لأن تحقيق تلك الغاية هو مفتاحها للنهضة والنمو والعيش الكريم. فالإستقلال هو بداية السعى الدؤوب نحو المعالى كأنك تكسر به أبواب حصون منيعة لتدلف لعوالم جديدة أو لتدخل مضمار السباق الحر مع كافة الأمم الحرة المالكة لناصية أمورها. وهكذا يقترن تحقيق العيش الكريم بالحرية. ذاك هو ثمن التضحيات وهو ما يحفزنا على تحية كل من بذل دماً أو مالاً أو عانى مسغبة وتشريداً فى سبيل الوصول الى تلك الغاية على المدى الممتد منذ سقوط السلطنة الزرقاء مروراً بالحقبة الاستعمارية الثانية منذ معركة النهر فى كررى أغسطس 1898 وحتى ارتفع علم الحرية عالياً يرفرف فوق السارية غرة يناير 1956.
ولئن كانت ذكرى الاستقلال مناسبة للاحتفال به وبالذين ضحوا لصناعته فمن أوجب الواجبات أن يكون مناسبة سنوية للجرد السنوى للنظر فيما تحقق وفيما أخفقنا فى تحقيقه لأخذ العبر وتصحيح الأخطاء بما يلزم من تحقيق غايات الأمة وأحلامها فى تحسن ينبغى أن يطرأ على حالها فى كل يوم تطلع فيه الشمس . ومشروع بل ومرغوب فيه أن نتساءل كيف لدولة مثل ماليزيا نالت إستقلالها بعد عام كامل بعدنا قد لحقت سباق الدول وغدت دولة صناعية ريعها من الصناعات الدقيقة أضعاف ما كانت تحصل عليه من ناتج المطاط وزيت النارجيل رغم أنهامثلنا دولة متعددة الأعراق والديانات. وهناك كوريا الجنوبية التى كنا أفضل حال منها يوم حققنا إستقلالنا. ولئن كان ذلك لازماً فى كل عام فإنه ألزم فى هذا العام من كل عام مضى وذلك لأن ربع الوطن قد ذهب بعيداً الى غير رجعة وتتطرد النذر بالمخاطر على ما تبقى منه. والحفاظ على الوطن فى هذا الظرف الدقيق غاية أسمى تعلو على كل الخلافات الايدولوجية والسياسية. فلو ذهبت ريح الوطن وتشظى غداً وتقطعت أوصاله لن تجدى عن الناس تبايناتهم السياسية ولن يجدوا وطناً يختلفون على كيفية إدارته. على الحكومة أن تدرك هذه الحقيقة وأن تدرك أن حجم الأخطار المحيطة بهذا البلد أكبر من أن تقوى عليها الحكومة أو الحزب الحاكم ويحتم عليها ذلك الإدراك أن تدخل فى حوار مفتوح وصادق مع كل أطياف المعارضة بل كل قطاعات المجتمع التى لا تنتم لجهة بعينها وهذه قطاعات هامة عافت الإنتماءات السياسية ومثلها قادت الثورات العربية الأخيرة ولتتساوى فيه حظوظ الجميع فى المشاركة وحرية التعبير وليبتدر ذلك الحوار مختصون فى السياسة والإقتصاد من أبناء السودان فى الداخل والخارج لتحديد محاور وأجندة ذلك الحوار فى تشخيص الأزمة وإقتراح الحلول ولتبدى الحكومة بعد ذلك من المرونة ما يلزم لإنفاذ مخرجات ذلك الحوار برنامجاً ملزماً للجميع للخروج من الأزمة وعلى المعارضين ألا يكتفوا بالفرجة والشماتة وهم يرون وطناً تحيط به الأخطار ويتعرض لأزمة بقاء فى أن يكون أو لا يكون.
وحديث المعارضة والحكومة عن الإتفاق حول القضايا الوطنية يبدو فى أحسن حالاته كلاماً وحسب لا يصدقه السلوك. والإتفاق المطلوب إتفاق صلب على مبادىء عامة تترتب عليها المواقف وهذا ما لانلحظه فى سلوكيات الطرفين. وأحسب أن فى قائمة أولويات تلك المبادىء :
-الاعتراف بوجود تفاوت واختلالات فى حظوظ أقاليم السودان من التنمية. ورغم أن أسباب هذا التفاوت تأريخية وليس جلها على الأقل ناتجاً عن تآمرنالت به تلك الأقاليم حظوة استحوذت بموجبها على ما نالت , فإن الإعتراف بذلك التفاوت يخلق إجماعاً وطنياً على ضرورة معالجة تلك الاختلالات بتدابير إسعافية تسرِّع من لحاق تلك الأقاليم بالمستوى القومى من التنمية كإدراج تلك المعالجات فى موازنة الدولة السنوية. وينتج بالضرورة عن هذا الاعتراف مبدأ هام آخر هو:
– رفض العنف والعمل المسلح كوسيلة لرد المظالم ووقوف الجميع حكاماً ومعارضين بحزم فى وجه أى محاولات من ذلك القبيل.وينعقد إجماع لا نظير فى الصلابة فى الديموقراطيات الراسخة على رفض كل أشكال العنف لمعالجة الاختلالات والمظالم ولا يمكن تصور شخص عميق الإيمان بالحكم الديمقراطى المدنى يقر بذلك. ولقد كان من أسباب إنفصال الجنوب لجؤ المعارضة والطبقة السياسية الرافضة للشمولية الى نظام العقيد القذافى لدعم حركة التمرد فى الجنوب لإسقاط نظام نميرى. ذلك لأن العمل الجهوى المسلح يثير النعرات والكراهية بين مكونات المجتمع وينقض غزل عقود من الانصهار سرعت بوتيرته الثورة المهدية تمثل فى مدينة أم درمان كبوتقة انصهرت فيها أعراق الشرق والغرب والشمال والجنوب.إن بروز القبلية والجهوية والعرقيات الذى نشكو منه هذه الأيام هو من بعض إفرازات العنف المسلح أزكت ناره أيضاً سياسات متعجلة لم تتحسب للعواقب. أنظروا إلى أعراق أبطال الإستقلال : مهيرة بت عبود والنعمان ودقمر والمك نمر والميرة أم تاجا ومسيكة بت بلال والمهدى وعبد الهل التعايشى ورابحة الكنانية وعثمان دقنة وعلى عبد اللطيف وعبد الفضيل الماظ بالاضافة الى الجيل الذى تحققت على يديه الغايات : الأزهرى ومحجوب وزروق وأحمد خير وغيرهم. جاءوا من كل صقع فى السودان فى بانوراما من السحنات واللهجات ليقيموا السودان الواحد الموحد. إن إنبعاث الجهويات والعرقيات أمر ينذر بشر مستطير تغذيه إستدامة العنف من أى طرف جاءت لا دواء له إلا ثقة المواطن فى كل جزء من البلد فى قدرة الدولة على حمايته وإنصافه بقطع النظر عن لونه ومعتقداته وهو إن فقد تلك الثقة بحث عن الحماية والعدالة فى قومه الأقربين. وتتحقق تلك الثقة بمبدا آخر:
– دمقرطة الحياة برمتها فى البلاد وفق منظور الدولة القطرية العصرية التى يتساوى قاطنوها فى إكتساب الحقوق وتحمل التبعات. ويكون الفوز بالسلطة متاحاً للجميع عبر التنافس الحر لا المحاصصات إستناداً على مبدأ ( صوت واحد لكل مواطن), وما من سبيل سوى ذلك. وتزول حينئذ دعاوى إفتئات أقاليم بعينها على غيرها وإستئثارها بالسلطة والثروة.
إن تجاوز حالة الإحتقان الحالية وإزالة التوتريعد من أوجب الواجبات فلن تحدث تنمية ولن يتقاطر علينا إستثمار فى ظل الخوف والترقب وإنعدام الأمن والحرائق مشتعلة فى أطراف الوطن. ويقتضى الإحتفال الحقيقى بالإستقلال وانفاذ وصية ” جدودنا زمان”, التجرد والإخلاص و تصويب الرمية والجلوس معاً فى تواضع فى حضرة الوطن للم الشمل والإتفاق على خطة تخرج البلاد من دوائر الخطر والإستهداف.ونأمل أن تسنح السوانح فنخوض بشىء من التفصيل فى علاقة المركز والأطراف.
فى ذكرى الإستقلال: ثمن التضحيات!
0