فى حمى البزاة والرخم!!

قال المتنبىء رحمه الله فى الميمية المشهورة التى عاتب فيها سيف الدولة والتى مطلعها:

واحر قلباه ممن قلبه شبم

ومن بجسمى وحالى عنده سقم

ناعيا على سيف الدولة لائما له على مساواته بمن دونه من الشعراء فى العطاء والاكرام كالذى يسوى بين النسور الكريمة الجسورة التى تقتات على ما تأخذه عنوة وبين الرخم الذى يقتات على فضلات ذلك من الفطيس :

وشر ما قنصت راحتى قنص

شهب البزاة سواء فيه والرخم

والبزاة جمع بازى وهو النسر والرخم جمع رخمة وهو كذلك من جوارح الطير لكنه خسيس ليس فى نبل النسور فهو مراوغ غدار يقتات على صيد الغير من المخلفات القذرة من الحيوانات التى تموت حتف أنها أو تقتلها حيوانات أخرى اكتفت من لحمها وانصرفت. والرخم فى ذلك مثل الضباع دناوة ترابط حيث الأسود والنمور لتقتات على فضلات طعامها من الصيد . وفى السودان وفى بادية الحجاز أيضا يقولون ” فلان رخمة!” أى شخص لا نفع فيه تنقصه النخوة والشهامة.وتشبها بقوة ونبل النسر تسموا ب “الصقر” و” الباز” أما اذا أرادوا به من يبذ أقرانه متفوقا عليهم نجابة وفطنة فيكون بالذال لا الزاى. وهذا الخلط مشكل مثل (زكى) ومعناها طاهر نقى حسن الرائحة أو (ذكى) وهو من الذكاء والفطنة.ونحن وكثير من العرب نخلط خلطا شائنا فى هذا السبيل. وفى البازى أيضا

قال صاحب معرة النعمان:

ظلم الحمامة فى الدنيا وان عدت فى الصالحين كظلم الصقر والبازى

وقال شوقى على لسان ضرغام فى مسرحية عنترة الشعرية يصف عنترة:

اذا قال بذ القائلين حديثه وما بذه فى أيكة البيد قائل

وذات الميز بين البزاة والرخم نجده فى ثقافتنا السودانية وهو أبلغ الأدلة جميعا على كونه من ذات المشكاة. قالت القائلة تصف الممدوح :

خوجل يا صقر خلى الرخم قاعدين!

ذلك من القصيدة الشعبية : الما بقودو زمام جاموس الخلا ال للرجال كزام

زام وصدرو فيه كلام!

وخوجل أى أمش فى خيلاء الفارس الذى لا تشينه منقصة ومنها جاء اسم (خوجلى). تأمل قولها (خوجل يا صقر) فهو فى جسارة الصقر البازى يحق له التبختر فى خيلاء اذ لا تقعده دناءة الرخم عن ذلك.وكنت ابحث منذ بعض الوقت عن أصل الاسم العلم (خوجلى) ولعل أحدهم قال لى انه شيخ عارف قدم الى السودان من نواحى مراكش وباسمه تسمى الناس تبركا.

والحق أن الجسارة فضيلة تسمو على رزيلة الختل و الغدر والمراوغة ولكن التعدى على حقوق الغير المساوى لك فى القوة رزيلة أيضا لا تحلها القدرة على ذلك:

قالت أخرى:

ما بياكل الضعيف

وما بسولب المسكين الا شيمة الأسد أب قبضتن زين!

و(ما بسولب) أى لا يسلب المسكين حقه وهو تصحيف طفيف للكلمة الفصيحة “السلب” كما ترى أيمارى ممار فى انتساب هؤلاء للعرب؟! لكنه يأخذ عنوة من نظيره كما يفعل الأسد.

وهو نظير قول القائل:

أفاطم لو رأيت ببطن خبت وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا

اذن لرأيت ليثا أم ليثا هزبرا أغلبا لاقى هزبرا

كقولهم “حديد لاقى حديد!” تطابق عجيب فى الألفاظ وفى أغراض الشعر وفى الثقافة أيضا!

والصقر يتخذ شعارا للعديد من دول العالم فى الشرق والغرب باعتباره رمزا للقوة( أو همبول ان شئت هواب) فنحن مثلا اتخذنا( الطائر السكرتير) الذى نسميه (صقر الجديان) ونزعم أن بمقدوره التهام صغار( الجديان جمع جدى وهو ضرب من الغزلان) رمزا بديلا للكركدن أو الخرتيت أو وحيد القرن على أيام الرئيس نميرى. وفى العديد من الدول تميز الولايات والأقسام الادارية فى الدولة الواحدة بأنواع الطيور التى تتميز بها عن غيرها كأن نجعل مثلا طائر الهدهد رمزا للولاية الشمالية و(السمبر) لأخرى وهكذا. وكذلك لكل جهة وردة أو زهرة تميزها عن غيرها وفى ذلك فوائد تعلم الناشئة الارتباط بالبيئة والمحافظة على مخلوقاتها من الحيوان والنبات. وكان قد ثار جدل طريف قبل أعوام خلت فى الولايات المتحدة الأمريكية حول حكمة أن يرمز لها بالصقر الأصلع وهو طائر شرس خبيث ومعتدى بينما الذى يميزها أكثر هو ” التيركى” أو ما نرمز لذكره ب ” ديك الروم” ولا نعير أنثاه اعتبارا كأنه طائر من ذكور فقط!! والا كيف نسمى مطلق الطائر من هذا الجنس؟ لكن طائر الروم هذا طائر ضعيف تذبح الملايين منه كل عام قربانا وشكرا للرب على انعامه على الناس هناك بذلك الوطن الجميل فيما يسمونه ” عيد الشكر”. ذلك فوق أنه طائر مجهول الأصل فبينما نطلق عليه نحن ” ديك الروم” ننسبه الى أوروبا فانهم فى الشام ينسبونه الى الجزء الذى نعيش فيه من افريقيا فيسمونه ” ديك الحبش” وأوروبا والغرب يتبرأون منه فينسبونه الى تركيا ويذبحونه قيل انتقاما من غزوات العثمانين لبلادهم! لذلك فهو لا يصلح رمزا للقوة اللازمة لاخافة الأعداء.

والناس تكبر فضيلة التعفف عن المتاع الناتج عن صراع الأكفاء:

قال عنترة:

يخبرك من شهد الوقيعة أننى أغشى الوغى وأعف عند المغنم

وكان قد استشهد بها الأستاذ عبد الخالق محجوب فى مناسبة انمحت من الذاكرة ولعلها مناسبة فوزه على الأستاذ أحمد زين العابدين فى انتخابات عام 1968. ولعل الأخ الدكتور عبد الله على ابراهيم يذكرنا بذلك.

وقد عابوا على المتنبىء بمعيار الأخلاق تحريضه على العدوان فى قوله :

فما ينفع الأسد الحياء من الطوى ولا تتقى حتى تكون ضواريا

أى أن الحياء لا يجدى الأسود نفعا من لسعة الجوع اذا تخلت عن الصيد ولا يهابها الناس وأضرابها من الحيوان الا اذا دفعها ( القرم) دفعا بحثا عن الصيد.ومن مكارم الأخلاق مقارعة القوى لنظرائه فى القوة حيث لا يحمد صرع القوى للضعيف ولا يعد بطلا اذا صرعه. وفى غزوة بدر عندما خرج صناديد الأنصار لمبارزة صناديد قريش ايذانا ببدء المعركة كما جرت العادة فى ذلك الزمان. صاح عتبة : يا محمد نريد أكفاءنا من بنى عمنا. قال النبى : اخرج اليهم يا على وياحمزة والحارث بن عبد المطلب. أولئك نظراؤهم.

ساقتنى الى هذا الاستطراد كله , مراجعة فى سفر الراحل البروفسور عبد الله الطيب ” مع أبى الطيب” وفى الكتاب العظيم الفائدة الذى ينم عن دراية عجيبة فذة بفنون الشعر العربى مقارنات هى من قبيل المضاهاة بين البزاة والرخم!

يعقد عبد الله الطيب مقارنات مطولة بين أشعار أبى الطيب ومنافسيه وحاسديه فى نفس الوقت من أمثال أبى فراس الحمدانى. وهى مقارنات بالنسبة لذوى الباع القصير من أمثالنا كالمقارنة بين المعدن النفيس والمعدن النفيس لا نكاد نميز فيها بين بازى ورخمة فهى صالة عرض للنفائس النادرة.

قال أبو الطيب:

انا لفى زمن ترك القبيح به من أكثر الناس احسان واجمال

وأخذ أبو فراس من ذلك بيته:

صرنا نرى أن المتارك محسن وأن خليلا لا يضر وصول

قال عبد الله الطيب: ” قال أبو فراس فى رومياته:

أما لجميل عندكن ثواب وما لمسىء عندكن متاب

فسلخ من بائية أبى الطيب فى كافور:

منى كن لى أن البياض خضاب فيخفى بتبييض القرون شباب

ما شاء . ونبه الى بعض ذلك أبو منصور حيث قال يعلق على قول أبى فراس:

كذلك الوداد السحض لا يرتجى له ثواب ولا يخشى عليه عقاب

ومثله للمتنبىء:

وما أنا بالباغى على الحب رشوة ضعيف هوى يبغى عليه ثواب.

وسكت الثعالبى عن قول أبى فراس:

وليت الذى بينى وبينك عامر وبينى وبين العالمين خراب

اذا صح منك الود فالكل هين وكل الذى فوق التراب تراب

فلم يعلق عليه كعادته فى الاكتفاء بالتعريض اليسير على نحو الذى رأينا وقد سطا أبو فراس كما لا يخفى على قول أبى الطيب:

اذا نلت منك الود فالكل هين وكل الذى فوق التراب تراب .”

ويرى البروفسور عبد الله الطيب أن أبا فراس كان يحسد المتنبىء على مكانته من سيف الدولة ويؤكد أن المتنبىء قد عناه بالبيت المشهور عندما رماه سيف الدولة بالدواة حتى شجه:

ان كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح اذا أرضاكم ألم

وأضاف أنه قد عناه ايضا بقوله

بأى لفظ تقول الشعر زعنفة تجوز عندك لا عرب ولا عجم

وفى ذلك تعريض عنصرى بأبى فراس حيث أن أمه رومية أى أوروبية بلغة هذا العصر رغم أن أبى فراس من بنى حمدان من أبيه وتجمعه آصرة الدم بالأمير سيف الدولة.

ويعلل عبد الله الطيب مجاراة أبى فراس لأبى الطيب وحسده له قائلا:

” ونتساءل بعد لماذا كان يعمد أبى فراس الى مجاراة أبى الطيب ومباراته؟ وعن ذلك اجابات كثيرة. منها أنه مثلا كان فتى مغرورا يرى أن تسلم له امارة القلم كما أتيحت له امارة السيف وراثة لا كسبا. وهذا الداء فى بنى آدم كثير عسى أن يكون مصدره حب الكمال وكأن من يحسن شيئا واحدا يرى ذلك نقصا حتى يحسن كل شىء سواه. ولعل الأمراء الذين يتعاطون الأدب والفلسفة من أفعل الناس لهذا وقد يجيئون فى هذا الباب بالأوابد كالذى فعل المأمون على فضله من فتنة خلق القرآن حين حسب جهلا أن رجال الفكر من أمثال أحمد بن حنبل ينبغى أن يطيعوه فى الذى صار اليه من الآراء فى ميدان الفكر لأنه كان يعتقد أنه بحكم منصبه (كما نقول الآن) رجل الفكر الأول.”

ولا يستبعد عبد الله الطيب أن يكون سيف الدولة وراء قتل المتنبىء حيث كان لا يصبر على انقطاع المتنبىء عن مدحه. وقيل ان مقالة أبى الطيب فى مدح عضد الدولة قد نالت منه مقتلا:

وقد رأيت الملوك قاطبة وسرت حتى رأيت مولاها

قالوا علق سيف الولة حانقا ” ترى هل نحن فى الجملة؟” ويرى عبد الله الطيب أن أبا الطيب كان صادقا فى مدح كافور وأن مدحه اياه كان من أجود الشعر ومن ذلك قوله فيه

وكم لظلام الليل عندك من يد تخبر أن المانوية تكذب.

وقاك ردى الأعداء تسرى اليهم وزارك فيه ذو الدلال المحجب

والمانوية مذهب انتشر فى فارس قبل الاسلام يرى فى الليل والظلام الشر والشيطان.

وسواد لون كافور قد غيب عنه الأعداء فى ظلمة الليل فهو ليس شرا كما تدعى المانوية كما ان ظلمته تستر حسانا يزرنه! وحتى لا يظنن ظان أننا ننزل أبا فراس منزلة الرخم من البزاة فاننا نختتم هذه الاستراحة بابيات حزينة حسنة قالها وهو على فراش الموت:

بنيتى لا تجزعى كل الأنام الى ذهاب

نوحى على بحسرة من خلف سترك والحجاب

قولى اذا ناديتنى فعجزت عن رد الجواب

زين الشباب أبوفرا س لم يمتع بالشباب

والدنيا بخير والناس فى مأمن ان سلكوا طريقا وسطا بين جبروت البزاة ومخاتلة وخنوع الرخم .

وهذه دعوة لقراءة صامتة فى كتاب العلامة رحمه الله رحمة واسعة.

(نقلا عن يومية ” الرأى العام” السودانية)

تعليقات الفيسبوك