قلت مرة فى شرح المثل السودانى ” يشوف فى الفيل ويطعن فى ضلو (ظله)”: والفيل هو أضخم الثديات جسماً بحيث لايمكن أن تلتبس رؤيته على مبصر يريد التصدى له طعناً بالرماح أو بغيرها , إلا أن صعوبة مثل هذه المهمة قد تكون وبالاً على الفاعل وفيها هلاكه وقد يدفعه الحرص على الحياة إلى التعامى عن رؤية الفيل فيوسع ظله طعناً. ويقينى أن ما تبقى من بلادنا قد خلا من الأفيال إلا ما كان منها محبوساً قسراً للفرجة فى حدائق للحيوان إن وجدت فقدذهبت بذهاب الجنوب مع الكركدن (وحيد القرن) الذى كان شعاراً لهذا البلد قبل أن يحل محله الطائر السكرتير أو صقر الجديان فى عهد الراحل جعفر نميرى. وعليه لا أعرف كيف سيكون مصير هذا المثل المحبب للناس عند التقريع ووصف الجبناء المستأسدبن. والفيل قبل أن يستشرى التصحرفى بلادنا كان موجوداً حتى تخوم الكوة وبالقرب من مدنى ايضاً , حيا مروجها البهية الحيا, هناك فى”جزيرة الفيل”بلدة آل شقدى وبلدة أخينا السفيرالأستاذ عباس إبراهيم النور والبروفسور الزبير بشير طه. وقد أمضى فى ربوعها طرفاً من حياته الإمام عبد الرحمن المهدى. ولعل نجم فريق إتحاد مدنى محجوب الله جابو فى ستينيات القرن المنصرم منها أيضاً. وقد كانت ضاحية جميلة تتمدد على النيل الأزرق مسترخية خارج نطاق المدينة لكنها قد غدت اليوم بعضاً من أحيائها . وسمعت الدكتور جعفر ميرغنى مدير مركز حضارة السودان التابع لجامعة الخرطوم يتحدث عن آثار البجراوية وعن “كاتدرائية” كانت هناك لا يزال الأهالى يستخدمون ذات المصطلح للدلالة عليها وأن جامعة بداخلية بجوارها كانت هناك وساحة لتدريب الأفيال. ولعله قال – ولا أجزم بذلك- أن أفيال أبرهة الأشرم ربما دُربت هناك لهدم الكعبة المشرفة.هذا على إعتبار أن الحبشة تلك لم تكن سوى السودان. علق احد الظرفاء يومئذٍ :” بالله أبرهة دا خلونا منو.. كفانا الصحابى الجليل بلال بن رباح رضى الله عنه.” يدفع عن السودان والسودانيين سوأة أن يكونوا شركاء فى تلك الخطيئة التى أنزل الله فيها قرآناً يتلى على مر الزمان. أين الدكتور جعفر ميرغنى ومساهماته تلك فلطالما أملنا أن يكشف شفرة اللغة المروية فتنفتح أبواب على مصاريعها.
وبعد … فما نحن بصدده لا علاقة له بالأفيال ومصائرها فى السودان بل بشئ من قبيل الإنصراف عن المعتركات الحقيقية إلى ما هو أيسر منها شأناً كالعدول عن طعن الفيل إلىطعن ظله! فقد كتب البروفسور دانيال دريزنر, أستاذ السياسة الدولية بجامعة تافتس الأمريكية مقالة فى “نيويورك تايمز” بعنوان “لماذا يحب الرؤساء الشؤون الدولية؟” والكلمة الإنجليزية (لوف) تحتمل معنى” يفضلون ” أيضاً ولقد تحاشينا كلمة “يعشقون” لأن فى العِشق معنى المكابدة والضنك والصبابة!
قال المتنبئ فى الصبابة:
جهد الصبابة أن تكون كما أرى عين مسهدة وقلب يخفق
وقال فى العشق
وعزلت أهل العشق حتى ذقته فعجبت كيف يموت من لا يعشق
ذلك لأنى لا أحسب أن قلوب الساسة تتسع لذلك.
والمقصود بالرؤساء , رؤساء الولايات المتحدة وبالشؤون الدولية قضايا السياسة الخارجية المتعلقة بأمم وحضارات وشعوب أخرى خارج الولايات المتحدة. وقبل التفصيل نضع الأمر فى( كبسولة ) لمن كان فى عجلةمن أمره. يقول رغم أن 95 فى المائة من الناخبين الأمريكيين يعتبرون أن الإقتصاد وما يتعلق به من البطالة وغلاء الأسعار وإرتفاع أسعار الوقود والسكن هو الأهم بالنسبة إليهم, إلا أن تعقيدات السياسة الداخلية تغل أيادى الرؤساء عن تغييرات حقيقة فى الشأن الداخلى فينصرفون إلى الخارج : حضور قمم على شواطئ حالمة فى آسيا أو أوروبا أو بإستخدام القوة العسكرية بإشعال حرب فى مكان ما من العالم!
كيف؟ يقول إن خمسة بالمائة فقطمن الناخبين هم الذين يدلون باصواتهم فى الإنتخابات الرئاسية بناء على مواقف المرشحين من القضايا الدولية. ويقول إنه من ضمن أولئك وإنه قد تزيدفى هذه النسبة إذ أنها وتحرياً للدقة بين الثلاثةوالخمسة.ويقول مخاطباً ال95 % فى المائة الآخرين :إننا نحاول أن نسدى لكم معروفاً فلو أن نسبة معتبرة منكم أولت إهتمامها مثلنا للعلاقات الخارجية لأصبح رؤساؤنا أكثر حذراً وحيطة فى بذل الدماء والثروات الأمريكية رخيصة خارج الولايات المتحدة. أى لو كانت نسبة الناخبين الأمريكيينالمهتمين بسياسة البلاد الخارجية نسبة مقدرة تلعب دورها فيمن يفوز بالرئاسة , لفكر الرؤساء أكثرمن مرة قبل الدخول فى مغامرات عسكرية خارجية تبذل فيها المهج والأموال الأمريكية. يقول أيضاً: كثير من شركات سبر الآراء لا تعير كبير إهتمام للشؤون الخارجية حتى بمجرد سؤال الناخبين عنها لأنه من الواضح أن الأمر لا يثير إهتمام الناخبين وعندما يفعلون يبدى الناخب عدم إهتمام به ويؤكد أن المهم هو إصلاح الإقتصاد. يقول إن السياسيين على دراية بعدم إهتمام الناخب بهذه الشؤون الخارجية لذلك فهم لا يعيرونها إهتماماً أثناء حملاتهم الإنتخابية ما لميقع إعتداء على منشئات أمريكية أو تندلع حرب فى مكان ما من العالم.
ويقول فى مقدمة المقالة ساخراً إنه باسم الخمسة بالمائة الذين يدلون باصواتهم وفق رؤى المرشحين للقضايا الخارجية يعتذر لبقية الناخبين الذين يعتقدون خطأ أن هؤلاء الذين يشكلون فقط خمسة بالمائة هم الذين يتحكمون فى أولويات الرئيس لما يرون من نشاطه الجم خلال العامين الأولين من رئاسته فى الساحة الخارجية: مؤتمرات قمة وحروب بينما السبب الحقيقى لذلك ليس هو تاثير هذه النسبة المتدنية من الناخبين التى لا تكاد تبلغ الخمسة بالمائة بل لأن قضايا الإصلاح الداخلى عصية على الحلولبفعل المطبات التى يضعها الحزب المعارض فى الكونقرس لإفشال برامج الإصلاح الإقتصادى وغيرها من الهموم الداخلية فيتجه الرئيس إلى ساحة خاليةمن المطبات هى الساحة الخارجية. يقول إنحرب البلقان قد إستهلكت سنى إدارة كلينتون وأن جورج دبليو بوش قد شن حربين أثناء فترة رئاسته بينما أنفق أوباما وقتأً ثميناً لترميم وإصلاح السياسات الموضوعة لمناهضة الإرهابوتأكيد الوجود الأمريكى فى آسيا ومتابعة الحرب فى ليبيا وقتل بن لادن. يقول إن الجهاز التنفيذى يملك يدأً طولى فى مضمار السياسة الخارجية. صحيح أن الكونقرس ( الجهاز التشريعى) هو الذى يصادق على المعاهدات الخارجية وإعلان الحروب لكنه يتردد كثيراً فى لى ذراع الجهاز التنفيذى إذا أقدم الأخير على عمل خارجى باسم الأمن القومى للبلاد. ويضرب لذلك الأمثال بأن الرئيس السابق بوش تمكن من زيادة أعداد القوات الأمريكية فى العراق رغم شكوك معظم النواب فى غرفتى المجلس فى جدوى تلك الخطوة وأن الرئيس الحالى , أوباما قد استخدم القوة فى ليبيا دون مجرد إخطار الكونقرس. يقول إن هذه الإجراءات لم تحصل على دعم شعبى لكن الرؤساء تمكنوا من القيام بها.
ويشير الكاتب إلى أن الرؤساء لا يعمدون إلى ذلك عمداً لكن ماذكريعبر عن ضخامة الكوابح التى باتت تحد من قدرة الرئاسة الأمريكية الحديثة. فالقضايا الإقتصادية الهامة كالموازنة العامة والضرائب ليست صلاحيات رئاسية وإنما لابد أن يجيزها الكونقرس ولقد اصبح الكونقرس متصلباً أكثر مما كان عليه فى السابق. ففى الخمسينات أجاز الكونقرس أكثر من 800 قانون فى كل دورة من دوراته . اما بعد نهاية الحرب الباردة فقد تدنى ذلك الرقم إلى 400 وهو مرشح للتناقص عاماً بعد عام إعتماداً على الإحصائيات الخاصة بالكونقرس الحالى. ويشير إلى أن الحزب المعارض, أى الذى لا ينتم إليه الرئيس قد أصبح عقبة حقيقية فى وجه قرارات الرئيس للإعتبارات الحزبية البحتة التى لا علاقة لها بالصالح العام.
ويختتم المقالة بما يشبه الدعوة إلى الناخبين الأمريكيين أن أولوا إهتماماً أكبرللأمن القومى والسياسة الخارجية للمرشحين فربما دفع ذلك الرؤساء للحد من مغامراتهم الخارجية خوفاً من التبعات السياسية لتلك المغامرات فى الداخل. قال “ومن يدرى لعل ذلك يعيد تصويب إهتمامهم نحو مشكلات الوطن الداخلية.”
والمشكلات الداخلية هى بيت القصيد وهى التى تصوت من أجل حلها الغالبية الساحقة من الناخبين. هى الفيل إذن لكن الرؤساء يخيفهم الفيل فيجأوا ظله المسكين بلا طائل فتصيب الرماح بؤساء عبر البحار لا حول لهم ولا قوة.ولقد صدق طرفة بن العبد وهو يصف أمزجة الحكام وإختياراتهم القاتلة أحياناً وهو يروى شعراً عبث عمرو بن هند بالأرواح فى يوم بؤسه:
قسمت الدهر فى زمن رخى كذاك الحكم يقصد أو يجور
لنا يوم وللكروان يوم تطير البائسات ولا نطير!
فى الطعن فى ظلال الأفيال! ..
0